حسان الحديثي
هل ستكتمل اسس وقواعد الأديب وادواته بلا قراءة لتاريخ آداب لغته؟
وهل سيتمكن الأديب والشاعر من الإبداع والإبتكار والخلق بغير فهمٍ لتراثه الأدبي والشعري؟.
هل سيكون بمقدور الأديب التجديد في فن دون العودة الى اصول هذا الفن والوقوف على ما حدث فيه من متغيرات وفهم اسباب حدوثها؟
تأريخ آداب الامم هو ليس تسلسلا للمحطات الزمنية التي مرت بها آداب الامة فقط، بل هو ايضا فهم للتطور الذي مر به هذا العلم؛ مسيرته ومتغيراته وانحرافاته.
وهو ليس عملية سرد متسلسلة لأحداث حَسَبَ ازمانها وحَسْب، بل هو فهم لقواعد الأدب وما جرى عليها من تعديل وتصويب وما انشق وتفرع منها لتكوين اصول جديدة مارّاً بكل ذلك حتى يصل الى الزمن الذي فيه الاديب.
وسوف يكون أدب الأديب ناقصاً ما لم يكن على علم بالازمان التي سبقته، لأن تأريخ الأدب جزء من مفهوم وحدة الأدب الكلية، لأجل ذلك كانت كل أمة من الأمم تحمل تاريخ آدابها وفنونها على محمل عال من الجد والاهتمام ليكون هذا التاريخ احد دروس معاهدها واكاديمياتها التي تُدرِّس هذا الفن او ذلك الأدب، وليكون ايضاً جزءاً من تأريخها الذي يمثل تراثها وارثها الثقافي بصورة عامة.
وقد اهتمت الاكاديميات العربية -كشأن قريناتها في العالم- بتاريخ الأدب العربي كأحد الدروس التي يستقي منها طلابُها تاريخَ آدابهم؛ شعراً ونثراً ونقداً وما طرأ على تلك الفنون من تجديد وما وضع لها من قواعد للنقد والتصويب علما ان هذه الفنون الأدبية علوم حية متجددة قابلة للتطور والاضافة وليس كما يتصورها بعضنا انها علوم ثابتة جامدة لا تجديد فيها ولا تحديث.
لأجل ذلك وُضعت في ذلك مؤلفات تصنف الآداب الى ثلاثة اصناف:
فمنها ما كُتب برؤية عامة للأدب العربي وتاريخه بدراسات غير ممنهجة وحسب ما ارتأه صاحبها بالتبويب وطريقة السرد، ككتاب الأمالي لابي علي القالي، وأدب الكاتب لابن فتيبة، والكامل في اللغة والأدب للمبرد وغيرها الكثير بل وحتى كتاب البيان والتبيين للجاحظ الذي اصبح كتاباً اكاديما لم يكن كذلك في اصلة عند وضعه وتأليفه.
وهذه الكتب حفظت كُتّابا وشعراء ونصوصاً أدبية -شعراً ونثراًـ في زمن الكاتب وفي الأزمان التي سبقته وحظيت باهتمام ودراسة وتحليل ومقارنات وكل ذلك وُضِع لاحقاً تحت باب علم “النقد” الذي تطور لاحقاً واصبح علماً قائماً بذاته له ابداعه ومبدعوه.
ومنها ما وُضع كمصنفات للشعراء أو تبويب للشعر ككتاب طبقات الشعراء لابن المعتز العباسي وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحى وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القُرَشِيّ، ومختارات شعراء العرب لأبي السعادات بن الشجريّ ودواوين الحماسة لابي تمام والبحتري وغيرهما.
والثالث ما وضع في الاصل كمنهج تعليمي على وجه الخصوص وهو ما استخدمه اصحابه في التأديب(١) كـ “كتاب المفضليات” للمفضل الضبي وقد كان اسمه في الأصل “كتاب الاختيارات” والذي وضعه الضبي كمنهج دراسي لتأديب وتعليم الامير المهدي “الخليفة لاحقاً” حين كان ولياً للعهد بامر من ابيه ابي جعفر المنصور، وهذا الكتاب هو أول كتاب أدبي اكاديمي وضع للدرس والتعليم.
ويعد كتاب المفضليات بانه ذو اهمية كبيرة في تاريخ الأدب العربي وقد وصفه الدكتور العلامة شوقي ضيف قائلا: ولو لم يصلنا من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعة الموثقة “يقصد قصائد المفضليات” لأمكن وصف تقاليده وصفا دقيقا؛ فقد مثلت جوانب الحياة الجاهلية ودارت مع الأيام والأحداث. وعلاقات القبائل بعضها ببعض وبملوك الحيرة والغساسنة، وانطبعت في كثير منها البيئة الجغرافية. وقد جاء فيها كثير من الكلمات المندثرة التي لم ترد في المعاجم اللغوية على كثرة الألفاظ المهجورة، مما يرفع الثقة بها ويؤكدها
كما وصفه علي الجندي في كتابه تأريخ الأدب الجاهلي قائلا: وقد لَقيَت المفضليات اهتمامًا كبيرًا من العلماء والأدباء والباحثين في شتى العصور، فكانت له شهرة عظيمة في الأوساط الأدبية والعلمية، وقام بدراستها كثير من الأدباء العرب والمستشرقين، ومن أهم شروحها شرح ابن الأنباري كما شرحها المرزوقي والتبريزي
أما في المتأخرين فقد وضعت عدة كتب منهجية في دراسة تأريخ الأدب العربي منها كتاب تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي وكتاب تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ثم كتاب تاريخ الأدب العربي بعشرة اجزاء لشوقي ضيف أما آخرها فهو كتاب الجامع في تاريخ الادب العربي والذي صدر عام ١٩٨٦ لـ “حنا الفاخوري”.
وبالعودة الى تأثير تأريخ الأدب العربي في ابداع الأديب أقول: كيف سيستطيع شاعر ان يشبّه معنى شعرياً عن الحب العذري وهو لم يقرأ تاريخ بني عذرة وشعرائهم وعشاقهم؟
كيف سيفهم لغة الخطاب بين الناس ثم يستخدمها ويطورها بما يناسب عصره وحاله، وكيف سيشير الى وقائع واحداث ومعارك في شعره ان لم يكن على معرفة ببعض أيام العرب وغزواتهم وتحالفاتهم وعداواتهم، كيف سيفهم كثيراً من اشعار العرب التي قيلت في علاقات العرب ببعضهم ان لم يفقه شيئاً عن قبائل العرب وبطونها وعمومتها وخؤلاتها.
فلولا علم احمد شوقي بتاريخ الأدب العربي ما كان ليستطيع ان يكتب مسرحية رائعة كعنترة ابن شداد او مجنون ليلى، ولو لم يقرأ الجواهري تاريخ الأدب العربي لما اتيح له ان يضمّن ويشير في كثير من محطات شعره الابداعية الى شواهد تاريخية كذلك غيرهم من الادباء والشعراء ممن كتب ويكتب في هذا الباب وهذا الفن.
ولولا تاريخ الادب العربي لذهبت مفردات اللغة واندثرت ولغاب تلاقح الصور والمعاني لينتج هذا التلاقح صوراً ومعاني جديدة حافظت على استمرارية الشعر بل حافظت على استمرارية الابداع في الشعر العربي.
وانا هنا لا اقول ان الشاعر لن يستطيع ان يكتب شعراً والناثر لن يقدر على البيان ان لم يطلعا على تاريخ الادب، ولا اجعل ذلك شرطا للكتابة ولكني اقول ان الاديب سيكون ضيّق النظرة محدود القاموس قصير الرؤية في استقاء واستدعاء المعلومة التاريخية هذا من حيث المعنى وسيكون ايضاً مرتبك اللفظ مضطرب البناء بلا عمق ادبي لانه لم يطلع على الكم الهائل من تجارب الشعراء وبلاغة الخطباء الذين سبقوه ويكون بذلك قد خسر تجاربهم في تجويد وتحسين نتاجه الأدبي واكتمال ذلك ذلك باكتمال القراءة والاطلاع ثم الفهم لهذا الارث العظيم.
لاجل ذلك اجد ان لا مناص من تعديل الطرائق التي يسير عليها كثير ممن يكتب الشعر والنثر في عالمنا الادبي ولا سبيل الى ذلك الا بالعودة والاطلاع على ارثنا الادبي والوقوف عليه وتفحص محطاته ومتغيراته لفهم هذه اللغة ثموفهم ادابها.
ان اصل اللغة هو الافهام وليس الإبهام ولا الإيهام والشعر هو الابن الجميل والمدلل لهذه اللغة وما يفعله كثير ممن يكتب الشعر بلغة غامضة بتجميع مفردات متباعدة في المعاني الى بعضها هو عزل هذا الابن عن امه بفجاجة وفضاضة غير مبررتين، وهو ايضاً نوع من الضياع والتشتت، وان والاستمرار فيه هو ايغال في الضياع والاستمرار في السير في الطريق المنحرف هو زيادة في الانحراف وابتعاد عن الطريق السوي واول فعل في طريق العودة الى الطريق الصحيح هو فهم امر مهم وهو أن لكل شيء أولا في هذا العالم حتى في الادب؛
فالايجاز اول البلاغة، والإفهام اول البيان، واللفظ اول الفصاحة، والنحو اول اللغة، والخيال اول الشعر، وهذه كلها أول الأدب ولن نستطيع ان نفقه الادب من اخره ولا مناص من قراءة اوله لفهم تسلسل خطواته حتى اخره ولكل شي قواعد واسس ولا ادب بلا فهم قواعد واسس الادب.
وتاريخ الأدب قاعدته التي عليها يقف واساسه الذي عليه يُبنى.
.
١- الأَدَبُ: الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس سُمِّيَ أَدَباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إِلى الـمَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابِح (لسان العرب)