الحبّ رؤية واكتمال
مادونا عسكر/ لبنان
من أقوال الحلّاج الدّالة على عمق رؤاه القلبيّة قوله: “ما رأيت شيئًا إلَّا ورأيت الله فيه”. وما هذه الرّؤية إلّا بلوغ الحلّاج ذروة اللّقاء بالمحبوب الإلهيّ، بل ذروة الامتزاج بالكائن الخارج عن الزّمن والمتجذّر في عمق أعماق الحلاج في آن معاً. وبعيداً عن نظريّة الحلول والاتّحاد، يحملنا الفعل (رأيتُ) إلى المعنى الإنسانيّ المرتبط بالحبّ الأسمى. فعندما يقول الحلّاج “ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله فيه” فهو يمزج المعنى الحسّي للفعل (رأى) بالمعنى القلبيّ. ويأتي المزج نتيجة لفعل الحبّ المتفجّر من داخل الحلّاج إلى الخارج.
الحبّ في أصله لا أصل له، فهو أشبه بمسّ يأتينا من خارج الكون، وللمحبّين المتفاعلين مع هذا الحبّ إشراقاتهم الخاصّة وتجربتهم الخاصّة. ولا يمكن قياس حبّهم على العاطفة الّتي يشعر بها كلّ إنسان. فالعاطفة شعور متناقض وقد يضعف ويقوى وقد يشتعل ويخمد. إنّه ما يُظنّ أنّه الحبّ. والعاطفة انجذاب محدود بالزّمان والمكان والأشخاص، وأمّا الحبّ فهو انجذاب كونيّ يتخطّى الزّمان والمكان والحدود فيلغي المسافة والوقت. وإذا ما انجذب المحبّ رمى بنفسه كما ترمي الفراشة بنفسها في نور المصباح حتّى تحترق. وما حال رؤية الحلّاج لله في كلّ شيء إلّا ارتمائه في هذا الحبّ حدّ الاحتراق بنوره فما عاد يرى في ما يرى إلّا هذا النّور. وتبدو لنا هذه الرّؤية جليّة في قصيدة الحلّاج “والله ما طلعت شمس ولا غربت”، إذ يعاين الحلّاج هذا الحبّ في حركة الكون بشكل عام:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
يحيا المحبّ في حركة الكون الدّائريّة من طلوع الشّمس إلى غروبها بهذا الحبّ المقرون بأنفاسه. فإذا انقطع انقطعت الحياة. وهنا تأخذ الحياة بعدها الآخر والأعمق من حركة التّنفّس، إنّها حياة المحبّ الممتزجة بالحبّ الأصل. فلا تعود هذه الحياة تعني له شيئاً بحكم الانجذاب العشقيّ، ولا يرى منها حركتها إلّا ضمن هذا الانجذاب. فمن وجهة نظر المحبّ ليس من حياة وليس من عالم وليس من حركة، كلّ ما يراه ويعاينه هو الحبّ. وكلّ ما يقوله ويفعله ويسعى إليه هو الحبّ. وإذ يقول:
ولا جلست إلى قوم أحدّثهم
إلّا وأنت حديثي بين جلّاسي
فلا يريد بقوله فعل التّبشير وإنّما هي اللّغة الّتي تتحوّل من لغة باهتة إلى لغة تقاوم عجزها في التّعبير عن احتراق العاشق. لذلك يستحيل الحديث تلقائيّاً وبديهيّاً عن المحبوب كفعل حبّ يفوق قدرة إنسانيّة المحبّ على تحمّل هذا الاحتراق العشقيّ. فثمّة من اشتعلت النّار في كيانه فرمته أرضاً.
إنّ المحبّ يتحرّك باتّجاه المحبوب الجاذب بقوّة، والمضيّ إليه صعب، ومعرفة السّبيل أشدّ صعوبة، ويمسي الهدف الوحيد الإتيان إليه بأيّة وسيلة ممكنة.
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ
ويخرج المحبّ عن السّياق العام، والسّلوك العام سواء أكان سلوكاً اجتماعيّاً أم دينيّاً، ويتفلّت من الأطر المقيّدة لهذا الحبّ فيتخطّى ذاته والمجتمع والدّين والكون بأسره ليتحرّر وينصهر بالحبّ. فالنّظام الدّينيّ تحديداً لا يُرضي طموح المحبّ ولا يشفي غليله ولا يخمد ناره. بمعنى آخر، لا يكون الحبّ حبّاً إلّا إذا انطلق حرّاً ومتحرّراً من أيّ تفصيل وأي نظام. فليس من نظام خاصّ يعتمده المحبّ وإلّا لأحبّ جميع النّاس بذات الطّريقة. الدّين بشكله الظّاهريّ مرحلة يمرّ بها الإنسان حتّى يبلغ مقام المحبّ؛ لذلك يقول الحلّاج نفسه: “كفرت بدين الله والكفر واجب عليّ وعند المسلمين قبيح”، وكأنّي بالحلّاج يفصل بينه وبين المسلمين، بين ما هو واجبه وما هو واجبهم. والمعنى في هذه الجملة دقيق جدّاً ولا بدّ من تبيّنه بما يتناسب ورؤية الحلّاج. فلقد جاءت الأحكام الشّرعيّة بالتّحذير من التّسرّع في إطلاق الكفر على المسلم. ولقد جاء عن الرّسول محمّد (ومن رمى مسلماً بكفر فهو كقتله) وفي الآية الكريمة: “يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا” (النساء:94) دعوة إلى عدم التّسرّع في إطلاق الكفر. ومن أسباب الكفر الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، ما لم نقرأه أبداً عند الحلّاج. بل إنّ الحلّاج منجذب بقوّة إلى الله وهو المتحدّث عن الحقيقة المحمّديّة، وبالتّالي فالمعنى الّذي أراده الحلّاج بقوله (كفرت بدين الله) لا يتناسب ومعنى الكفر. كما أنّه لم يقل إنّ الكفر واجب على المسلمين، بل واجب عليه وهذا لشأن خاصّ به، نتج عن الانجذاب العشقيّ الخارج عن إرادة الحلّاج. إلّا أنّ هذا الكفر بدين الله ليس واجباً على المسلمين، فالحلّاج لا يسعى إلى محاربة الدّين، كما أنّه ليس موضوعه. وإنّما أتى معنى الكفر الواجب على الحلّاج في سياق الغوص عميقاً في العشق الإلهيّ. من هنا لا أهمّيّة لما يحكم به النّاس فدين الحلّاج هو الحبّ ودين النّاس للنّاس.
ما لي وللنّاس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين النّاس للنّاسِ
ولعلّ هذا البيت يتقابل مع بيت محيي الدّين بن عربي:
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني
دين الشّيخ الأكبر هو الحبّ ودين الحلّاج هو الحبّ، فالمحبّون الظّامئون إذا ما جذبهم الحبّ الأسمى حلّقوا في سماوات أخرى غير تلك الّتي يتمسّك بها العاطفيّون.