الدكتور زاحم محمد الشهيلي – الشمري
استغل قادة الثورة الصناعية في أوروبا الافكار الحية لحركة التنوير الغربية في القرن الثامن عشر وحولوها الى اجندات اقتصادية يعود ريعها لمجموعة من الاشخاص المتنفذين من خلال خصخصة المشاريع والمؤسسات الاقتصادية تحت مسمى الرأسمالية العالمية، التي اخذت تحقق انجازات عظيمة في مجال التطور السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
وبهذه الطريقة سيطرت الرأسمالية العالمية على منظومة راس المال العالمي والتصنيع العسكري الحربي وهيمنت على مطبخ صناعة القرار السياسي في الغرب بما يتلائم وتحقيق مصالحها، والتي نتج عنها قيام الحربين العالميتين الاولى والثانية التي قضت مضاجع الدول في الشرق والغرب وحصدت ارواح الملايين من البشر في كافة قارات العالم وخلفت وراءها ملايين المعاقين نفسيا وجسديا.
بلغت العولمة ذروتها في السيطرة على راس المال العالمي في الالفية الثانية وبداية الالفية الثالثة بعد ان حيدت النظام الاقتصادي الاشتراكي المنافس لها، لتتكدس ثروات العالم المالية في جيوب عدد من اصحاب المؤسسات المالية والشركات متعددة الجنسيات التي اضحت تتحكم بمصير العالم بالشكل الذي يحقق مصالحها ويزيد من ثرواتها. وبذلك هيمنت الامبراطورية الراسمالية المجرمة على صناعة القرار السياسي العالمي في قيام الحروب وتقويض فرص السلام.
وبسبب عدم تحديث انظمتها الاقتصادية بما يتلائم وروح العصر، تعرضت الراسمالية العالمية الى هزات عديدة هددت كيانها العالمي من ابرزها الازمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام ٢٠٠٨، حيث تحولت العديد من مؤسسات القطاع الخاص المالية في الغرب من مؤسسات مدينة الى مؤسسات مدانة ومهددة بالافلاس .
ان الجري السريع وراء جمع الثروة بطريقة غير مشروعة من خلال ادامة الصراعات العالمية وخلق الازمات انسى الرأسماليين تحديث انظمة الراسمالية العالمية بالشكل الذي يضمن ديموتها ومواكبتها للعصر، فدق لديها ناقوس خطر الانهيار، مما جعل بعض الدول الغربية تتدخل لانقاذ بعض المؤسسات المالية وانتشالها من هاوية الانهيار والافلاس كما حدث في المانيا… حيث تعد هذه المساهمة اعترافا خجولا بكهولة الانظمة الراسمالية وباهمية النظام الاشتراكي المركزي الذي لا يخدم مصلحة الراسمالية المتسلطة.
ورغم جراحات الازمة المالية العالمية العميقة لم تستسلم الامبراطورية الراسمالية او تحدث من انظمتها خدمة للصالح العام، وانما ذهبت الى ادامة الصراعات في الشرق الاوسط لتستنزف اموال الدول النفطية الغنية من خلال بيع الاسلحة والمعدات والاليات الحربية والسيطرة على رؤس الاموال وحركتها، ناهيك عن تهرب الشركات العالمية من دفع الضرائب في بلدانها الاصلية ونقل معاملها الى الدول التي تكون فيها كلفة الانتاج منخفضة، الامر الذي ادى الى شحة في مصادر تمويل ميزانيات كثير من الدول الغربية التي تعاني الان من صعوبة في مواجهة الهجرة الاجنبية القادمة من خارج القارة الباردة.
ان هذا التصرف ادى بالنتيجة الى هبوب رياح الفساد التي بدأت تعصف في جسد المجتمعات الغربية الغنية سابقا، الامر الذي ادى الى ظهور حواضن للفساد في هذه المجتمعات ذات مصير واحد. وبذلك تحولت الرأسمالية العالمية الى امبراطورية للفساد حيث وصل الفساد الى الموظف الكبير والصغير الذي اصبح يتقبل الرشوة ويعمل بـ “الاسود” بطريقة وباخرى.
اذا، اصبحت هناك حواضن للفساد العالمي وصار السياسيون واصحاب القرار قادة لامبراطورية الفساد العالمية بعد ان تم تجنيدهم بطرق مختلفة سواء خلال اداءهم للخدمة او بعد الخروج منها وامتلاكهم للنفوذ، حيث امسوا شركاء في مؤسسات مالية او اصحاب لشركات ومستشارين متنفذين، الامر الذي جعل الديمقراطيات في العالم مهددة بالانهيار نتيجة لصعود الانتهازيين واصحاب الشركات ورؤس الاموال الى سدة الحكم خاصة في الدول التي تتحكم في مصائر البلدان والشعوب في العالم .
واصبحت البلدان الصغيرة الغنية بمواردها الطبيعية تدفع فاتورة الفساد (خاوة) للدول الكبيرة، خاصة الغربية منها، التي سمحت وساعدت على ان يعتلي منابرهذه الدول ثلة من الفاسدين لتبدأ رحلة الإنحراف الاخلاقي والفساد الاداري المتمثل بغسيل الاموال التي استنزفت روح ومقدرات الشعوب النامية وذهبت بها باتجاه تعزيز ميزانيات المؤسسات العالمية التي اضحت تسترزق من هؤلاء الاقزام.
وهذا الامر جعل المؤسسات العالمية والشركات لا تجني الارباح من خلال العمل وزيادة الانتاج وتحسين نوعيته، وانما من خلال خلق الصراعات وادامتها التي تشجع على بيع وشراء صفقات الاسلحة الضخمة، حيث شجع ذلك ايضا على استشراء الرشا وتهريب البترول وسرقة الاثار وغسيل الاموال، وبذلك نمت امبراطورية الفساد العالمية في حضن دافيء وصار لها كيانا دوليا، حيث اضحت تهدد بانهيار المنظومة الاقتصادية العالمية برمتها.
والمشكلة هنا، ان امبراطورية الفساد هذه أمست لا تستطيع التراجع عن نهجها او تصحح من مسارها الاقتصادي غير الشرعي الذي يدر عليها بالاموال دون عناء، وذلك بسبب أن المنظومة الاقتصادية العالمية قد تغيرت كثيرا من منظومة قائمة على القانون والاخلاق العامة والجودة في العمل والانتاج الى منظومة فساد ممنهج شملت المنظمات الدولية ايضا وتحولت الى سوق لبيع وشراء ذمم الكثير من الدول في اتخاذ القرارات والمواقف تجاه القضايا العالمية المصيرية التي تهدد مستقبل الشعوب.
ونتيجة لذلك اضحى الفاسدون والمجرمون محميون من قبل مؤسسات عالمية ارتبطت مصالحها بفساد هؤلاء الذي تمثل بغسيل الاموال وتبذير موارد الدول الغنية بالبترول. وعليه امسى مصير العالم مهدد بالانهيار ومستقبله مجهول وغير واضح المعالم.
لذلك يجب على كل شريف في العالم ان يعي هذه الحقيقة ويثقف باتجاه الاعتدال والعودة الى الاخلاق العامة والقانون والعمل من اجل مصلحة الجميع ونبذ ثقافة الفساد المحلي والعالمي التي ادمت العالم السعيد وشجعت نزعة الارهاب العالمي والتطرف الديني والعرقي ووضعت الشعوب على سكة الحرب النووية العالمية التي اذا ما اندلعت ستكون كوارثها عظيمة ونتائجها وخيمة.