تقصّي المُكتَشَف في العادي
قراءة في مجموعة (اكتشاف العادي) للشاعر عمار مرياش
اكتشاف العادي هو عنوان المجموعة الشعرية للشاعر الجزائري عمار مرياش الصادرة عن (الجمعية الوطنية للمبدعين/ الجزائر1993 ). تحاول هذه المجموعة تبني ثقافة التغيير وبثها في المجتمع الذي انهكته الحرب الاهلية الجزائرية. ولانها تنطلق في عملية التغيير ابتداء من الذات فإن من المفترض بنصوصها ان تبتعد ما أمكن عن الانفعال، للتمكن من التمحور حول العقل الذي يسمح بتقبل الآخر. ان ماجاء في اولى قصائد المجموعة قصيدة (مرآة للمهاتما) يبدو محايثا لتجربة صوفية أو هذا ما قد يتحسسه القارئ لاول وهلة، غير أن ما أراه إنما هو تعبير عن المهاتما وتوظيف له بوصفه الروح العظيمة التي ترتقي بالانسان وتجعله في مصاف الروحانيين الكبار كالاولياء والانبياء. فـ(غاندي) هو اليوم رمز لروح الاخاء ونبذ العنف والتسامح ومناهضة التمييز بين البشر وهذا ما يتطابق من حيث التوظيف مع اهداف اراد الشاعر الافصاح عنها في هذه المجموعة، إذ نجده في نهايتها يدعو أيضا الى المبدأ نفسه ليكون بذلك قد انهى الكلام كما بدأ به. في قصيدة (دعوة للعرس الدائم) لا وجود للفظ (الأعداء) وعلى الناس ان يحسنوا الظن :
ونحن بحثنا في كل لغات العالم
عن معنى الأعداء
فلم نعثر.
الناس ضحايا سوء الظن
وهذا يتأكد باستمرار.
…….وقوله
إذن هي دعوة من الشاعر إلى تبني عالم طوباوي، أو مدينة فاضلة خالية من الشر والخداع والتشويه والدمار الذي انتجته الحرب، الحرب التي عاشها الشاعر في وطنه اثناء التحولات السياسية التي طرأت على الجزائر مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكانت بين النظام الجزائري والفصائل المناهضة متمثلة بالعديد من الجبهات الاسلامية التي يغلب عليها طابع التكفير والهجرة، فضلا عن الحركة الإسلامية المسلحة والجبهة الاسلامية للجهاد المسلح وغيرها التي زرعت الرعب بين صفوف الناس جراء المجازر التي ارتكبتها في حق الأبرياء، فأحالت الجزائر في تلك الحقبة كتلة نارية تتقاذفها كل الاتجاهات المتعارضة.
يتحول هنا واجب الشعر إلى التوثيق، لانه الشكل الفني الاقدر على توثيق أحداث تاريخية لانه لا يضطر للتحيز لجهة دون اخرى انطلاقا من حقيقة ان الشعر طريقة من طرق تصميم الحقيقة على حد مارتن هيدغر، من هنا نجد الشاعر يتناول الحدث من وجهه اللامرئي، الممكن على خلاف المؤرخ الذي لا يتناول حدثا قبل اكتمال وقوعه، بينما يرى الشاعر ما يمكن أن يقع، وبالتالي فالشعر أكثر فلسفة من التاريخ في التوثيق حسب ارسطو في فن الشعر .
ويعبر الشاعر عن وجهة نظره في فعل الحرب بان :
كل سلاح العالم لن يقتل حلما قزما
فالحلم يجيء من المستقبل
أما الحرب فتمضي أبدا للخلف.
إنه تحريض للوطنيين لمواجهة التمرد القائم، الذي ادى الى كل هذا الخراب:
انتبهوا…
يغدر الزمن
حين ينكسر الوطنيون ينكسر الوطن.
هنا الزمن يتهاوى إلى قعر المجهول في وقت توأد الفكرة وتتجرد من القيمة:
ومنبوذا كالفكرة تحت حزام الأرض
تألمت.
من البدهي ان الخراب اذا عم البلد فان النفس هي الاخرى يعمها الخراب حتى تتقوقع ضد الاخر وتبتعد عن التفاعل الانساني الخلاق الذي لابد منه لادامة الحياة :
حيث الفكرة عراف أبله
واللامعنى سفر الحكماء
جثوت وغالبني الغثيان
في هذه المقطعة يؤالف الشاعر بين البله والغثيان؛ فالبله انهيارالعقل، والغثيان انهيارالمتعة بالحياة. من هذا المعنى العميق المحصور بين الدلالتين يأخذنا الشاعر إلى عالم خرب أو يوشك على التحول إلى خراب، فاللامعنى يغدو سفر الحكماء ليكتمل بذلك مثلث التدهور والتحلل: بله- لا معنى- غثيان.
واذا كان الفكر يسبق الكتابة فان هناك تفاوتا بين سرعة التفكير وسرعة حركة اليد في الكتابة، لان اللغة المكتوبة هي التي تشكل المعنى، و الفكرة في الرأس قبل كتابتها لا قيمة لها حتى تتحول إلى كلام، والكلام اشارات في نسق وسياق. هنا يد الشاعر ابطأ في استيعاب الفكرة، وبالتالي ينقص مستوى المعنى او لنقل يهبط منسوب المعنى، لنقرأ:
قاومت كثيرا كي أبلغ هذا السبت معافى
صدمتني الدهشة من عاديك العادي
وهبتني الثلاثاءات لمكتمل البهجة واكتظت في اللحظة
من عبأ هذا الفرح الغامض في الصدر وأطلقني
ينقصني المعنى حين أفكر فيك
في زمن الحرب يتحول الانسان الى كائن بلا قيمة او الى محض رقم، إنها عبثية الحياة ولا جدواها :
منذ البدء،
وجدت كحرف في لعبة
أيامي تتكرر آليا
وحياتي لا طعم لها
هل الشعر صنو للجنون كما يقال و أن نتاجه الحكمة ؟ ترد في هذه المجموعة أبيات عديدة تقترب من فضاء الحكمة في الحياة، باعتمادها صيغة تقديم تعاريف بديلة للملفوظات:
البؤس هو العقل الماجن
الفقر هو الثقة المفقودة بالنفس
الحب هو الأبدية
والظلم أشد من الفتنة.
اليست الفتنة اشد من القتل ؟ اليس هذا ما اراد الشاعر توظيفه هنا ليقود الكلام الى ضفة المحتمل ويعيد صياغته برؤية جديدة ومعنى ينسجم مع منظورالشاعر.. فليست الفتنة وحدها أشد من القتل بل الظلم الذي يقع على الناس هو ايضا اشد من الفتنة وبذلك الإحلال ينبه إلى أهمية عدم خداع الناس وظلمهم، عبر جرهم لحرب عبثية تهدر فيها كرامة الانسان تحت يافطات دين ووطنية زائفة:
لن أبني مجدي بجماجم خاوية
لن أبلغ نفسي ما دام الحب يحولني
سأحدق حتى أنفذ
فالماضي يلتهم المستقبل
والمعنى
فقد الشيء دلالته وتمادى اللغو
يبدو ان اكتشاف عمار مرياش لعاديه يتأتى من ان ابسط الامور الحياتية التي لاتستطيع الخوض فيها لسبب او اخر يعود إلى التصاقنا بما تربى فينا من قيم يراها هو خاطئة، وغير مستساغة. في قصيدة اكتشاف العادي التي عنون بها ديوانه , قصة فتاة لا تعرف الحب الا متأخرا. فالحب عند الشاعر حالة إنسانية تتعلق بالوجود البشري، وهي مرهونة بحياته، لا أحد يمكنه العيش في منأى عنها. إن الشاعر يقف هنا على لسان الفتاة بين موقفين متعارضين، الاول الثقافة التي نشأ عليها مرمزا لها بـ(الاندلس) والثقافة المعاصرة التي تشحن الانسان بطاقة اكبر لفهم ذاته وموقعه مرمزا لها بـ(روما)، ولا بد أن لعلامة الاستفهام هنا دلالة في ترك الخيار للقارئ ليتأمل بنفسه ويجيب.
إن أنا طوعت روما خطأ يغفر التاريخ لي أندلسي ؟
هل عن خطأ ما نتج اكتشاف عمار لقصائده هذه ؟ هل يريد ان يقول لنا ان أخطاء المتميزين هي التي تثمر عن اكتشافات مذهلة تغير العالم؟ وهل يستحق أن نصف هذا الخطأ ممثلا بالتفكير والعمق تسمية (الخطأ العبقري)؟