ليث العبدويس
عاقرتُ الكُتُبَ مُعاقرة المُدمنين لأُبر السُموم او كؤوسَ المُدام التي تقتلعهم اقتلاعاً من عالمهم المحسوس، وتُحلّق بهم بأجنحة الوهم والنشوة مُنسلخةً بهم من ضيق الواقع الفَجّ الى رحابة خيالٍ جميلٍ زائف، أوليس كُلُّ جميلٍ في هذه الدُنيا ينطوي على شيءٍ من الزيف؟
ألا تُغتالُ كُل شَهَقاتُ فَرحِنا سريعاً حين يشدو في الأنحاءِ وَجَعُ نايٍ حزين؟ ما الذي تُثيرُهُ فينا تِلكَ الخَشَبَةُ الصَمّاءُ؟ غريبٌ هو الألم، فرُغمَ اجتهادنا المُستميتِ في دفعِهِ يبقى على الدوام عَصيّاً على الإزالة.
أوليستْ كُلُّ لذّةٍ تحدوها شَقوة وكُلُّ تبسّمٍ يَسير يَعقُبُهُ وُجوم وَعُبوسٌ طويل؟ ألمْ يعجز المَعرّي عن تَبيُّن مغزى الحمائم من الهديل وَعلّق الإجابة على فرع ذلك الغُصن الميّاد مُغلقةً بعلامة استفهام عمياء؟
أليس (ماكس شيلر) هو من قَطَع بأن الألم يظلّ يلاحقُ كلّ من يهربُ منه في حين نَزوغُ اللذّة من كلّ من يُطاردها؟
حسناً، لِم لا نُطارِد الألم لِنحظى ببعض اللذّة، او لِنقُل: لِنهرُب من شيءٍ من الآمِنا المؤبّدة؟ لماذا نحنُ دائِماً لا نَجِدُ ذواتنا السعيدةَ إلّا في نقائِض عيشِنا الرتيب؟
كانت حسناءُ ويلز وسليلة البِلاط الحاكِمِ الأميرة الفاتِنة ديانا تَفُرُّ هارِبةً من البروتوكول المَلَكي والإتكيت الدبلوماسي والبريستيج الاجتماعي وكُل القُيود التي ترزح مُرغَمةً تحتَ وَطأة أثقالها الى أدغال أفريقيا، شَقراءُ سَحقوا عظامها في نفق الموتِ مع حبيبها العربي القسمات والدِماء، افتقدتْ الأثارة والمغزى والهدف من حياتِها الرتيبة لِتجدها بعيداً عن مدينة الضباب والشُحوبِ والمَطَرِ في إطعامِ طِفلٍ أفريقيّ مُصابٍ بالملاريا بأناملها المَخمَليّة.
وهكذا، ومن فرط جوعي للمعرفة، وشغفي بمجاهيل الحياة، صِرتُ كديدان المكتبات القديمة، بل لعلّي أقولُ وأفصحُ بصريح العبارة ومؤتمن الكلمة: من شِدّة حَسدي المَرَضي لأولئك المتنعمين ببركات المعرفة، الرافلين بحرير العلوم وعِزّ الآداب وبَذّخِ الثقافة، ممن يتجاذبني فيهم وعنهم مَقتٌ وَحَسَد، ولئن كان الشُعور الأول سوداوياً وضيعاً فاني أجدُ لهُ مُسوغاً في انكفاء هؤلاء يَلهونَ على أراجيح من حِبرٍ كحِبري وصحائِف بيضٍ كصحائِفي، بيدَ أنها أقامتْ لَهُم أبراجاً عاجيّةً من الظُهور والشُهرة لمْ تضني عَليّ بها دواتي وأوراقي –على كُثرة ما اعتصرتُهُ وغزارةَ
ما انتجتُه- ورُحتُ ارقُبُهُم من طَرفٍ خَفيّ مُنغمساً وبتمهلٍ تدريجي يُشبهُ الاستسلام الطوعي لغوصٍ مُميتٍ في بِركة رملٍ مُتحرّكٍ لِطقس هو أقرب الى التعبّدِ والتبتُّلِ والانقطاع.
أجل، حَسدتُهُم (الخطيئةُ السادِسة بعد الألف من موبِقاتي اللامعدودة) يومَ كُنتُ أرقُبُهم في محافِلِهم وقد شَملتهُم نَظراتُ الأعجاب والإطراء وأحاطت بهم عِباراتُ المَديحِ والثَناء واستدارَ حولهم المُريدونَ استدارة العُقدِ المتينِ على الجيد اللُجين او السوارِ بالمِعصَمِ اللَدين، يرتَدون حِلَلَهم الثَمينة واربِطة عُنُقِهم الحريريّة وساعاتِ يَدٍ بِماركاتٍ شَهيرة، يُسارِعون الى اصطِناع تِلكَ الابتساماتِ مع كُلّ عاصِفة اضواءٍ تُمطِرُها بهم عدساتُ التصوير، ويتلمظونَ بِلؤمٍ مع كُلّ رَشفةِ ماءٍ يُبلّلونَ بها حناجِرَهم المُجهدة من فرط التعليق
والنِقاش والجَدَل.
واهتَديتُ لِحقيقةٍ مفادُها أن العجرَفة نفسها لها اسلوبها الفاتن الساحِر، فحتّى خادِم المبادئ والقيمِ الشريفة –ان وُجِد- فلا غُنى لهُ عن مَسحَةٍ من غُرورٍ وكِبْرٍ يصنَعُ بها تِلك الهالةَ من التأثيرِ والإيحاءِ والحُضور، عجرَفةٌ في لَيّ عُنُقِ الكَلمة وعجرَفةً في وَقفات التقاط الأنفاسِ، عجرَفةً في بريقِ تلكَ العُجمة القائِمة على دحرَجة مُصطلحٍ او مُصطلحين مُستورَدينِ من الانجليزية او الفرنسية بين ثنايا الكلامِ والجُمَلِ كألقاء قنابُل الدُخان لِتمريرِ هَرَجٍ ما، بحيثُ لا يَملِكُ العامّة عَنها مَندوحَةً سوى الاستحسان العَميق والتَصفيق
الصَفيق لِرطنَةٍ غَريبةٍ نَشَزتْ بين حُطام عَربيّة كَسيحة أثبَتَ المُثقّف الفُلاني أنه بها عندَ حُسن ظَن جمهورِه به.
ورويداً رويداً، خلقَ هَذياني المَحمومُ من طواحينِ الهواء خُصوماً لا تُرتجى مُهادَنَتُهم، تماماً كالدون (كيشوت دي لامانتشا) في صراعه العابث مع كائناتٍ تفتّقَ عنها فكرُهُ العَليل، فما فَتِئتُ أهُذُّ المؤلّفات بِصارِمِ نَهَمي هَذّاً، فلا يبرأ لِوقع سيوفي جِراح، ولا يُرتجى لِطعاني من شِفاء، أنكَبُّ على الكتاب انكباب الضواري على فرائِسِها، فلا أُغادرهُ إلا بعد أن امتصصتُ نُسغَهُ وأطرتُ حلاوته واستهلكتُ مادته، وقَدْ حُقَّ لي أن أُفاخِرَ بأن نديمي هو خيرُ جليسٍ في زمني الرمادي المُجدِب، بل في كُلّ الأزمنة على اختلاف ألوانِها.
أُطارِدُ الوريقة والقَصاصة مُطاردتي للمُعجم والمصدر، اتعقّبُ الشارِدَ والوارِدَ من الغَثّ والسَمينِ دونما نظرٍ في جِنسِهِ أو صِنفِه مادام محسوباً على عالم الوَرَقِ المُلطّخِ بِمِداد المَعرِفة.
مُقبِلٌ كالولهانِ على الاستزادةِ من معينِ العلومِ دونَ تدقيقٍ في روافدِ تِلكَ المناهِلِ، أَصَدَرتْ من عينٍ حَمِأةٍ أم من فُراتٍ سائِغٍ شَرابُهُ، فَلطالما شَرِبتُ على القَذى وأنا الذي لم تصفُ مشارِبُه، ولم يعنيني كثيراً بادئ ذي بِدءٍ سلسَبيلُ النَبعِ أو مِلحُهُ الأُجاج مادامتْ قرائِحي لم ترتوي بعدُ وما دامَ حَريقُ عطشي مُتأجّجاً من هواجِرِ الجَهالةِ، هكذا أُسميها أو على هذا النحو دارتْ بِخُلدي، وويلٌ لكتابٍ تعثّر بِهِ حظُّهُ النكدُ ببابِ عَريني!
ولا زلتُ كذلك حتى ظننتُ أني قد استغلظتُ فاستويتُ عوداً واستقويتُ قوساً واشتددتُ ساعِداً، فقرّرتُ اجتيازَ القُنطرة التي تَفصِلُ ما بين عالمي وذلك العالَم الآخر الذي لطالما حَلِمتُ أن أكون يوماً من مواطِنيه، عامِلاً بِنُصح أحد “المُثقّفين” الذين سبقوني فـي اكتسابِ صِفة المواطَنة القَطعيّة من الدرجة الأولى.
أسرّها ليَ بِنفس الَعجرَفة المُعتادةِ والنبرةِ المُتعالية في جَلسَةٍ حمراء من تلكَ الأُمسيات اللواتي كانتْ تبتَزُّ معاشي وتستَنزِفُ ميزانيتي لكنّي كُنتُ أراها البوابةَ التي سألجُ من خلالِها يوماً الى مملَكة القَلم الذَهبي والشُهرة العريضة.
ومُنذُ تِلكَ الليلة الحَمراء (ويا لها من بِدايةٍ مُبارَكة) صِرتُ “أنا” الذي تقرئون اليوم، والطُيورُ على اشكالِها تَقِعُ، مُحارِباً للدين وللخُلُقِ المتين، مُروجاً للرَخيص والمُنحطّ والدون، ضارِباُ عَرَضَ الحائِط كُل المُتعارَفَ عليه والمُسلّم به، تَشكُّكياُ تخرُّصياً فضائِحيّاً لا تعرِفُ سِهامُ نقدي مُحرّماً او (تابلوهاً) الّا وتطايرتْ عليهِ نَقداً وتجريحاً، تعريضاً وتصريحاً، أتبنى الشواذّ من الآراء والأفكار والمفاهيم والعناوين والمواضيع.
مَطيتي اليكم كُل غُرابٍ غريبٍ نافرٍ ناشِز، أطليهِ بِطَلَلِ البَديع ودِهانٍ بألوان الربيعِ حتى يغدو فاتِناً اخّاذاً، حتى اذا ما التقمتُمُ الطُعم وصدقتُمُ الوَهم كَبُرتُ أنا في ضمائِرِكُمُ التي لا أملِكُ عليها من سُلطانٍ سوى مُداعبة غرائِزِكُم وما يشتهيه فيكم وحشُ نزواتِكُم، ولأني لا أفتري شيئاً عليكم، انظروا الساعة في المرآة، أترون انعكاس صورتي فيكُم؟