ثائر العذاري: الشاعرة تحاول تقمص تجربة شخصية امرأة مغتربة، والفلسفة التي تقوم عليها تلك التجربة تتلخص بكلمة واحدة هي ‘العجز’.
بقلم: أحمد فضل شبلول
على الرغم من طباعة كتابين للشاعرة العراقية خالدة خليل في القاهرة، وهما: ديوان “شرنقة الحمى”، ورواية “أشرعة الهراء” فإنني لم أجد ناقدا مصريا واحدا تناول أيا من العملين، ولو بكلمة قصيرة، الأمر الذي أحزنني وأنا أطالع ما كتب عنها وعن أعمالها الشعرية والنثرية في كتاب “اخضرار النص في مواسم الكلام – قراءات في إبداع خالدة خليل” الذي أعده وقدمه د. خليل شكري هياس وصدر في اربيل عاصمة أقليم كردستان العراق 2016.
وتساءلتُ أين يكمن الخطأ، هل في دار النشر التي نشرت العملين وهي مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة، ولم تسوق لهما في مصر؟ أم في النقاد الذين لم يتابعوا الأعمال الإبداعية الجديدة والجادة، أم في الشاعرة نفسها التي لم تهدِ أعمالها للنقاد المصريين، أم في المناخ الثقافي نفسه؟
أتذكر أن عددا من النقاد المصريين بشَّروا وكتبوا عن الكثير من الأدباء العرب الذين صاروا أعلاما بعد ذلك، وعلى سبيل المثال قدم الناقد رجاء النقاش الكاتب السوداني الطيب صالح والشاعر الفلسطيني محمود درويش. كما أتذكر أن شاعر تونس العظيم أبوالقاسم الشابي انطلقت شهرته وذاع صيته من القاهرة، بعد أن نشرت له مجلة “أبولو” عددا من قصائده، وكذلك عُرف الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في القاهرة وصدرت عن أعماله كتب عدة قبل أن يعرفه العالم العربي. واختارت الشاعرة الرائدة نازك الملائكة أن تكون القاهرة مسك ختام رحلتها في الأدب والحياة (2007)، وفي القاهرة أصدرت مجموعتها القصصية “الشمس التي وراء القمة” عام 1997.
وفي الوقت الذي كان فيه الشاعر محمد الفيتوري ينتسب إلى ثلاث جنسيات (سوداني مصري ليبي)، كانت القاهرة سبب شهرته وطبع فيها أشهر أعماله الشعرية مثل “أغاني أفريقيا”، و”عاشق من أفريقيا”، و”اذكريني يا أفريقيا” وغيرها.
أما خالدة خليل – التي تعد حاليا أطروحتها للدكتوراه بعنوان “المفارقة في الشعر الحديث – سركون بولص أنموذجا” – فقد أصدرت أربعة كتب حتى الآن، فبالإضافة إلى كتابيها السالف ذكرهما، أصدرت كتاب “تفكيك النص مقاربات دلالية في نصوص منتخبة” 2011، وديوان “توهجات رماد” 2013، فضلا عن مشاركتها في عدد من الكتب، وحصولها على عدد من الجوائز في العراق ومصر ولبنان، وكتبتْ مقدمات عدة كتب، وحضرت العديد من المؤتمرات والملتقيات داخل العراق وخارجه، وسميت الدورة السادسة للإبداع الشعري في مهرجان فاس الدولي في المغرب لعام 2016 باسمها.
وأعتقد أن خالدة خليل تعد الآن واحدة من أهم المبدعات العراقيات، فبعد جيل الرائدة نازك الملائكة، وبعد أن اشتهرت شاعرات عراقيات من أمثال آمال الزهاوي وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة وغيرهن، تأتي خالدة خليل لتضيف نكهة جديدة للشعر العراقي المعاصر وخاصة عن طريق قصيدة النثر التي تمتلك الشاعرة ناصيتها والتي يتخللها سطور موزونة بعفوية تامة، مثلما تمتلك قضية تدافع عنها بالكلمة رغم العجز واليأس والإحباط الذي يتراكم طبقات فوق طبقات في نصوصها الإبداعية سواء الشعرية أو النثرية.
يقول د. خليل شكري هياس في مقدمته للكتاب إن ثنائية الحياة والموت تشكل بؤرة قرائية مهمة في نصوص خالدة خليل.
بينما يرى د. ثائر العذاري أن الشاعرة تحاول في كل أعمالها تقمص تجربة شخصية امرأة مغتربة، والفلسفة التي تقوم عليها تلك التجربة تتلخص بكلمة واحدة هي “العجز”، وأن النص المفتوح الذي يمثل الأسلوب الرئيس لنصوصها يعبر بفقدانه الشكل الفني القار عن العجز عن الفعل المؤثر الذي يستطيع أن يشكل العالم بحسب رغبة الشاعر.
وعلى الرغم من هذا “العجز” الذي يشير إليه العذاري فإن د. جاسم خلف الياس
يرى أن الشاعرة تسخر من الضعف والوهن الذي ينخر في جسد الوطن، وتكمن سخريتها في الاعتراف بأن كل ما تملكه لا يتجاوز عيدان الكبريت الفاسد الذي لا يقبل أحد على شرائه. تقول الشاعرة:
أما أنا
فلا أملك غير عيدان
كبريتها فاسد
ربما أبيعها عند أرصفة العجز
أو أقايض بها حزنا بحزن.
ويضيف الياس: إن الشاعرة تجعل من مجموعتها “شرنقة الحمى” نصا دائري البينة بوساطة النقطة التي ابتدأت منها وانتهت إليها، أو في أقل تقدير إنها جاءت بوحدة موضوعية أضفت إليها متانة وتماسكا فريدين في عالمها الشعري لتختتم أسئلتها الشائكة بوجع الانتظار من جديد، فتقول:
هل أهذي
حين أبحث عن عشبتي الضائعة
بين نفايات عصر قاحل
يا شرنقة الحمى؟
ويشير د. مقداد رحيم إلى أن الغربة ألقت بظلالها على روح الشاعرة فبدت معاناتها القاسية شاسعة الألم، مفضية إلى الحزن والحسرة والجزع، حتى أحالت ذاتها إلى مجرد حطام تبحث لها عن انتحار مؤجل. موضحا أن كثافة الأحزان في نصوصها تتناغم مع كثافة التعابير والصور الشعرية، فكأنها تنحت كلماتها نحتا لتشد ذهن قارئها، وتشغل تفكيره أطول وقت ممكن تعويضا عن انتفاء الإيقاعين الخارجي والداخلي في نصوصها جميعا.
ويرى د. راشد عيسى أن أهم مزايا ديوان “شرنقة الحمى” هو هذا الاقتصاد اللغوي الذكي، ومغامرات الانزياح الدلالي والإسنادي والتركيبي وسائر أشكال المفارقة والانحرافات الكنائية. بينما ترى د. ليلى نعيم الخفاجي أن الشرنقة لا تلبث إلا أن تخرج منها تلك الفراشة الحالمة بالحياة والحرية، لتحلق في سماء مضيئة تلثم عبير الزهر وتتحرر من سورة الحمى التي تشتعل في داخلها.
وتتوقف الخفاجي عن حروف النداء أو النداءات المتكررة في قصائد خالدة خليل (أيها الحزن، أيها الزمن، يا وطني ..) وترى أن ذلك إعلان عن مناجاة نفسية تستدر العطف والحنان مليئة بالتوتر والأسى، وهذا الأسلوب يدل على أن الذات الشاعرة تبدو في ضيق ومعاناة شديدة.
وفي مشاركته “دراما الحزن في نصوص خالدة خليل” يقول حسب الله يحيى إنها شاعرة “عرفت كيف تنقذ نفسها من أحزان كادت تطفي وجودها وحولتها إلى هذه القصائد الإنسانية الصادقة”. بينما يؤكد فائز الحداد أن خالدة خليل “بصمة جديدة في قصيدة النثر”، وأنها “تبصم بالذهب على صدر الشعر، فشعرها يبعث على الإبهار والانبهار معا ودائما”.
ويوضح وجدان عبدالعزيز أن الشاعرة استفادت من تداخل الفنون مع بعضها البعص وأظهرت أن الرسم شعر صامت وأن الشعر رسم ناطق، فضلا عن حضور السرد وتقنيات الفنون الأخرى وأساليبها وتداخل الصور كالمشاهد السينمائية، وهي تتفاعل خارج زمنية الشعر.
أما رياض خليف فتحت عنوان “خالدة خليل بين الوجودية وأسئلة وطن” يقول: “تطل الشاعرة في مجموعتها شرنقة الحمى متوترة إلى حد بعيد ومتوغلة في مناخات وجودية تتدافع فيها الأسئلة والآهات والتحديات في آن واحد وتسعى فيها الشاعرة إلى توليد صور شعرية متعددة عن طريق اللغة الواسعة التي تركب وفق الاستعارة والمجاز”.
ويرى خليف أن الشاعرة تجاوزت القصيدة الوجدانية والهواجس النسوية المألوفة التي عرف بها الشعر النسوي العربي. وأنها تُكثر من الدوران حول الزمن الذي يستغرق في الإبهام أحيانا، وفي الإحالة إلى العمر أحيانا أخرى، وأن مجموعتها “شرنقة الحمى” تعبير شعري متعدد الأساليب وتحليق في الخيال يرتطم بالواقع المؤلم والمحير، ورحيل من آلام وأسئلة الذات إلى آلام الوطن.
وتحت عنوان “شعر خالدة خليل: جمالية النسج وشعرية الاحتجاج” يقول علوان السلمان إن “شرنقة الحمى” شكل شعري يعتمد الإيجاز والتكثيف وعمق المعنى الذي يخلق جوا من التوتر الذي يكثف المعنى ضمن بنية موجزة قادرة على الإشعاع الدلالي في الشعرية التي تحققها اللغة من خلال وظائفها.
وعن ديوان “توهجات رماد” يقول زهير الجبوري إن تجربة الشاعرة تنتمي إلى الميول الحداثية التي جعلت من النص الشعري في مواجهة الكتابة المفتوحة باتجاه المعنى.
• أشرعة الهراء
في الفصل الثاني من الكتاب توقف النقاد عند رواية “أشرعة الهراء” حيث يرى د. راشد عيسى أن خالدة خليل في روايتها تفضح تاريخ الحضارة التي عبثت بإنسانية الإنسان فأورثته الحروب التي دمرت كبرياءه وعواطفه وعقله، وأسملته للشتات الجغرافي والاغتراب الروحي وجعلته نهبا للمنافي. ويرى أن الرواية بدت كأنها قصيدة رثاء طويلة. بينما يرى د. ثائر العذاري أن الرواية نص بعيد عن التجنيس الذي فرض عليه، لأنه نص مفتوح يفيد من تقنيات عدد من الأجناس الأدبية من بينها الرواية.
وهو ما يؤكده محمد علي النصراوي في قوله: إن هذا الكتاب لا ينتمي إلى أية مؤسسة تجنيسية مهيمنة كمظلة يحتمي داخلها لينتسب إليها. وعليه فالكاتبة اختارت منطقة حرة في اشتغالها، منطقة تقع في (المابين) يتمثل فيها الشعري والسردي في آن معا. ويرى أن النص يحفز ذهن المتلقي ويجعله في حالة من النشوة الدائمة على مواصلة القراءة.
ويوضح حسين الهاشمي أن بانفتاح أفق السرد على ضفاف شعرية لا يمكن تجاهل براعة التأثيث المتخيل فيها، تداخل وفق منظومة هائمة من التكثيف والمونتاج الذي يتحول أيضا من بعده الإشاري إلى بعد مجازي تصويري ورمزي.
وهكذا يضيء مجموعة من النقاد العرب نصوص الشاعرة والروائية خالدة خليل، مؤكدين وجودها الفاعل في الحركة الأدبية العربية الراهنة.