السلام عليكم
وعليك السلام ورحمة من الله وبركاته
في رحاب قلمه ينتشي شذا الياسمين، فيحملنا نحو مساء طيره رحّال، لتسأله الغربة عدد السنين، و يجالسه شوق دمعه سيّال، لأرض زرعها حزين، لهوية رموها بالنبال، برفقة مرقمه يلامسنا فرح سجين، مازال يحتفظ ببريق الجمال، يعكس رغبة التلهّف و الحنين، لعودة اشتعلت لها الآمال، فرغم الألم الدفين، لن تخضع نفسه للكسر و الإذلال، و سيبقى للفظه صهوة المنتصرين، فعشق الوطن في ذاته هيال، هو من تنفّست من دمائه روح فلسطين، ليكبر في عروقه معتقد المنال، هو الكاتب الفلسطيني “زياد جيوسي”
مرحبا بك سيدي
شكرا من قلب ومن وطن لهذه المقدمة التي تلامس الروح وشغاف القلب، ومرحبا بك عزيزتي
س عرفتك الشاعرة الفلسطينية “منى ظاهر” لتقول: هو زياد جيوسي، غريب مع الواحة الملهِمة، قريب من طيفه الرّاقص على أنغام نيران قلبه، المقاتل بحقيقيّته في قارب أوراقه المثقلة بحنين ذاكرة، تلهج بزمكانيّة الهويّة الصّامدة المترسّخة فينا، في قلب المليكة، فلسطين”، إلى كم من إحساس أصاب حرفها في ربط الوصال بينك و بين القارئ عبر ممرات الروح و الذات؟
ج منى ظاهر الشاعرة الفلسطينية المتميزة والكاتبة الجميلة والصديقة الرائعة التي ربطني بها الحرف من قبل أن التقيها مواجهة، شرفتني بتقديم كتابي (أطياف متمردة) فجالت في روحي وهمساتها ونزفها فرحا وألما، قرأت معظم ما باحت به روحي من وجدانيات، ورافقت سلسلتي المنشورة (صباحكم أجمل) التي كانت بوح احتجازي في رام الله بدون أن أغادرها سنوات طويلة بفعل الاحتلال، وتابعت بوح الأمكنة التي تحدثت عنها، فكانت بكلماتها وإحساسها تعبير عن روح القارئ لما أكتب عبر السنوات الطويلة من إبحاري في عالم الكلمة،رحلة بحثي الطويلة عن المرفأ…
س “إهداء، لنزف الروح و بوح الياسمين، حروفي الخمسة التي رافقتني منذ ألف عام مضت، كانت ولم تزل وستبقى”، كيف يصف لنا الكاتب “زياد جيوسي” ملامح هذه الحروف و دورها في شفاء النفس؟
ج هذا الإهداء توج كتابي أطياف متمردة وكان بوح وجداني من روحي لمن رمزت لهم بالإهداء، فحروفي الخمسة التي رافقتني منذ زمن بعيد في رحلة الشتات والعذاب ورحلة العودة للوطن كي ابحث لنفسي في وطني عن وطن، هذه الحروف التي رافقت روحي منذ ألف عام مضت كانت هي واحة الراحة في رحلتي الطويلة والتي لم تنته بعد، هي التي كانت تضع البلسم على نزف روحي وألام جسدي، وهي الواحة الروحية البعيدة القريبة التي كنت استظل تحت ياسميناتها، لذا كانت وستبقى ترافقني فرحلة البحث لم تنتهي بعد…
س التاريخ في ذاكرة الإنسان “زياد جيوسي” بين جيوس و الزرقاء، بماذا ميّز قلم الكاتب “زياد جيوسي”؟
ج الزرقاء مسقط رأسي ومكان ولادتي ولم تعيها الذاكرة، فقد كان والدي عسكريا متنقلا بحكم الوظيفة، وجيوس بلدتي الخضراء الصغيرة الحافلة بالجمال وفيها ذاكرة أجدادي ورفاتهم، عانقتها أول مرة عام 1965 وعمري عشرة سنوات، والثانية عام 1995 بعد غياب قسري عنها بحكم الاحتلال، لكنها لم تفارق الذاكرة فكتبت عنها (ذاكرة جيوس) وحين التقيتها المرة الثانية كنت أتذكر تفاصيلها الصغيرة تماما وأستعيدها، ومن هنا تميز قلمي من خلال هذه الرحلة الطويلة بالكتابة عن ذاكرة الأمكنة والبوح الوجداني، فأنا أؤمن بالمقولة التي تقول: الجغرافيا هي المسرح الذي يلعب عليه الإنسان أحداثه التاريخية.. والتاريخ عندي هو ذاكرتي وهي بعض من ذاكرة شعب لذا كنت وما زلت أكرر في ندواتي ومقالاتي عن بوح الأمكنة أن أي شعب بلا ذاكرة يسهل شطبه، ونحن شعب عصيٌ على الشطب من مسرح الجغرافيا ومن كتب التاريخ.
س إلى أين تسافر فينا روح كان جسدها قد عزفه الترحال و تغنّت به أريجة الأرض؟
ج الروح لا تعرف الأسر ولا تعرف الثبات، الروح تحلق في الفضاءات وتمتطي الغيوم وتجول عليها، فالروح لا تحتاج جواز سفر ولا تأشيرات، الروح تحلق رغما عن حراب الجند وعن الأسلاك الشائكة، رغم الم الجسد وسجنه، فالجسد يتعب مع طول الزمان ومع كثرة الترحال والتجوال، ويبحث عن استراحة في واحة أو تحت دفيء زيتونة، ترتوي من عرقه الأرض فتنبت ياسمينات وزنابق وقمح شطآن، ولكن الروح تبقى محلقة ترتشف قطرات المطر من الغيمات وتبثها بلسم للجسد، تهبه عبق السواسن والنرجس الربيعي البري وعبق براعم الياسمين، كي يستعيد قوته ويواصل الرحلة الطويلة متوكئا على الروح المحلقة.. فالروح تحلق دوما في الفضاء والأرض، في الفكرة والحلم، في الغد والأمس، فمركبها المجرات المتناثرة في البعيد والغيمات في القريب حين يصرخ الجسد: آه لو كانت لي أقدام لغير الجلادين لأتيت إليك وعانقت كل مساماتك يا وطن تجسد بأجمل أنثى ويا أنثى تجسدت بأجمل وطن.
س ما علاقتك بالوطن، كيف يرسمها الاغتراب و على أي أسّ يقرؤها عشق الاقتراب؟
ج الوطن حكاية عشق رافقتني منذ الطفولة، وكما يسعى المعشوق إلى لقاء المعشوقة كنت أسعى للقاء وطني، كنت في رحلة الشتات بعد أن طردنا من فلسطين اثر الهزيمة الحزيرانية عام 1967 حتى عدت إليه عام 1997، ثلاثون عاما من فراق العاشق للمعشوقة كرست حكاية عشق لانهاية لها، كانت ذكرى دمعاتي على وجهي حين اجتزنا الجسر المدمر على نهر الأردن وتطهرت قدماي بمياه النهر المقدس لا تفارقني أبدا، كان الحلم والأمل يرافقني دوما، وكنت أؤمن بداخلي أني سأكون يوما على مقربة من عشق الاقتراب واللقاء، وحين تم اللقاء سقطت دمعات فرح بالبداية ودمعات ألم لأن الوطن ما زال محتلا رغما عن من ظنوا أنهم تملكوه بورقة وقرار، ورغما عن الواهمون بسراب السلام، فبدأت من لحظة الوصول أجول رام الله أولا فهي المعشوقة التي رافقت طفولتي، أتحسس حجارتها القديمة التي كانت تهمس لي حكايات عشق الأجداد والجدات، لأنطلق منها لجيوس بلدتي وابدأ بعدها رحلة البحث في وطني عن وطن، ترافقني حقيبتي الصغيرة وعدستي وقلمي، أمارس حكاية عشقي مع المحبوبة، أراقص رام الله ممثلة لجسد الوطن الممزق تحت ضوء القمر حيث تسدل شعرها الأسود على رأسي فأتنشق عبق أنفاسها من وجهها القمري.
س “بعيداً عنك يا وطني، ولدت، حبوت، درجت، عشت شريدًا طريدًا، عالة على أوطان الآخرين، يطلقون عليّ أسماء عدّة، أصحيح أنّني لاجئ، نازح، ابن للأمم المتّحدة أنا؟”
ج كانت هذه همساتي لوطني وأنا في سجن الظلمات، كانت همسات وجدانية وأنا أتحسس الألم الذي يجتاح جسدي من التعذيب الذي تعرضت له، أسئلة أخاطب بها وطني ليمنحني القوة والقدرة على المقاومة، ليستقبل روحي وأنا في (جُب يوسف) لا أرى الشمس، وكان الوطن يهمس لي: أنت ابني أنا.. فعلمني وطني كيف أقاوم الجلاد بابتسامة، وكي أعيش بفرح رغم الألم، وكيف أحاصر حصاري بالتفكير والكتابة والتحليق الروحي، وكيف أكون منتصرا في وجه الجلاد، وعلمني أن الابتسامة هي أقوى سلاح يضيء العتمة، وأن أبقى مبتسما وليس شاتما، فالمنتصرون لا يشتمون أبدا.
س “عندما قتلتني حبّات الجوع يا حبيبتي، أينع العشق في قلبي، رأيت نفسي في عينيك، الحبّ في عينك اليسار، الحرية في العين اليمين، وفي ابتسامة ثغرك، عشقت فيك فلسطين”، ما رائحتها، فلسطين، من أحكم شكيمتها، فلسطين، أو ليست ذات شدة الأخدع، فلسطين؟
ج هي فلسطين… حروف ستة لكنها كانت وستبقى مطمعا للغزاة كما شفاه النساء، فلسطين التي بدأت بها الحضارة الكنعانية منذ أول مدينة حضارية في التاريخ المعروف، مدينة أريحا (مدينة القمر) كما أسموها منذ أكثر من عشرة ألاف وخمسمائة عام، عبقها الياسمين ورائحتها زيت الزيتون وأحكم شكيمتها أبناء كنعان الذين اعتادوا طرد الاحتلالات والغزاة عبر التاريخ، أعطى جبعون الكنعاني درسا للأبناء والأحفاد في معنى العشق والانتماء، فقاتل حتى قتل هو و أبناءه رافضا الهزيمة ورافضا الانسحاب والاستسلام، فبقيت فلسطين حكاية العشق التي أينعت في قلبي كما تينع في قلوب أبناء كنعان من رأوها ومن يحلمون بها في الشتات، فهي الأجمل والتي تخدع الغزاة وتشطبهم من ذاكرة المكان ومن صفحات التاريخ، وتبقى المعشوقة التي تهب أبناءها وعشاقها كل إشكال المحبة والجمال.. كانت وستبقى كما قال درويش: فلسطين.
س يقول الشاعر الفلسطيني “محمود درويش “فإن السلاسل تعلمني أن أقاتل، أقاتل، أقاتل، إلى أي مدى يشعر الكاتب “زياد جيوسي” بقدرة هذا الإصرار على كسر تلك السلاسل؟
ج قالها درويش والتجربة الطويلة لشعبنا أكدتها من قبل درويش ومن بعده، فإيماني المطلق الذي لا يتزحزح ما قاله الشاعر أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر، فالإصرار أقوى من المستحيل، والإيمان يمنح الإنسان القوة، ومن هنا كنت وما زلت مؤمنا أن الإصرار يحطم القيود، والصبر يأتي بالحرية، والشجاعة صبر ساعة، فالقيود لا يمكن أن تبقى دون أن تنكسر، والحلم والأمل والإصرار هو ما سيجعلنا ذات يوم نقف ونصرخ معا: هذه الكلمة الحلوة ما أحلاها.. الحرية.
س يرى الكاتب التونسي “محمود المسعدي” أن “مقدار من الجنون لابد منه من أجل مقدار من الحرية”، كيف تجادل هذا الرأي؟
ج أتفق معه كثيرا، فجيفارا قال أيضا: الثورة يفجرها مجنون ويخوض غمارها شجاع، فلحظة الجنون التي أشار إليها الكاتب التونسي “محمود المسعدي” والتي أشار إليها جيفارا أيضا، والتي أشرت إليها في كلام قديم عن كتابتي حين قلت: الكلمة والحرف هذيان وجنون ولعل الكتابة هي الممارسة الوحيدة للعقل، نحن نحتاج لمقدار من الجنون ربما يكون هو لحظة ممارسة العقل للوصول لمقدار من الحرية، فللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق، وعبر التاريخ اتهم الأنبياء والمرسلين والمفكرين بالجنون، ولكن ما اسماه خصومهم بالجنون كانت لحظة اشراقة الفكرة التي أدت لحرية العقل أحيانا وحرية الإنسان أحيانا أخرى وحرية الأوطان دوما.. فهل أجمل من مقدار من الجنون يقودنا لمقدار من الحرية ويغير وجه التاريخ؟
س يقول الشاعر العباسي “البحتري” “ما أحسن الأيام لولا أنها يا صاحبي إذا مضت لا ترجع”، إلى أي مدى يشاطر أو يخالف الكاتب “زياد جيوسي” هذا المعتقد؟
ج هنا أختلف مع الشاعر البحتري في القسم الثاني من مقولته وأتفق معه بالقسم الأول، فأنا منذ زمن قلت ما أجمل الأيام التي نعيشها إن نظرنا للجانب الأجمل فيها، لكن الأجمل الذي لم يأتي بعد، ودوما أعمل وانتظر الأجمل الآتي، فالماضي انتهى ونستفيد من تجربتنا فيه، واليوم هو ما نحياه الآن فلننظر إلى الجانب الأجمل فيه، والغد لم يأتي بعد فلنستفد مما سبق ومما نحيا فيه لنخطط لحلم الغد..لذا كنت دوما مؤمنا أن حياتي كما مثلث متساوي الأضلاع: الوطن، الحب، الجمال.. فالحلم والأمل بغد أجمل لم يفارقني منذ الطفولة،وبقي يرافقني حتى الآن ولا أظن انه سيفارقني أبدا.
س بين الوطن، الحب و الجمال، بماذا تتميز رحلة الكاتب “زياد جيوسي”؟
ج بين اقانيمي الثلاثة تميزت رحلتي بأني رأيت الوطن الكبير (وطني العربي) والوطن الصغير حجما والأكبر روحا (فلسطين) بما يحتويه من جمال حتى بين الخرائب والأطلال، رأيت جماله بروحي وأنا بعيد، رأيت الجوانب الأجمل فيه حين عدت إليه وبدأت تجوالي ومواصلة رحلة البحث، فتكرس الوطن في روحي بأنه الأجمل، وتمتعت عيناي بالجمال في كل ما شاهدت، فأنا أؤمن أن الحياة خلقها الله على مبدأ الثنائية، فالله واحد سبحانه وخلق من كل شيء الجميل وضده، لذا كنت وما زلت ابحث عن الجانب الأجمل في كل ما أرى، وأما الحب فهو شريان الدم في روحي، الحب بإشكاله المختلفة، من حبي للوطن والحرية ولزوجتي التي ألقبها دوما بأجمل نساء الأرض، وحكاية حب أعيشها معها منذ 38 عام، وحبي لأبنائي الذي تولد عن حب متميز لأحفادي وحفيداتي، وحب أهلي وإخوتي وأبنائهم وبناتهم الذين أتعامل معهم كأصدقاء، والحب الكبير لأصدقائي وصديقاتي الرائعين والرائعات، حبي لحروفي الخمسة التي رافقتني منذ ألف عام مضت ولفنجان قهوتي وعبق الياسمين.. فتميزت رحلتي بالفرح رغم الألم، الأمل رغم العتمة، الابتسامة حتى في أقسى الظروف، الإصرار والإرادة، وأن لا أتوقف عن رحلة البحث والوطن والجمال والحب طالما شاء الله لي ذلك…
س الصديق في حياة الإنسان “زياد جيوسي”، ماذا يحرّر في دواخل الفلسطيني “زياد جيوسي”، و كيف يعكس ذلك قلم المغترب “زياد جيوسي”؟
ج الصديق كان ولم يزل من الصدق، وكلمة صديق ليس من السهل أن تكون صفة حقيقية لكل المعارف وإن استخدمت تجاوزا، لذا كان للأصدقاء دور كبير في دواخلي الإنسانية والوطنية وفي القي الروحي وهدوئي وسكينتي، وأعتز جدا بأصدقائي ومنهم صديقي أبو سفيان الذي بدأنا منذ أشهر عامنا الـ 46 من صداقة لم تتوقف يوما، فالصديق وأصدقائي الأقرب للنفس من النفس وأحدهم أخي الأصغر مني جهاد والذي اعتبره توأم الروح وشقيقها، يحررون في داخلي دوما مشاعر تتألق وتحلق في فضاءات من جمال يكرس في داخلي دوما حب الوطن والانتماء الإنساني، أصدقائي في بلاد عديدة، ولذا أعتبر أني لي محراب حب وجمال في كل بلد لي أصدقاء فيه، وهؤلاء الأصدقاء لهم دورهم في دعم كتاباتي وبوح قلمي، وفي كثير من الأحيان كنت أخاطبهم من خلال مخاطبتي للوطن، وحتى حين كنت أجهز كتاب للنشر كان أصدقائي من يقرؤونه ويبدون ملاحظاتهم مسبقا، ومشاورتي لهم باختيار الأسماء لكتبي مسألة مهمة، فأنا لا أؤمن بالمثل الشعبي الذي يعتبر الخل الوفي من المستحيلات الثلاثة، الصداقة أقوى من رابطة الدم عندي، فهي من أجمل ما في حياتي… أصدقائي بعض من واحات الراحة في رحلتي الطويلة، فإن كان الوفاء أصبح (عملة) صعبة في هذا الزمان، فأنا أعتز جدا بأن الوفاء من شيم أصدقائي، وهذا عكسه قلمي ببوحي الوجداني وانتمائي للوطن في كل ما اكتب وفي كل ما توثقه عدستي أيضا.
س فما ردّك إذن على المثل القائل “و من العداوة ما ينالك نفعه و من الصداقة ما يضر و يؤلم”؟
ج وردي بالمختصر: أن الصداقة الحق لا يمكن أن تضر، وهي لا تؤلم إلا حين فقد الصديق بإعلانه موعد بدء رحلة الرحيل من عالمنا، وما يضر لا يمكن أن يدخل تحت باب الصداقة إلا من باب التوهم، أما العداوة فلا منفعة منها إلا إذا أضرت بعدو للإنسان فنستفيد نحن بإضعاف عدونا، لذا اقتنعت بمثل آخر يقول: إن تخاصم صديقان لك فاحذر أن تتدخل بطريقة قد تجعلك تخسر أحدهما، وإن تخاصم خصمين لك فتدخل فقد تكسب أحدهما… الم يكن أبو بكر الصديق مثال لخير صديق للرسول عليه أطيب الصلاة والسلام؟
عليه ألف صلاة و سلام
س حسب اعتقاد الفيلسوف و الموسيقي الألماني “ألبير شفايتزر” أنه “مهما كان المرء فسوف يجد من يحتاجه”، برأيك، من يحتاج “زياد جيوسي”، الإنسان، الفلسطيني، الكاتب و الصديق؟
ج وأيضا يقول مثلنا الشعبي: (الجنة بدون ناس ما بتنداس)، ولذا اتفق مع مثلنا الشعبي كما أتفق مع الفيلسوف و الموسيقي الألماني، فليس من امرء يمكنه أن يحيا بدون حاجة للآخرين، وأنا كذلك أحتاج الغير، ولعل أهم ما احتاجه من يفهمني حين حاجتي إليه، سواء في الحياة الاعتيادية اليومية أم في الحياة الاجتماعية أو في مجال إبداعي الكتابي وجولاتي.. فزياد جيوسي إنسان كما كل البشر، يكون قوي حينا وضعيفا حين آخر، لذا يحتاج الآخرين ولا يمكنه رغم حبه للوحدة والتأمل والابتعاد عن الصخب أن يحيا منفردا بدون الآخرين، ولا يمكن أن يتعالى عن حاجته للغير، من يفهموه ويقفوا بجواره ويساندوه بما يحتاجه… احتاج الغير كإنسان، أحتاج الغير كفلسطيني حتى لا أصرخ كما صرخ القائد الشهيد الرمز: (يا وحدنا)، وفي نفس الوقت سيكون هناك من يحتاجني أيضا.. أبنائي، أسرتي، زوجتي، أصدقائي.. وهناك الكثير من الشباب والشابات من يلجئون لي لأستمع لهم وأعطيهم الرأي من تجربتي الطويلة نسبيا في الحياة، فالإنسان مدني بالطبع، ومن طباعي أني مستمع جيد، لذا استمع لكل من يأتي إلى بابي بهدوء وصمت وفي النهاية أتكلم، فالله خلق لنا أذنين لنستمع لوجهتي نظر، وخلق لنا لسانا واحدا كي نتكلم بعد أن نسمع لمرة واحدة.
س عندما يفتن الصمت بحرف الكاتب “زياد جيوسي”، إلى أين تسافر الحكاية؟
ج والصمت محراب، نفتن به ويفتن بحرفنا، ودعيني أتحدث عن الصمت كموضوع متبادل بيننا وبين الصمت، ففي صحراء توزر جنوب تونس، فتنني الصمت في منطقتين، في ميداس وفي المنطقة التي تم تصوير فيلم حرب النجوم فيها، وفي الحالتين انعزلت لأستمع للصمت وأتأمله، واستمع لمعزوفة الرمال تحركها الريح الهادئة، ومن هذا الصمت الذي فتنني كتبت حكايات وحكايات ما زالت تبادلني الهمسات مع العشق التونسي، أما عندما يفتن الصمت بحرفي فالحكاية عندي كما دوما تسافر حيث قبلة الوطن، إلى حيث تحلق روحي وأرواح الشهداء التي ما زالت تجول الفضاء تبحث عن مأوى.. إلى حيث تجول حروفي الخمسة…
س “الشخص الوحيد الذي أكتب له هو من يجد تفاصيله الصغيرة في كلماتي”، إلى كم من ميناء تصل هذه الكلمات الحاملة لشعور بعمق الفرح و الألم؟
ج نعم فأنا أكتب وجدانياتي لمن يجد تفاصيله الصغيرة في كلماتي، لذا لم أدعي يوما أنني أكتب لشخص محدد، فأنا أكتب للفكرة، للحب، للوطن، للجمال، وكثير ما سمعت علنا وفي حالات أخرى ليس بالعلن من قالت: أشعر انك تكتب لي أنا رغم أنك لم تعرفني من قبل، فكل من وجدت بعض من تفاصيلها الصغيرة في حروفي، وجدت نفسها أنها فيما أكتب، واشعر أن بوح روحي بكلماتي أعلاه قد وصل لمواني كثيرة شعرت بألمي وفرحي، جنوني وهدوئي، فصارت بعض من أطيافي المتمردة، والبعض وضعته في القمقم وأغلقت عليه مع أطيافي المجنونة.
س هل تمكن الكاتب “زياد حيوسي” من ترويض أطياف الإنسان “زياد جيوسي” المتمرّدة؟
ج أطيافي المتمردة تمردت حتى عليّ، فقد حبستها سنوات طويلة في القمقم حتى لا تخرج، وحين أتت مليكة سبأ فتحت القمقم فخرجت أطيافي متمردة، فلم امتلك إلا أن أوجه كلمة شكر لها فقلت: شكر خاصّ لمليكة سبأ، فلولا أنّها فتحت القمقم وخرجت الأطياف محلّقة، لبقيت أبدًا حبيسة الأدراج، أو فُقدت كما غيرها في رحلة الزّمان والبحث… ومنذ خرجت أطيافي متمردة فقدت السيطرة عليها، فحلقت ونثرت فوضاها في فضاء الكون، فهي لا تعرف الهدوء أبدا، وتصر على نثر فوضاها بدون أن تزعج الغير، ولم يبقى من سيطرة لي إلا على من تبقى منها، فأغلقت عليها فوهة القمقم من جديد، أحاول ترويضها لكن لا أعتقد أني سأنجح، فهي تصر على دق جدران الخزان لعل أحد يسمع، واسمع ضجيجها بالقمم تحاول الخروج والتمرد كما التي سبقتها، فالأطياف يصعب ترويضها لأنها اعتادت التحليق في فضاءات الكون، وحين تنزل للأرض تصبح مهرة برية عصية على الترويض تجول البراري ولا تتوقف..
س يمرّ الزمان بكبرياء يجعل من المكان نشيدا بلا كلمات، كيف يتواصل الكاتب “زياد جيوسي” مع هذا الإحساس؟
ج ولأن الزمان لا يعرف الهزيمة كان وسيبقى أنموذجا للكبرياء، يعزف بقوة أناشيد تجوب فضاءات المكان، لا تتوقف أنشودته ولا يتوقف عزفه، فهي سيمفونية العصور المستمرة التي لا تعرف التوقف، المكان مسرحها والبشر وسائر المخلوقات مستمعيها، فنرى أنشودة الزمان تترك أثرها في مسرح المكان، فأحيانا يعزف الجمال والحب، وأحيانا أنشودة الألم والفراق، ومن كبرياء الزمان آخذ إصراري وكبريائي وأن لا أتنازل أبدا عن مبادئي، أهدافي، إيماني، وأنشد في حياتي وعبر قلمي أنشودة الإيمان، الفرح،الوطن، الحب ، الجمال.. استمع لأنشودة الزمان وأعزف أنشودتي حرفا وصورة، فالتصالح مع النفس يجعلنا نستمع جيدا لأنشودة الزمان بدون أن يتكلم، ويجعل الكبرياء والاعتزاز سمة من سمات الروح.
س “الليل يحاصرني بأصابع مائعة، يشدّني إلى شجوني”، يرى “البحتري” أن “الليل آية الله التي تحمل بين طياتها بلسم الشفاء للقلوب المجروحة بلوعة البعد”، التباين بين هذين الرأيين حول الليل، بماذا يفسّره الكاتب “زياد جيوسي”؟
ج وها أنا أجيبك مع سكنات الليل وهدوئه، فالليل كان دوما فكرة فلسفية وحكاية في الأمثلة والحكايات الشعبية، وهمس الشعراء وخلوة النساك والمتعبدين، وراحة النفس وجنون القلم وعزف الموسيقى، نزف العشاق ودموعهم وتأوهاتهم، أو متعة الليل والسهر، فكل ينظر لليل من خلال اللحظة التي يعيشها ويحياها في سكنات الليل، ومن هنا نرى الأول يرى بالليل أصابع مائعة تشده إلى شجونه.. حزنه.. ألمه، فإن كان النهار بنوره وازدحامه يبعده قليلا عن الم الروح ونزفها، فالليل حين يرافق الوحدة يثير الشجن من جديد، بينما البحتري بفلسفته يرى بالليل رحمة منحها الله لعباده، ففيها ترتاح الروح ويتوقف الألم وتأتي السكينة، ولنتذكر قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ) وقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً”، فهل بعد كلمات الله من كلمات؟
سبحانه و تعالى
س تترجم لنا المناضلة اللبنانية “سهى بشارة” عميق إحساسها فتسمعنا زغردة وجع قائل “الهواء عند تلك النافذة كان ثقيلا، يحرك حزننا، يمطه، يقلبه، لكنه لا يحمله أبدا”، مثل هذا الشعور المغمّس في الوجع، إلى أي حدّ يمكن له أن يجني ثمرات الأمل و الحلم؟
ج سهى بشارة، المناضلة والتي قضت زهرة شبابها في المعتقلات بعد محاولتها اغتيال العميل أنطوان لحد، همست بهذه العبارات من قلب المعتقل واصفة الحال، فالسجين هو إنسان يمتلك الإحساس والمشاعر، يشتاق لنسمة الهواء ورؤية القمر، يحتاج للتواصل مع الطبيعة والبشر، فشعرت كيف أن الهواء ثقيلا عند نافذة، ولذا وصفت مشاعرها كإنسان يحلم بالحرية وبأبسط حقوق الإنسان المفقودة بالسجن، فكتبت كتابها الأول: (مقاومة) والثاني: (أحلم بزنزانة من كرز).. هذا الشعور الإنساني الذي يجتاح كل من جرب الاعتقال والأسر من أجل وطنه ومبادئه، يرافق الإنسان الحالم بالحرية والجمال، من يجعل الوطن والمبدأ فوق الذات، ويكون رغم الوجع والألم والقيد، مجددا للأمل وللحلم، يزيد من الإصرار ومن الصمود، ويكون مركبا يحمل الإنسان حتى يتحقق الحلم على سلم الأمل.
س كم من عدم نجاح قتل الفشل، و كم من كسر جناح أيقظ الأمل، بين عدم النجاح، الفشل، كسر الجناح و الأمل، أين تتفتّح ورود الكاتب “زياد جيوسي”؟
ج لا أؤمن بالفشل أبدا، ولا أؤمن أن هناك إنسان فاشل، ولا يعني عدم النجاح أبدا الفشل، فالتكرار مرة اثر مرة لا بد أن يقتل الفشل ويوصلنا للنجاح، ومن يسمونه فاشل ليس إلا إنسان يتوقف عن المحاولة، فكل العقبات أراها دافع للتحليق من جديد، ومن خلال هذه القناعات تفتحت ورودي زنابق وياسمين، تفتحت في أسوء الظروف كلمات سافرت على مركبها، فما أجمل السّفر على مركب الكلمة نخوضها متعة وإحساسًا نقاوم بها كل العقبات فكلّنا نحتاج الأمل للوصول إلى الحقيقة وكلّنا جوعى الإنسانيّة الحق،وحين أواجه مشكلة في حياتي اسعي للهدوء أولا، فإن عدت للهدوء أقلّم أغصان النّخيل، فإن تمكنت من حل المشكلة كان بها، وإن لم أتمكن ارفع سجّادتي وأخفي تحتها المشكلة والفوضى التي أحدثتها لأعود لها في وقت آخر لحلها، لكني لا ألقيها من النافذة، فنحن بحاجة للفوضى أحيانا لنخرجها من علب الذّاكرة، لأجل حقيقة لا تبين إلاّ من جسد فوضى، حتى نهزم الفشل ونجعل العمل يجبّر كل كسر جناح ونوقظ الأمل لنحلق من جديد.
س متى يقول الكاتب “زياد جيوسي” تجثو عاطفتي حذو تغريد طير قطف لقاءا مع وكره، علّني ألتقط ذاك الحنين المسافر مع المساء؟
ج والحنين، الشعور الذي لا يتوقف في روحي، يحلق خارجا من صومعتي إلى حيث وطن الحنين، حنين لا يتوقف عن الهمس قائلا: يا زنبقة برّيّة تعانق جذع سنديانة وحيدة تستظلّ بدفيء زيتونة، تقرأ الحروف المنقوشة على كف السّنديانة، تقرأ الخطوط، تعلم ما يحتويه النّسغ، سرّه، سرّك، فعشّاق الأشجار يتفاهمون… ربّما استضفتني يومًا هناك في أحلامك بين أحراش الصّنوبر أو على شاطئ بحر يغسل ضوء أقدامنا.. زنبقة برية وسنديانة يتوحدان وحدهما، يجمعهما حب تعتق بتلاوين الزمان، تفاصيلي الصّغيرة هي أنا، أزهار أبعثرها، فأنا لا أكتب بالقلم، أكتب بريشة اقتنصتها من دُرّاجّة برّيّة، أغمسها بألمي، بروحي، فتنطلق ريشتي الأثيرة كما اعتادت الدُرّاجّة البرّيّة عندما تكون في غابة صنوبر أو سُهب مترامية، فترسم.. وحين تتوقف ريشتي عن الرسم ولا أستطيع أن أواصل رحلة البحث عن المرفأ سأصرخ بأعلى صوتي وأقول: تجثو عاطفتي حذو تغريد طير قطف لقاءا مع وكره علّني ألتقط ذاك الحنين المسافر مع المساء.. فلعل صرختي تخترق حجب الغيب وتصل.. فأنا أخشى ان أبقى أكتب رسائل لا تصل.
عندنا مثل تونسي يقول “الحي يروّح”، بمعنى لا تحزن ستصل رسائلك، و سيمحى ألمك، و سيسعد وطنك، و تبتهج كل أيامك، و ستبتسم للأرض و الزرع، شكرا لك الكاتب الراقي الأستاذ “زياد جيوسي” على عمق حرفك و بلاغة لفظك و سعة قلمك، و إلى لقاء آخر إن شاء الله.
وشكرا لك الإعلامية آمنة وناس هذا الحوار الذي تميز عن كل مقابلاتي السابقة، فقد كان حوار فلسفي داعب الروح وأعاد للذاكرة الكثير.