أديب كمال الدين: القمع عنوان الشرق وعلاجه الترميز
الزهد والتأمّل والحب: ثلاثية شكّلت هويته الشعرية والإنسانية
حوار: محسن حسن
تُعدّ تجربة الشاعر العراقيّ المغترب “أديب كمال الدين” واحدة من التجارب الشعرية الفريدة عمقاً وملامح؛ فقد اختطَّ صاحبها لنفسه منهجاً مختلفاً في التعامل مع الحرف العربي مبنى ومعنى حتّى أنه لُقّب بـ”الحروفيّ” لما لتجربته مع لغة الضاد من ارتباط مغاير عمد إلى استبطان الخفي من حروفها ومعانيها ودلالاتها القريبة والبعيدة. من جهة أخرى فإنّ التجربة الإنسانيّة للشاعر الحروفيّ لم تكن بأقل نضجاً وحضوراً من تجربته الشعريّة وكلاهما لا ينفكان عن بعضهما بالطبع.
لذا فقد نهلت الثقافتان: العربية باعتبارها الثقافة الأم، والأسترالية باعتبارها الثقافة الحاضنة، بعمق، من معين هذه التجربة العميقة لشاعر جمع بين وجدان الإنسانية الرحب، وانصهار الثقافات العالمية الصعب، ومن ثمَّ فلا غرابة أن يحتلّ صاحب التجربة اهتماماً كبيراً من دارسي الأدب والشعر في كلتا الثقافتين.. ” المدى” حاورت أديب كمال الدين في محطّات التجربة وتجلّياتها .
* ماذا يعني الشعر من وجهة نظرك؟
– الشعر، هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة بأقلّ الكلمات. ولذا سيكون الشعر الحقيقي والعميق نادراً على الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل. نعم، إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلّب من الشاعر خبرة حياتيّة وثقافيّة ولغويّة وشعريّة، مع مرانٍ مستمر، وإيمان حقيقيّ بالشعر ودوره الإنسانيّ الخلّاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأيّ شكل من الأشكال.
– برأيك هل أثرت المنافي في شعراء العراق إلى الدرجة التي صبغت شعرهم بملامح أداء مختلفة عن غيرهم من شعراء الداخل؟
* ليس هناك اختلاف في “الومضة الروحية للقصيدة” ما بين شعراء الداخل والخارج من ناحية الأصالة والعمق. لكنّ الإقامة في الخارج ستتيح للشاعر مزيداً من تلمّس الحياة وأسرارها من خلال الصورة الجديدة للحياة والتي يمكن للشاعر أن يحظى بها في الخارج. في الخارج سيتعرّف إلى موتٍ (مختلف) عن الموت في الوطن، وسيرى معنى آخر للزمن، وللقانون، والكتابة، واللغة، والتكنولوجيا، والجنس، والحبّ، والزواج، وحقوق المرأة، وتربية الأبناء، والصداقة، والعمل، والمال، والمواطنة، والسفر، والعمل التطوّعيّ، والنظافة، والطعام، والسكن، والضريبة، والتعامل مع الناس والحيوان، الخ…
هذه الصورة الجديدة ستشكّل عنده مع الصورة الأولى التي استقاها من الوطن صورةً بناروميّة للحياة، صورة ستجعل معرفته بالحياة أكثر عمقاً، وربّما ستجعل معرفته بالشعر أكثر عمقاً شرط أن يجيد لغة البلد الذي يقيم فيه بحيث يتعرّف إلى الصورة الجديدة للحياة على نحو دقيق وفاعل وعميق. فإنْ لم يمتلك هذه الإجادة للغة فإنّه سيتقوقع على نفْسه ويكرّر أسلوبه الشعري السابق دون أيّ تطورٍ ملحوظ.
– ما خلاصة التجربة الإنسانية التي مررتَ بها عبر دهاليز المحن والشدائد وصراع الحضارات؟
* (كنْ في هذه الدنيا كعابرِ سبيل) هذا الحديث العظيم الرائع للمصطفى (ص) يختصر الحياة بما فيها . لكن هل من معْتَبِر؟ الكلّ – إلّا ما رحمَ ربّي- يقاتل قتال الوحوش الضارية من أجل المال والقوة والنفوذ ولا يشعر أبداً أنّ وجوده على الأرض وقتيّ وزائل لا محالة فوا أسفاه. الآن أصبح القتال ما بين هذه الوحوش عنيفاً إلى درجة لا تُصدّق. وأصبحت هناك مراكز لإدامة هذه القتال وتوسيعه وتعميقه إلى الدرجة التي سينقلب فيها الإنسان إلى حيوان بعد أن يفقد إنسانيته شيئاً فشيئاً.
* لماذا برأيك يعاني الشعر من حالة جفاء مع الجماهير حتّى مع جماهيره المحبّة للشعر؟
– إنّ دور الشاعر هو الإحاطة بزلازل عصره. والتحدّي الحقيقيّ هو إحاطة الشاعر بتلك الموضوعة الكبرى من خلال أسلوبيّته الخاصة: بَصْمَة الشاعر الفنيّة وقاموسه اللغويّ والصَوَريَ الخاص به. وهذه معادلة في غاية الصعوبة. فهناك مَن يتناول الموضوعة بطريقة مباشرة ودعائيّة وفجّة، وهناك مَن يتناولها بطريقة التغميض والهذيان الأجوف. وبالطبع فإنّ النتيجة القادمة في الحالتين ستكون خارج الشعر المبدع كليّاً. فشاعر المباشرة والفجاجة يخسر الشعريّة بشكل مفجع، وشاعر التغميض والهذيان الأجوف يخسر المتلقّي الذي بدونه لا تكتمل دورة الشعر الحقيقي.
لكنْ، من ناحية أخرى، يجب أن نعترف بأنّ هناك أزمة في الحصول على الشعر المتفوّق المتميز، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات يفتقد إلى الفهم الدقيق لمسألة بُنية القصيدة، ومسألة النمو العضويّ في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة، ومسألة القاموس الشخصيّ للشاعر، كما يعاني من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملك تجارب روحيّة أو إنسانيّة ذات شأن أو عمق. وتجد جمله الشعريّة وصوره الفنية مليئة بالتغميض والترهّل والتقعير والهذيان اللامجدي حتّى تحوّلتْ قصائده إلى ما يُشبه ركّاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يجمعهم أيّ جامع سوى العربة!
* ماذا عن ظاهرة “الحروفيّ” من أسرار؟ وأيّ مجموعاتك الشعريّة تعتبرها أكثر رمزيّة؟
– ليس لديّ ما أبوح به، فأنا أكتب آرائي وأفكاري شعراً ولا أقول شيئاً خارج الشعر إلّا نادراً. أما عن الرمزية ، فقد عبّرت في مجموعة (النقطة) الصادرة عام 1999 ببغداد عن الكثير مما يجول في أعماقي بشكل فاعل مستعيناً، بقوّة، بقناع النقطة والحرف. وقد استمرّ ذلك المنهج الجماليّ في استخدام “المستوى القناعيّ” للحرف والنقطة في مجاميعي التي تلت مجموعة (النقطة) بدرجة أو بأخرى، أي في: (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، (شجرة الحروف) (أربعون قصيدة عن الحرف)، (حاء)، (أقول الحرف وأعني أصابعي)، (مواقف الألف)، (إشارات الألف)، (الحرف والغراب)، (رقصة الحرف الأخيرة)، وصولاً إلى آخر مجاميعي (في مرآة الحرف).
* بعد ما يزيد على أربعة عقود من كتابة الشعر ومعانقة القصيدة: ما الذي أحدثه “التجريب” في مشوار الشعر لديك؟
– خلق ما يُسمّى بــ (القصيدة الحروفيّة) وأعطاني بَصْمَة شعريّة كتبَ عنها الكثير من النقاد والدارسين والأكاديميين، مع العديد من رسائل الدكتوراه والماجستير، كما تُرجِمتْ أعمالي إلى العديد من اللغات، ونلتُ جائزة الإبداع الشعري عام 1999 في العراق، واخْتِيرتْ قصائدي ضمن أفضل القصائد الأستراليّة لعامين متتاليين، فلّله الحمد من قبل ومن بعد.
* متى يمكن، برأيك، أن يصبح للشعر دوره الكونيّ في التأثير والوعي لدى سكان الكوكب؟
– هذا طموح صعب جداً ذلك لأنّ وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي تتطوّر يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة سرقت الأضواء بشكل شرس من الشعر، وربّما تكون هذه السرقة – وا حسرتاه- أبديّة!
* ما الذي مثّلته لك مجموعتك الشعريّة “حاء” الصادرة عام 2002؟
– كانت “حاء” هي مجموعتي الأولى التي كتبتها أو كتبتُ أغلب قصائدها بعد أن غادرتُ العراق. كانت هي قصائد البحث الفجائعي عن الحرّيّة بعد مغادرة العراق الذي حوّله الطاغية إلى مسرح للحرب والموت والفقر والرعب والظلام. وكانت هي الخطوة إلى الرحيل باتجاه المجهول الذي أصبح اسمه أستراليا. فما الذي ينبغي إعداده لمواجهة المجهول الأسترالي؟ اللغة؟ نعم. ولحسن الحظ فإنّني قد أعددت نفْسي لها إعداداً جيداً حيث درستُ الأدب الإنكليزي بكليّة اللغات بجامعة بغداد في التسعينات ثمَّ عمّقت معرفتي بها من خلال دراسة الترجمة في أستراليا. وذلك بالطبع سهّل عليّ الاندماج في المجتمع الجديد والكتابة بلغته، حيث صدرت لي مجموعتان بالإنكليزية، وسهّل عليّ الكتابة في مجلاته والمشاركة في نشاطاته الشعريّة، وكذلك المواظبة على قراءة الشعر بالإنكليزية التي أصبحت لغة العالم الآن دون شك، وصار بالإمكان قراءة أغلب شعر البشريّة مُترجَماً إلى الإنكليزية! وماذا بعد اللغة؟ إنّها ثلاثيّتي التي ستشكّل هويّتي: الزهد، التأمّل، الحبّ بمعناه الواسع الكبير. إنّها الثلاثيّة التي ستعمّق إحساسي بالشعر، ورحلة الحياة، وسرّ الحرف.
* كيف أمكن لك تعميق تجربة البحث عن الحرّيّة عبر هذه المجموعة؟
– نعم، هي (الحاء) حاء الحبّ والحرّيّة والحنان دون شكّ، لكنّها حاء الحرب والحريق قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم العظيم الذي يكاد أن يختصر الشعر كلّه ومعناه كلّه وغموضه الذي لا حدود له. لقد بدأتُ رحلة البحث عن الأعماق الشعرية والروحية قبل (حاء) بوقتٍ طويلٍ بالطبع ؛ فحرصتُ أن أخلص لروح الشعر بعيداً عن التكسّب والابتذال والركض وراء منافع الدنيا الفانية، وحرصتُ أن يكون شعري مرآةً حقيقة للإنسان في رحلته الكبرى وهو يواجه الموت والغربة والحرمان والوحشة والكراهية والقسوة. كذلك أخذتُ على نفسي بالزهد، وعلى عقلي بالتأمّل، وعلى قلبي بالحبّ.
* إلى أي حدّ تشهد الثقافة الأسترالية وجوداً فاعلاً لأدب وأدباء العراق؟
– نعم هناك مشاركات شعريّة وترجميّة ونقديّة عديدة لأدباء العراق. وبالنسبة لي فقد صدرت لي مجموعتان شعريتان بالإنكليزية هما (أبوّة) و(ثمّة خطأ). كما أنّ قصيدتي “أرق” اخْتِيرتْ واحدة من أفضل القصائد الأسترالية للعام 2007 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة، أعدّها الشاعر الأسترالي المعروف بيتر روز. وكذلك اخْتِيرَتْ قصيدتي “ثمّة خطأ” واحدة من أفضل القصائد الأسترالية المنشورة للعام 2012 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة بأفضل القصائد الأسترالية أعدّها الشاعر الأسترالي الشهير جون ترانتر، كما أقام اتحاد أدباء ولاية كتّاب جنوب أستراليا عام 2012، حفلَ توقيع لمجموعتي “ثمّة خطأ”، وفيه قرأت الناقدتان الأستراليتان د. آن ماري سمث ود. هِثـر جونسن مقالتين عــن المجموعة. وقبلها تمّت استضافتي في جمعية الشعر في مدينة أديلايد عام 2004 وكذلك في غاليري (De la Catessen) عام 2006.
أما على مستوى النشاط باللغة العربية، فإنّ الحدث الأبرز هو إقامة مهرجان الجواهري الذي أشرف عليه منتدى الجامعيين العراقيّ الأستراليّ في مدينة سدني العام الماضي، وحقّق نجاحاً طيباً عبر مشاركة عراقية وعربية متنوعة، وقد شاركتُ فيه بقصيدة (أغنية إلى الإنسان).
* بأيّ شيء يدين الشاعر الفائق لمجتمعات القمع وتكميم الأفواه برأيك؟
– ليس هناك من شاعر عراقيّ أو عربيّ أو شرقيّ لم يمتلك تجربة مع القمع كبيرة أو صغيرة. كان القمع ولم يزل عنواناً شرقيّاً بامتياز. وهذا القمع يجعل الشاعر في حاجة ماسّة إلى الترميز. وكان الحرف والنقطة- بالنسبة لي- خير أداتين فنيتين للترميز، والخلاص من التكميم والقمع. لقد اشتهر نظام الطاغية بقمعه الذي لا يُشبهه قمع آخر في بلدان العالم. وجرّد الحياة من أبسط نسمة للحرّية فكان الناس يمشون وهم يتلفّتون! هذا شيء يجب أن لا يغيب عن ذاكرة العراقيين أبداً، وبخاصة لمن لم يكتوِ برعب قمع الطاغية ولم يعرفوا تفاصيله الخرافيّة. من جانب آخر، فإن حمّى القمع أصبحت تنتشر في بلدان كثيرة من العالم تحت مسمّيات أخرى للأسف الشديد. وكأنّ البشرية لا تتعلّم شيئاً من دروس الطغاة!
* في الختام، إلى أيّ حدٍ أنت متفائل بمستقبل الشعر العراقيّ في ظلّ مناخات ثقافية ربّما غير مواتية؟
– العراق أرض الشعر التي لا تكفّ عن ولادته مبدعاً. لكن ولادة الشاعر المتميّز المتفرّد تتطلّب تضافر الكثير من الظروف الشخصيّة والعامّة. ولا أتفّق معك في تعبير (مناخات ثقافية ربما غير مواتية). فوسائل الإعلام والاتصال الحديثة الآن سهلّت، بشكل هائل، وصول صوت الشاعر الى متلقّيه بشكل ممتاز لاغية شروط المنع والإقصاء والتهميش التي مورست من قبل، بشكل عنيف، تحت ظروف الثقافة الشموليّة ضد كل مَن لا تتطابق شروط قصيدته مع الشروط المُحدّدة للقصيدة من الناحيتين الأمنيّة والفكريّة. لكنّ هذا الوصول السهل له مضاره أيضاً اذ هو يسهلّ وصول الغثّ والسمين معا ويعقّد من مهمة الفرز لدى المتلقّي.