ملحمة جلجامش
المقصود بجلجامش هو ذلك النص الشعري الطويل المكتوب بالآكادية البابلية ، و موزع على إثني عشر لوحا فخاريا ، تروي الملحمة حياة و أعمال الملك جلجامش ملك أوروك بطريقة يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة .
و الملحمة من خلال إستدلالاتها المبطنة ، تروي أساطير ذكرت في معجزات لحقتها الكثير من الأقوام والأنبياء ، و تأثر بعض الأديان بهذه الحياة الفكرية الأسطورية .
وردت كلمة أساطير الأولين في القرآن الكريم 8 مرات ، و هذه إشارة واضحة جداً لأن ندرسَ أساطير الأوّلين بكل دقة للتمييز بين ما ورد فيها ، و بين حقائق القرآن الكريم ، و تصحيح المعلومات التي وَردت عبر الأساطير .
.
كان سرد الأساطير منذ القدم ضرورة حيوية للناس ، فقد ابتكر الإنسان القديم أساطيره لفهم الكثير من المعاني ، مثل الولادة و الموت وما بعد الموت و الخصْب و الأمومة … ، فأبطال الأساطير يقومون بأعمال خارقة ، و يحققون كل الرغبات و الأماني البشرية ، و يهزمون حتى الآلهة ،
والبشر في جميع الأزمنة وفي مختلف اماكن وجودهم ، يريدون أن يعرفوا سبب وجودهم و تفسيراً لتصرفات الطبيعة ، و كيْف يرتبط السـبب بالمسبّب .
وكما ذكرنا سابقا القرأن الكريم صحح جميع المعلومات التي وردت في الأساطير ، وعلى سبيل المثال ، قصة الطوفان التي ورد ذكرها في ملحمة جلجامش .
ورد الطوفان في الأساطير القديمة في ثلاث قصص بابلية ، الأولى بطلها أرهاسيس وتعود إلى 1650 قبل الميلاد ، و الثانية بطلها زيو سيدرا ، و الثالثة بطلها أوتنابشتم Utnapishtem ومعناه : البعيد و قدْ ذُكرت القصة الثالثة في ملحمة جلجامش Gilgamesh ، والقصص الثلاثة تحدثت عن شخص عادي قام بصنع سفينة .
كانت الآلهة قبل الإنسان تعمل لكسب قوتها ، و الكون مقسم بين هذه الآلهة ، وكان الإله أنليل يحكم الأرض ، و الإله أنكي يحكم العالم السفلي ، وكان سبعة آلهة يشكلون طبقة الحكام .
وقد تعبت الآلهة خاصة بعد أن حفرت نهري دجلة والفرات ، فقررت خلق من يعمل ليطعمها ، فخلق الإله أنكي الإنسان .
ولكن البشر تكاثروا على الأرض ، وكثر هياجهم وصخبهم ، فلم تستطع الآلهة النوم من ضوضاء البشر وضجيجهم ، فقررت القضاء عليهم ، فأرسلت مرض الطاعون لكنه لم يقضي على كل البشر ، فأرسلت الجفاف ، لكن إله المطر [ أدَد Adad ] قبِل رشوة منَ البشر فأرسل المطر .
وأخيراً اقترح الإله أنليل على الآلهة إرسال الطوفان ، و لكن الإله أنكي عارض الفكرة ، فأرسل الخبر سرا إلى أوتنابشْتم ونصحه ببناء السفينة لإنقاذ بعض البشر ، و أنزل الإله أدَدْ الأمطار ستة أيام متتالية ، وفي اليوم السابع خفّت الأمطار ، و استوت السفينة على جبل نصير ، وقد جاعت الآلهة في هذه المدة ، وعندما نزل أوتنابشتم من السفينة وضحى بأضحية ، اجتمعت الآلهة على الأُضحية مثل الذباب لشدة جوعها، و عندما وصل الإله أنليل وشاهد السفينة غضب غضبا شديدا ، لأن بعض البشر قد نجا من الطوفان .
أما معلومات القرآن الكريم فتختلف بشكل جذري عن هذه القصة ، فالقرآن الكريم يتحدث عن رسول كريم هو النبي نوح عليه السلام ، و يرد القرآن على هذه الأكاذيب الأسطورية ، التي تتحدث عن تعدد الآلهة ،
كما أن القرآن الكريم انتقد بشدة من يقول أن القرآن الكريم يُشابه أساطير الأولين ، مثال : ( إذا تُتلى عليه آيـاتُنـا قال : أساطيرُ الأوّلين )القلم 15 / المطفّفين 13 .
لقد كان لهذه الأساطير تأثير في الفكر الإنساني :
عيد النيروز :
هو اليوم الذي يُقال أن السفينة رست فيه على الجبل ، و يصادف تاريخ 21 آذار ، وقد جعلوه عيد الأم نسبة إلى الآلهة الأُم الكبرى عشـتار .
حمامة السلام :
دخلت فكرة حمامة السلام ، التي تحمل في منقارها غصن زيتون أخضر من أساطير الطوفان ، حيث أرسل ابتناشتم حمامة من السفينة ، فعادت في المساء وفي منقارها غصن زيتون أخضر ، فعلم أن اليابسة قد ظهرت من جديد ، و أول من رسم هذه الحمامة هو الرسام الشهير بابلو بيكاسو .
قوس قزح :
مع أن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلّم يقول : [ لا تقولـنّ قوسُ قُـزَح ، و لكنْ قولوا : قوسَ الله ] رواه ابن الجوزي 1 / 213 ، لكن بقيت تستخدم قوس قزح وكأنها تعترف بإله آخر هو قُزَحْ = إله الصواعق والرعد ] ، والله يقول : ( و لا تجْعلْ مع الله إلـهً آخـر ، فتُلْقى في جهنّم ملومـاً مدحوراً ) الإسراء 39 .
تقول الأساطير البابلية : علقت آلهة اللذة عشتار قوسها الثمين الملون على السماء ، ليكون ميثاقاً مع البشر أن لا يعودَ الطوفان ثانيَة ، و في [ سفْر التكوين 9 / 12 ] نجد : [ و قال الله : هذه علامة الميثاق الذي أنـا أضعهُ بيني و بينكُم … وضعْتُ قوسي في السَحَاب … فيكون متى أنْشُـرُ سـحاباً ، أنّي أذْكُرُ ميثاقي ، فلا تكونُ المياه طوفاناً ] ، و الله سبحانه يقول : ( و مَـا كانَ ربّـك نسـيّاً ) مريم 64
جلجامش :
هو الذي رأى كل شيء فغنى بذكره يا بلادي وهو الذي رأى جميع الأشياء وأفاد من عبرها وهو الحكيم العارف بكل شيء .
أبصر الأسرار وكشف الخفايا ، وجاء بأنباء ما قبل الطوفان ، حتى كأنك ترى الملحمة قصة مقدسة او رسالة سماوية يصبح فيها اتنابشتم منقذ البشرية من الطوفان بدلا عن النبي نوح عليه السلام .
بعد موت انكيدو قرر جلجامش البحث عن الخلود وسر مقاومة الموت ، قرر ان يقوم برحلة للبحث عن اتنابشتم ، فيلتقي به ، ويحدثه اتنابشتم عن فيضان عظيم سوف يحدث وقد علم بخطة وضعتها الآلهة لإحداث هذا الفيضان ، فشيد سفينة وضع فيها جميع مقتنياته الثمينة، وعائلته وأقاربه، ومختلف الحيوانات الأليفة والبرية من كل نوع.
ودام الفيضان ستة أيام، وراح ضحيته بقيه أبناء الجنس البشري بالكامل إلا اتنابشتم ومَن معه، حيث حطوا على جبل يسمى جبل نموش، ومن هناك أرسل حمامة وسنونو للبحث عن اليابسة، إلا أنهما لم يعثرا على أرض يستريحا عليها ورجعا إلى اتنابشتم، فأطلق غراباً طار في السماء ولم يعد، فاستدل اتنابشتم من ذلك على أن الغراب وجد اليابسة وأن المياه بدأت تنحسر :
وعندما حل اليوم السابع،
أتيت بحمامة وأطلقتها.
طارت الحمامة بعيداً ثم عادت إلي،
لم تجد مستقراً فعادت.
ثم أتيت بسنونو واطلقته،
طار السنونو بعيداً ثم عاد إلي.
لم يجد مستقراً فعاد.
أتيت بغراب وأطلقته.
طار الغراب بعيداً. فلما رأى الماء الماء قد انحسر،
حام وحط وأكل، ولم يعد.”
دائما تصلنا أن منبت وأصل العديد من الأساطير هي حقائق مطلقة ، فجلجامش ، ملحمة شعرية، فكرية، فلسفية وإنسانية ، تعبّر عن روح عصر ذلك الزمن بكل الهواجس والآمال والأحلام وتعبر عن الوجه الحضاري والإنساني الذي وصل إليه إنسان ذلك العصر وعن الرسالة التي تخرجها هذه الحضارة للعالم.
اتنابشتيم بطل اسطورة الطوفان البابلية، الذي حمل في سفينته من كل زوجين من الحيوانات اثنين وأهله فأنقذ الحياة على الأرض من الدمار الشامل الذي احدثه الطوفان العظيم. وقد أنعم عليه الآلهة بالخلود مع زوجته وأسكنوه في جزيرة نائية تقع خلف بحار الموت جزاء له .
“ان هدف الحياة ومعناها قائم فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، والتي نعمى عنها حين يداهمنا رعب الموت فنسعى لإطالة حياة لا ندري ماذا نفعل بها”
و هذه الملحمة الفريدة التي تجاوزت بيئتها ، و ترجمت الى أكثر من لغة تضع السؤال الأصعب في تاريخ البشر ، ألا وهو سر الحياة ولغز الموت :
“من ترى يا صديقي يرقى إلى السماء
الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض
وقبض الريح كل ما يفعلون”
بعد وفاة أنكيدو يخاف جلجامش من الموت لينطلق في رحلة بحث عن معنى الوجود ومسألة الحياة والموت والخلود .
فهل قهر الموت جلجامش ، أو أن الخوف من الموت قهره !؟
“انتابني هلع الموت حتى همت في البراري
يثقل صدري خطب اخي
مالي من هدأة ومالي من سكون
فصديقي الي أحببت صار إلى التراب
وأنا أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبدا”
“أواه يا أتنابشتيم. ماذا أفعل؟ أين أسير؟…
لقد تسلل البلى إلى أطرافي…
وسكنت المنية حجرة نومي…
وحيثما قلبت وجهي أجد الموت”
فيقص عليه أوتنابشتيم قصته المشابهة تماما لقصة سيدنا نوح والطوفان مع بعض الإختلاف ، بأن الالهة قررت أن ترسل طوفان للقضاء على الحياة على الأرض ولكن الإله “إيا” جاء في حلم أتنابشتيم وطلب منه أن يبني سفينة ويحمل عليها زوج من كل شيء حي، فيبنيها، ويخبر الناس بإنه ينتقل إلى عالم المياه السفلى ويحمل أقاربه وزوج من كل نوع من الحيوانات بالإضافة إلى أصحاب الحرف المختلفة من نجار ونحات وكتاب.. إلخ ويحدث الطوفان وينجو ركاب السفينة فقط ، وعندما تعلم الآلهة تمنحه الخلود كمكافأة على إنقاذ الحياة …وأسكنوه في جزيرة نائية تقع خلف بحار الموت جزاء له .
إنها رحلة تمزج الواقع بالأسطورة ، لتروي لنا قصة جلجامش الملك “الذي رأى كل شيء” ومغامراته مع صديقه إنكيدو، ثم بحثه عن الخلود ومعنى الحياة في الرحلة التي اجتازها عبر جبال ماشو و بحار الموت ليلتقي بسيدوري وأوتنابشتيم ويصل إلى تفسير اللغز بأبسط أشكاله ،
حقيقة رحلة الخلود التي مضى فيها جلجامش وما الذي توصل إليه وكيف غيرته من حاكم مستبد عنجهي الى حاكم خلد حب شعبه له .
“أتدري يا أورشنابي
إن الإنسان مفضل على الآلهة؟
مفضل لأنه يموت,
لأن عليه أن يفعل الكثير
قبل أن يمضي.
لقد حكم عليه بالامتحان الكبير
وعليه أن يتعلم كيف يعيش,
وعليه أيضاُ أن يتعلم كيف يموت.”
أن الأدب هو دليل تفوقنا البشري ، دليل على أنه يمكن أن نتجاوز كل الاختلافات فيما بيننا ، ونصنع أعمال تتجاوز طبيعتنا الضيقة ، فالسبب الذي دفع ملحمة جلجامش وملاحم هوميروس بالصمود ، رغم أنها كتبت في بيئة معينة وتناولت أفكاراُ دينية معينة عن الآلهة والطبيعة تختلف بشكل جذري مع رؤانا في الوقت الحاضر ، هو مخاطبة الإنسان في كل زمن وزمان بعيدا عن لونه وجنسه وعرقه .
“إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
فالآلهة لما خلقت البشر,
جعلت الموت لهم نصيباُ,
وحبست في أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش, فاملأ بطنك.
فرخ ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداُ
ارقص لاهياُ في الليل وفي النهار.
اخطر بثياب نظيفة زاهية.
إغسل رأسك وتحمم بالمياه.
دلل صغيرك الممسك بيدك.
واسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر في هذه الحياة.”
شخصيات عديدة ذكرت في هذه الملحمة ، لعبت كل منها دوراً وكان لها هدف وغاية في إتمام تلك الملحمة لتخرج بهذه الروعة.
ولعل الدافع الحقيقي لم يكن البحث عن الخلود ، بل البحث عن معنى الحياة والغاية فيها ، لأن الخوف من الموت شرط لحب الحياة ، ففي كل مرحلة من مراحل رحلته ، كان جلجامش يتلقى درسا في معنى الحياة والموت .
تغريد بو مرعي