الدكتور زاحم محمد الشهيلي
ان الخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة التي تكبدتها دول العالم في الشرق والغرب بسبب الحروب المدمرة التي نشبت في القرون الماضية، نتيجة للسياسات الخاطئة والتهور في اتخاذ القرارات المصيرية من قبل بعض قادة الدول العظمى لرسم خارطة العلاقات الدولية والمصالح الاقتصادية على المستوى المحلي والاقليمي والدولي والقاري حسب أهوائهم، افرزت مجموعة من الضروريات لمعالجة تلك الظاهرة، ومنها انشاء مراكز للبحوث الإستراتيجية – المسماة بـ “المطبخ السياسي” – يقودها مختصون على مستوى عال في الفقه السياسي والاقتصادي لوضع دراسات وستراتيجيات يستند عليها صناع القرار السياسي والاقتصادي في الدول حين رسم السياسات العامة واتخاذ القرارات المصيرية.
ووفقا لهذا المنظور، تاسست آلاف المراكز البحثية الكبيرة في امريكا خاصة، وبريطانيا والمانيا وفرنسا واليابان والصين وروسيا وغيرها من الدول، التي نراها متقدمة اليوم، يقع على عاتقها تمويل مؤسسات صنع القرار السياسي بالافكار والمقترحات الصائبة بعد تدقيق وتمحيص للمعلومات، والتي بنت عليها هذه الدول علاقاتها الاقليمية والدولية في المجالات الاكثر حساسية، والتي تحدد مصلحة الدولة العليا ومدى الفائدة منها على المستوى القريب والمتوسط والبعيد.
ولذلك نرى عدم حدوث أي تغيير جذري في الخط العام لسياسة تلك الدول حين يتغير النظام السياسي الحاكم أو الحزب الحاكم، ولم تحدث ردة فعل عكسية مدمرة تأتي على المنظومة الاساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والامنية المكونة لهيكلية الدولة، لقناعة الجميع بالتداول السلمي للسلطة واحقية كل واحد منهم بالوصول اليها، وتكون السياسة الجديدة مكملة لسياسة الحكومة التي سبقتها في اطار مشاريع عمل معدة سلفا من قبل المراكز البحثية والهيئات الاستشارية ذات الاختصاص، وعليه تتغير نبرة المرشحين في الدعاية الانتخابية بعد استلامهم للحكم.
وهكذا اصبحت الحكومات المتعاقبة في هذه الدول تقف على ارض صلبة في اتخاذ القرارات، واستطاعت ان تنجز حضارة ضخمة في وقت قصير، وان تجد مصادر متعددة لتمويل اقتصادها، بالاضافة الى هيمنتها على صناعة السياسة الدولية وتوجيهها حسب مصالحها الاقليمية والدولية، بحيث حيدت وحجمت في آن واحد نشاط كل من يدعي صناعة القرار السياسي في محيطه الخاص والعام في الدول النامية ليكون تابعاً لها ومستهلكاً لسياستها.
اما في دول الشرق الاوسط، المسماة بالدول النامية، خاصة الدول العربية وبعض الدول الاسلامية، فيعتمد في صناعة القرار واتخاذه على شخص واحد فقط، الذي يتراس السلطة التنفيذية في الدولة، والذي اما ان يكون رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء او الملك، معتمداً “ربما” على بعض المستشارين غير المؤهلين مهنياً في كثير من الاحيان لإسداء المشورة له في هذا المجال، والتي يجب ان تكون نابعة عن دراية ودراسة حقيقية ومعمقة في اطار الاختصاص البحت، دون الرجوع الى فقهاء الفكر السياسي والاقتصادي والعسكري والامني والثقافي والاجتماعي، حيث يسمى ذلك من قبل تلك الحكومات في الشرق الاوسط بـ “الترف الاكاديمي”، لكي يبقى صاحب القرار العالم الاوحد في كل شيء، والنتيجة انهيار كل شيء في نهاية المطاف، نتيجة للسياسات والقرارات العشوائية الخاطئة.
لذلك فان عدم الاهتمام بإنشاء مراكز للبحوث الإستراتيجية في الشرق الاوسط جعل السياسات والقرارات المتخذة والدساتير والقوانين المشرعة يكتنفها الغموض وقابلة للتأويل في أحيان كثيرة، لانها لا تستند في طبيعة الحال على ارض صلبة في وضع وتنفيذ الرؤى المستقبلية لسياسة الحكومة في مجال العلاقات الاقليمية والدولية ونوع التحالفات والبناء الاقتصادي والثقافي والاجتماعي المؤسساتي.
وبناءً عليه، يرى الكثيرون على المستوى السياسي والشعبي في الدول النامية ان فقدان رأس السلطة، حتى ولو كان دكتاتوريا فاسداً وغير قادر على ادارة امور الرعية، سيؤدي الى خلق فراغ سياسي وفوضى عارمة، لعدم توفر البديل الجاهز فقهيا، والذي ربما سيكون أكثر سوءاً من سابقيه إذا ما توفرت له الفرصة في قيادة الدولة.
والسبب واضح تماماً، وهو غياب الرؤية الصحية في قيادة الدولة المستندة على فكر مراكز الأبحاث الإستراتيجية التي من واجبها رسم السياسات العامة والمستقبلية للدولة بمنعزل عن نوع النظام السياسي والرغبات الشخصية لقادة الاحزاب والكتل السياسية، والتي يجب أن يلجأ اليها صناع القرار في ادارة دفة الحكم وتوجيه مسيرة الدولة في علاقاتها الداخلية والخارجية على كافة المستويات الاقليمية والدولية والقارية. وهنا يكمن سر نجاح الدول وتقدمها حضارياً في جميع المجالات دون غيرها.