د. اسعد الامارة
لايوجد إنسان لم يتعرض لمداهمة الألم في عالمنا المعاصر هذا العالم الذي يعد وجود الانسان فيه وجود مقترن بالألم .. لان الألم اصبح شعار وجودنا ،لن يستطيع انساننا ان يفارق الألم من الألم البسيط الى الألم الكبير .
الألم يرافقنا في دقائق حياتنا فهو يحاصرنا اذا فشلنا في تحقيق النجاح ونتألم حينما نُجرَحْ من احد الناس او يسمعنا الاخر كلمات قاسية او حينما تعاكسنا الايام ونجد الصعوبات في المواجهة لتحقيق طموحاتنا ، وهذه الالام معنوية ودوافعها الخفية نفسية وهناك الالام الجسدية التي نشعر بوطأتها ونحن نجلس على كرسي طبيب الاسنان وهو يحفر السن او يتناول اللثة او يقلع الضرس الذي عانى البعض منه الألم لليلة بأكملها ،او حينما يداهم احدنا ألم الكلية او الكليتين وأخذ يتلوى وتضيق به سبل الخلاص من هذا ألالم او حينما يشعر المرء انه وقع صريع مرض به ألم شديد مثل الصداع او
الشقيقة وهو الم مزمن ومستمر او ألالم الناجم عن اضطراب الفصام “الشيزوفرينيا” حيث يضرب الدماغ بأوجاعه وألامه ولسنوات وهو من اقسى الاضطرابات العقلية لما فيه من الالام مبرحه لا يتحملها الانسان وكذلك اضطراب الاكتئاب الميلانخولولي – السوداوي وهو الاشد على المريض في الاضطرابات العقلية حتى تعصف بالانسان الافكار السوداوية التي تؤدي بصاحبها الى الانتحار الحتمي والاكيد ، اما ألالم الجسدي الناجم عن حادث سير يؤدي بصاحبه الى تهشم الاطراف وربما بترها او فقدانها ، حتى المسكنات المهدئة لا تجد مفعولها في تهدئة حالة الألم لشدته ، فربما لا يتحمل المصاب او
المريض الالم فيموت من شدة الالم بسبب النزف او المضاعفات الناجمة عنه بل من شدة الالم الذي لا تقوى أجهزة الجسم على تحمله فيموت الانسان .
تعرض لنا الادبيات النفسية وكتابات علم النفس ان حياة الانسان قائمة على مبدأ اللذة والالم وهو صحيح تماما فما يوجد بالحياة يحكمه هذا المبدأ وهذه الرؤية تقودنا الى الوقائع السيكولوجية التي ترى ان ساعات اللذة قصيرة جدا وسريعة ولكن دقائق الألم طويلة وقاسية وهذه الحقائق صحيحة تماما وواقعية فكم شخص منا داهمه الالم ومضى ليلته وهو يتلوى او ينتظر معين او فرج يخلصه من هذا الالم او معرفة خبر ما عن موضوع آرقه لليالي وايام وسبب له الازعاج والالم النفسي كأن يكون وضع في سجن وضاعت الاخبار وصار البحث عن بصيص الامل الذي يمكن ان يخفف الالم .. أمنية ، او غادر
وانقطعت اخباره ولم يعثر له على خبر وسبب الالم لوالديه او لاسرته او من يعيلهم ..إنه الالم بكل اشكاله .. رضينا ام أبينا !!!
الالم واضطراب السلوك:
مما لاشك فيه ان الالم يسبب اضطراب ملموس وواضح في السلوك لدى المتألم فهو يعكر المزاج ويدفع صاحبه الى ان يفقد السيطرة على التصرفات او الانفعالات مما يصدر عنه تصرفات غير متلائمة مع السلوك العام ولكن يقبل منه هذا السلوك حتى وان كان شاذاً او غير مقبول لان ذلك يرتبط اساسا مع وظائف دماغية تهيمن على السلوك واتخاذ القرار خصوصا فيما يتعلق بالانتباه او التركيز او السيطرة على التصرفات فمثلا الالم الذي يسببه جرح في القدم ضمد بلفاف مما ادى بصاحبه الى ان تتغير مشيته ويسبب الالم عند المشي فإنه لا يأبه بالاخرين بقدر ما يستطيع تخفيف الالم .
إن الالم يجعل الحياة مستمرة والشعور به رغم شدته هو استمرار بالحياة وليس نقيضه بمعنى ادق استمرار بالحياة مع الألم .. فمرضى السرطان يشعرون بألم لا يطاق ولا يوصف من شدته حتى تعجز كل مسكنات الالم من تخفيفه او الحد منه فألالم مرتبط باستمرار الحياة ما ان يتوقف الالم عند المريض حتى تنتهي الحياة لدى المصاب بالسرطان ويكون قد غادر الحياة واستسلم للمرض وانهاه .. وعندها تنتهي المواجهة في التغلب على المرض او صده وهو حدوث وفاة الشخص وانتهاء مقاومته ، اما في الامراض الاخرى فلا يعني استسلام المريض للالم بأنه انتهاءه وانما هو ربما تخفيفه او زواله شيئا فشيئا .
إن الالم الناجم عن مرض ما او اضطراب نفسي او عقلي لا يداهم الشخص فجأة وانما بالتدريج حتى يستفحل ويصل ذروته ثم يتراجع فهو اذن يأخذ دورة كاملة مثل دورة الولادة والنمو والنضج والشيخوخة ، وهي تشبه تماما دورة الحياة عند الانسان .
يقول العلماء ان الناس يعتقدون أن الالم ما هو إلا نتيجة إصابة لحقت بالجسد او مرض ألمّ به غير ان العوامل النفسية تحظى بحصة كبيرة في إدراك الالم ولها التأثير القوي والمباشر في السلوك والتعامل واختلال التوازن بكل اشكاله حيث يرتبط الالم برباط وثيق مع وظائف دماغية تسيطر على السلوك وصنع القرار لاسيما التوقع والانتباه واختلال الادراك مع التفكير المرتبك الممزوج بالخوف والشدة والمزاج ، فالالم يربك ويغير خياراتنا في القرار الصحيح مما يسبب اختلالات سلوكية واضحه وربما قرارات خاطئة تحت وطأة وشدة الالم لانه يصل في شدته وقوة تأثيره الى صميم انفسنا ..
واصاباته مبرحه لشدتها ودائما المتألم يبحث عن اية وتيرة تخفف عنه الاصابات المبرحة الناجمة عن شدة الالم وقسوته.
ان الافراد حينما يتعرضون الى موقف اصطدام بحادث سير او اصابة في ميدان المعركة سواء بين الجنود المتقاتلين في المعارك او الشرطة التي تطارد مجموعة خارجة على القانون تستهدف المواطنين فيصاب احد الشرطة باصابه او حتى احد افراد العصابة ربما يصاب باصابة أثر المواجهة او ما يحدث في ملاعب كرة القدم او السلة او لعبة التنس او مباريات الملاكمة مما يسبب في رضوض شديدة في اجزاء مختلفة من الجسم لاتظهر شدة الالم عند او اثناء الموقف بل بعد انتهاء الموقف وزوال المواجهة فتظهر الاصابة ويشعر صاحبها بالالام مبرحة ، هذه الاصابة قد تؤدي الى اصابات جسيمة تؤدي الى
البتر او الى الكسر المسبب للعوق او الى اصابات نسيجية حادة لايظهر تأثيرها مباشرة إلا بعد ان ترتفع شدة الالم ووتيرته ومعه شدة الخوف من المجهول لدى المصاب حيث يلوح في الافق الخوف النفسي لدى المصاب ويزداد لديه علامات الضغط النفسي “الضغوط الناجمة من فقدان جزء من الجسد” بسبب الحادث او الاصابة التي تعيقه من الاستمرار باللعب والاعتزال المبكر من الملاعب او حلقات حلبة الملاكمة ..الخ ، ان هذه الهواجس والمخاوف التي تسبق قرار الطبيب تكبح جماح الالم وشدته ولكن بعد ان يعرف المصاب قرار الطبيب الذي لا يحمل معه الخطورة تبدأ الالام لتترقى شدتها في الالم الذي لا
يطيقه المصاب وهذا ما سماه علماءالنفس المعاناة من الالم والذي يمكن ان تؤدي الى الكآبة وهناك مقولة نفسية مهمة تؤكد على ان آلام المرء تترقى وترتفع شدتها في حالة التفجع او التفجع الألمي
Pain catastrophizing
والتفجع الألمي هي حالة يتوقع المبتلى بها ويخشى من ان ألمه سيكون مهولا وغير قابل للعلاج او تصور الالم أنه من المتعذر تحمله بل قد يزداد سوءاً.
ان الرؤية النفسية الحديثة لا ترى في القضاء على الالم ولم يعد مجرد السعي وراء التغلب على الالم والحصول على اللذة بتخفيف الالم وانما القدرة على التغلب على الالم بقبول الالم ذاته اسوة بقبول السعي وراء اللذة والتغلب على الالم ، فالمتألم الذي يبدأ بالالم ويحضر للطبيب أملا في ان يساعده هذا على التغلب على الالم يجد علاجه في تقبله للألم وبالتالي يكون اقدر على الاحساس باللذة.
ان الحقيقية النفسية التي ترى ان المرء الذي لايشعر بالالم لايشعر باللذة وان الصحة النفسية هي ليست انعدام الالم في حد ذاته ولكنها تشمل ايضا القدرة على تقبله وان الرغبة في احلال اللذة محل الالم ليست إلا وهما ناتجاً عن الانحياز تجاه جانب في صراع الاضداد – الالم واللذة – وبالتالي فهو مستحيل ، ان حياتنا كلها قائمة على اللذة والالم والعكس صحيح بعد الالم تأتي اللذة .