هل سيحافظ البشر على المكتسبات ” الانسانية” بعد انتهاء الحجر ؟
تزداد توقعات “عالم ما بعد كورونا” لكنّنا لم ننته بعدُ من هذا الفيروس الذي فعل بِنَا ما لم تقدر عليه حربان عالميتان، جعلنا ندرك هشاشتنا في عالم يتبجح بالتطور العلمي والتقني والنووي ، ذكّرنا بأننا لسنا سادة العالم ولا سادة الطبيعة ولا حتى سادة أنفسنا، فُضحنا بِضعفنا ثم فجأةً ، فقدنا السيطرة على كل شيء.
كشف ” كوفيد ١٩” عن نقاط ضعفٍ في الإستجابة العالمية، فدخل نصف سكان العالم عزلة إرادية بسبب الخوف والهلع ، حجروا على أنفسهم طواعية وهم واقعون بين سنديان الخوف من الإصابة بالوباء وبين مطرقة التدهور الذي حلّ بمداخيلهم المادية والإقتصادية.
غيرت جرثومة صغيرة ملامح وجه العالم الى الأبد، توقفت دورة الحياة المعهودة، أُغلقت الحدود بين البلدان بُغية إبطاء وتيرة انتقال الوباء ثم دخلت الإنسانية جمعاء في سباق ضد الزمن مع فيروس ضئيل لا يُرى بالعين المجردة ، خلال أيام قليلة، استطاعت هذه الجرثومة الصغيرةأان تسلب من البشر حق “الإستمتاع بالحياة” ، فرضت عليهم التخلى عن أبسط العادات اليومية وتحكمت في مصائرهم، في علاقاتهم، في أموالهم، في وظائفهم ناهيك عن إصابتهم بالأمراض النفسية.
وما زالت المخاوف كبيرة من حدوث موجة ثانية للجائحة لهذا تسعى البلدان والحكومات حول العالم إلى وضع خطط ٍوتدابير متعددة من أجل الرفع المتدرج للحجر الصحي وفرض قيود أخف على الناس.
فما الذي استفاده البشر من الحجر الصحي فكريا وسلوكيا ؟
من البديهي أن أنماطا سلوكية ونفسية تتولد أثناءَ وبعدَ وقوع الكوارث والاوبئة ، فيبدأ الانسان في حالة الضرر النفسي والجسدي بالتفكير في أسئلة عميقة عن الموت والحياة حسب اعتقاداته وديانته وقناعاته وقد يستسلم للتغيير بسهولة ويتفاعل اكثر مع المستجدات من أجل البقاء على قيد الحياة.
لقد ظهرت خطابات جديدة، عادت مصطلحات وكلمات -كانت موضوعة على الرفّ- لتصخب بها حياة الناس ويومياتهم كمصطلح الحجر أو الكمامة أو الجائحة ؛ مصطلحات غيرتِ المواقف والسلوكيات العامة للناس.
تساوى البشر أمام الجائحة بل وتوحّدوا ضد الإنقسامات السياسية والعقائدية والإجتماعية وتعزز الوعي الجماعي القائم على التفكير في الآخر، في صحته والحفاظ على حياته ، والاهم من هذا وذاك أنّ انعكاسات هذا الوباء على الصعيدين الفردي والاجتماعي هو ما تعلمته البشرية من هذا الوباء.
وتجب الإشارة إلى أنّ المجتمعات الإسلامية باعتبارها مجتمعات تؤمن بالغيبيات في تسيير حياتها ستصبح لديها حتما ” أزمة شك” في سلوكياتها اليومية وستجد نفسها مرغمة على مراجعة نفسها فيما يخص العادات الاجتماعية والثراتيات الثقافية حفاظاً على حياتها وعلى حياة الآخرين بل وقد تصبح لديها قابلية لاحترام التباعد الاجتماعي و التقليل من المصافحة والعناق لأن خط الدفاع الوحيد ضد الفيروس إلى يومنا هو تجنب الناس وبالتالي العمل على اكتساب مهارات وسلوكيات جديدة في التعامل اليومي مع الآخر وجعلها مستدامة لا تبنّيها فقط في سياق وبائي.
وكما هو معروف، فأصل الجائحة لُخّص في سلوكيات غذائية خاطئة، ومن هذا المنظور، شهدنا تغيراً ملحوظا في العادات الغذائية لأن الطعام ونوعيته ، يعكس وعي الفرد وثقافته بل وأسباب سلامته وصحته.
لقد اصيب الناس بالذعر إثر الإعلان عن الجائحة فسارعوا إلى تخزين السلع في البيت وهذا دليل على ارتباط الحياة بالاكل، فالجوع خوف يتحكم في سلوكيات البشر وتخزين الطعام يُشعره بالأمان والبقاء على قيد الحياة وهو تصرف طبيعي غير أن حملات التوعية تضاعفت كي يستوعب الناس بأن ارتفاع الأسعار خلال ظروف الوباء قد يصبح نتيجة حتمية للتسوق المبالغ فيه وبذلك يُحرم أصحاب الدخل الضعيف من بعض المواد الغذائية لارتفاع اسعارها .
ورأينا تدخلا ممنهجاً وتوْعويا من طرف الحكومات والمؤسسات حفاظا على الأسعار وحفاظا على القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود كما وان “التفكير في الآخر” اصبح هاجسا وسلوكا “طبيعيا” لدى الفرد.
على ان أهم نقطة في السلوكيات الغذائية خلال الازمة هي عودة الناس الى الطبخ المنزلي والصحي الذي عرفت به المجتمعات قبل اجتياح مطاعم الاكلات السريعة الضارة في غالبيتها وعودة الموائد الاسرية التي كان يفتقدها الفرد خلال سعيه اليومي المضغوط من اجل لقمة العيش بل واكتساب عادات جديدة كالتعقيم الصحيح والنظافة اليومية والحتمية للسلع والمواد الغذائية في إطار الوقاية من الفيروس.
ولا ننسى أبدا أنّ الحجر الصحي ساعد على التحام الأسر من جديد فاجتمع الآباء بأبنائهم بعد ان كانت البيوت مهجورة وأصبحت الأوقات ممتلئة بحضور أُسري “طبيعي” رغم كون الحجر الصحي أو العزل الإجتماعي والمشاكل المادية والاقتصادية الناتجة عنه قد تؤدي عند البعض إلى تفاقم الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب والخوف من المجهول وإنْ كان التواصل عبر الإنترنت قد خفف من عزلة الناس ووحدتهم وأصبح بديلا في التقارب الاجتماعي.
والسؤال المطروح هو :
هل سيحافظ البشر على هذه المكتسبات “الانسانية” ما بعد الحجر ؟
لقد كانت هذه الجائحة سببا في تبني سلوك أكثر مسؤولية اجتماعيا لكن المصالحة مع البيئة أمر بات في غاية الأهمية ولهذا فمن الأجدر بنا أن نتعلم قواعد التعامل مع الطبيعة .
أجل، لقد حصلت طفرة تكنولوجية واسعة في هذا القرن لكن وللأسف لم يوازيها أي تطور فيما يخص علاقتنا بالبيئة ذلك أننا فقدنا القدرة على التحاور معها بسبب الأنانية، فهل سنستمع اليوم للإنذارات المتعلقة بتغير مناخ الأرض ؟ وهل وبنفس التصميم الذي نسعى به من أجل صحتنا سنعمل ايضا من أجل صحة الأرض؟
إننا لا نعلم اليوم إلى أي مدى سيستقر وباء الفيروس التاجي بيننا ، لكننا يجب فعلا أن نتعلم من دروسه وأن نتبنى انماط حياة وسلوكيات جديدة للتعامل مع بعضنا البعض وهذا وحده كفيل بأن يجعلنا ننظر إلى الوباء على انه امتحان للمجتمعات البشرية، ونطالعه بنظرة إيجابية رغم الخسارات في الأرواح ورغم الآثار النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأن نستخلص بأن الأزمات والأوبئة دوافع متينة تؤدي لتحولات مهمة وعميقة لمجتمعاتنا أهمها زيادة الوعي الجماعي والتركيز على الإنسان والإنسانية.
ياسمينة حسيبي