حسان الحديثي
قال اهلُ المعرفة إن للأدب مقامات وللحديثِ مناسبات وقد نصوا على أن للشعر مواضع لا يصلح فيها غيرُه من فروعِ الأدبِ من الخطبِ والرسائلِ بل هو يفضلهما.
وذكر ابو الهلال العسكري وهو يعد هذه المواضع فقال: ومن ذلك ان صاحب الرياسة والأبهة لو خطبَ بذكرِ عشيقِ له ووصفَ وجدَه به وحنينَه اليه وشهرتَه في حبِه وبكاه من اجلِه لاستُهجنَ منه ذلك وتنقصَ به فيه ولو قال شعراً لكان حسنا.
وينبغي على الكاتب ان يراعي حال من يكتب اليه فيكون الحديث متناسباً مع مقامه وظرفه زمانه ومكانه وينبغي ذلك حتى في الدعاء ، ومن مليح ما يَذْكرُ في هذا الخصوص في كتابه “فن الصناعتين” ما أورده عن الرسائل واختيار الفاظها ومفرداتها فيقول : وينبغي ان يكون الدُعاء على حسب ما تُوجبه الحالُ بينك وبين من تكتب اليه ، فقد كتب بعضُهم الى حبيبةٍ له فقال: عَصَمنا اللهُ وإياكِ مما نَكْره ، فكتبت له : يا غليظ الطبعِ لو استجيبتْ دعوتك لم نلتق أبدا.
من حسن البيان ما روي في وصايا لقمان لابنه انه قال : يا بني؛ إن غُلبت على الكلام فلا تُغلبْ على الصمت ، فكن على أن تسمعَ أحرصَ منك على إن تقول فإني ندمتُ على الكلامِ مراراً ولم أندمْ على السكوتِ مرةً واحدة.
وهذا من حسن الكلام ورائق القول ، ولقد حسن وراق هذا القول لأمرين؛ حكمتِه البالغةِ وعفويتِة البائنةِ ، والعفويةُ طبعُ وصناعةُ ،
فأما الطبع فيتأتى مما يُرسله العقل فيجري على لسان المتكلم من دون سابق إعداد وآنف تحضير .
وأما الصناعة فتتأتى من واسع دراية في الكلام وطويل عهد بالكتابة.
وكلا الحالين “الطبع والصناعة” لا يتمان ولا يتيسران للكاتب والخطيب حتى يحيطَ بمفردات اللغة وتصريفاتها ودلالاتها وكناياتها فيكون له قاموس مليء يميل اليه إن الجأته الكتابة والقول وفاجأته الحالة والضرورة ليلتقط منه المناسب من الكلمات والملائم من المفردات ليتم به الحديث بما يناسب المقام والحدث فينطلق بها اللسان ويجري بها القلم كلاهما على حد سواء هذا بالقول وهذا بالحبر.
ومن عجيب الأحوال وغريب المواقف أن يَطلبَ الخطيبُ الكلام وهو على المنبر فلا يجدُه ويبتغي المعنى وهو في حاله تلك فيعسرُ عليه ، فيُلجؤه ذلك الى تعليل عسرِ المقالة وإنحباس الكلام فينطلق اللسانُ بالتعليل وكأنه لم يحبس للتو عن أصل الكلام.
ومن ذلك ما كان مع خالد بن عبد الله القسريّ حين ارتقى منبرَ الكوفة فأراد أن يقولَ فحُبسَ ولم يستطعْ فسكت قليلا ثم قال:
إن هذا الكلام يجيء أحياناً ويعزب أحياناً، ويسهلُ عند مجيئه، ويعسرُ عند عزوبِه طلبُه، وربما طُلب فأبى وكُوبر فعصى ، فالتأنّي لمجيئِهِ أيسرُ من التعاطي لأبيّهِ وهو يخلجُ من الجريء جنانَه، وينقطعُ من الذّرِبِ لسانه، فلا ينظرُه القولُ إذا اتسع، ولا يكسرُه النطقُ إذا امتنع، وسأعود فأقول إن شاء الله ، ونزل من المنبر
(والعزوب هو المجانبة والتباعد ، وخَلَجَ اي تحرّك واضطرب ، و رجل ذَرِِبٌ اي فصيح اللسان)
فكان في تعليله لعزوب الكلام خطيباً ، وفي شرحه لهروب البيان عالماً ، وفي نزوله واعتذاره عما المَّ به ذكياً وعارفاً
وذكر الجاحظ في البيان والتبيين عن بزرجمهر بن البختكان الفارسي -وكان وزيراً لكسرى أنوشيروان- قولَه حين سُئل:
أي شيء أستر للِعي؟
فقال : عقلٌ يُجمّله
قالوا: فإن لم يكن له عقل
قال : فمالٌ يسترُه
قالوا: فإن لم يكن له مال
قال: فإخوان يعبرون عنه
قالوا: فإن لم يكن له إخوانٌ يعبرون عنه
قال: فيكون ذا صمت
قالوا: فان لم يكن ذا صمت
قال : فموت خير له من ان يكون في دار الحياة
وكتب مصطفى صادق الرافعي -وهو ملك البيان- فقال في وحي القبور: أما -والله- إنه ليس أعجب من السخرية بهذه الدنيا من أن يعطى الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحدًا منهم لا يملك منها شيئًا، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السكين القاطعة.
ولنا ان نتأمل في قوله : “يعطى الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحدًا منهم لا يملك منها شيئًا”
ولبشار بن برد في هذا المقام بيت ركيك المبنى جميل المعنى يقول فيه:
وعِيُّ الفعَالِ كَعِيّ المَقالِ … وفي الصَّمْت عِيّ كَعيِّ الكَلِمْ
وقد كرر مفردة “عي” اربع مرات في بيت واحد، وهذا من العي.
والعِيُّ هو الجهل ، وهو داء والسُّؤَالُ هو الدواء والشِفَاء