عبدالامير الركابي
يهدف هذا الراي، الى الانتقال بالنقاش الدائر اليوم بين ” الطوائف” الاسلامية، ومن يعتبرون ممثليها، الى المستوى او الافق الذي بلغته، وتبلغه هذه المسالة الهامة والخطيرة، فهذه القضية تعدت اليوم، النطاق التقليدي العادي،لصراع الطوائف، ولم تعد البداهات الثابته، او الجامدة المستمدة من مناخات ماضية، ترجع الى ايام حكم العثمانيين والمماليك، قائمة، ولاهي مبررة، او تتمتع باي قدر من الصحة التاريخية، بما في ذلك اهم مرتكزاتها. ومنها “الاغلبية العددية المطلقة ” التي تستند اليها، او يراهن عليها التسنن السلطوي، والاخطر من كل هذا، الجانب المتعلق بالديناميات التاريخية للاسلام، وزاوية النظر اليها، ومدرسة وممارسات تحريفها وتزويرها، من منطلق الجمود وفقدان الفعالية والحيوية التاريخية. فالتسنن في التاريخ الاسلامي، لم يكن في يوم من الايام، ولاكان بالاصل، مصدر ابداعية او حيوية، كما انه تجنب دائما العقل والمحاكمة العقلية، وكرس ماهو قائم، او ماوجد قائما في العصر الحديث وكانه حقيقة ابدية، او وكان الاسلام حتى بمكوناته الحالية، وتوزعاته الطائفية، لاينطوي في تضاعيفه، على ديناميات مفضية الى تغيرات واحتمالات انقلاب، خاضعة لمعطيات العصر ومؤثراته
.
وعليه فان التسنن يتحاشى التساؤل البديهي عقليا، كما يرفض التاريخ،ويتهرب منه. هل ان واقع الاسلام العربي،و كما وجد عند نهايات الفترة العثمانية، هو حقيقة نهائية، او هو قدر اسلامي ثابت، ام انه بالاصل، تعبير عما كان عليه او استقر عنده اسلام العرب؟ فهؤلاء يتصورون بان الاسلام التركي المماليكي، الذي استقر اخيرا على انقاض النهضة العربية، هو الحقيقة العقيدية للمسلمين العرب، الامر الذي لاتؤيده اطلاقا وقائع التاريخ، ولا تطور الاسلام والفتح وماتلاه، من قيام الدول والامبراطوريات العربية الاسلامية في الشام وبغداد، وصولا الى انهيار هذه الاخيرة. وحتى القرن الثالث عشر، حين انهارت الامبراطورية الاسلامية العربية، بانهيار عاصمتها بغداد، لم يكن التسنن هو الغالب او المنتصر في العقائد العربية المسلمة، فلا في العراق، كان الامر كذلك، ولافي المغرب العربي ومصر، ولا في الشام بناء عليه. والذي حقق التغيير في هذا التوازن، هم المغول والمماليك، ثم تبعهم العثمانيون، وبالاصل، فان التسنن لم يصبح حاضرا في مركز الخلافة في بغداد، الا مع خلافة المتوكل، وهو العهد الذي سيطر فيه الترك على مركز الخلافة.
وعليه فان السردية التي يكررها البعض، وينامون عليها مطمئنين ومصدقين، ليست صحيحة على الاطلاق، بل الاصح مايعاكسها تماما، فالتسنن انتصر بقوة الاقوام المسلمة غير العربية، ولم يكن يلبي المزاج والطبيعة العربية، كما انه ترافق مع، وارتبط ب انهيار الحضارة العربية، وتراجعها، ووقوعها تحت هيمنة القوى والاقوام الشرقية التركية والمملوكية تحديدا، وبغض النظر عما يلجأ اليه البعض، محاولين اسباغ الصفة الاسلامية على الانتماء التركي والمملوكي، فيتجاوزون على العروبة التي هي ” مادة الاسلام”، الا ان ذلك لاينفي الحقيقة التي ظل العرب والمسلمون العرب، يصرون عليها، مؤكدين الاهمية النوعية لدورهم في الرسالة . وعموما ومهما يكن، فان زعامة عربية للاسلام، كما كان الامر حتى قبيل سقوط بغداد 1258، ليست مثل السيطرة التركية المملوكية عليهم، ولااحد يمكنه ان يقول، باي مقياس، بان العرب كانوا ناهضين حضاريا، ايام سيطرة الاقوام المسلمة غير العربية على العالم العربي، بل منهارين ومتراجعين ومازالوا.
اذن فالحقيقة التاريخية تقول، بان مسارات الاسلام بعد الفتح، انتهت الى انتشار التشيع، من العراق الى بلاد فارس وباكستان، وغيرها من بلدان المشرق، والى الجزيرة العربية، والبحرين واليمن والخليج ، وشمال افريقيا ومصر. وهذه الموجة هي الموجة الثانية، من الانتشار والفتح العقيدي، قامت بها حركات فكرية وسياسية متلاحقة، ظهرت في العراق الجنوبي، وانتشرت في المنطقة، ابتداء من الخوارج الى التشيع بتياراته، الزيدية والكيسانية والامامية الى الاسماعيلية، وصولا الى القرمطية. بينما لم يعرف التسنن حركات شعبية انتشرت في المنطقة، وطالما كانت المنطقة العربية في حالة صعود وحيوية حضارية، وتفاعل. انتصر التشيع باشكاله وتياراته المختلفة، وكان تعبيرا عن نصاب عربي، يعكس مفهوم العرب للاسلام، ويوافق الطبيعة العربية، الامر الذي انقلب، لاحقا وتحول الى هزيمة للحضور العربي، ودليل غياب العرب وانحدارهم، مع سيطرة غيرهم عليهم.
ومانشهده او شهدناه، هو التاريخ الذي يبدا من الدولة الايوبية. ويستمر بعدها حتى اواخر الدولة العثمانية، وليس فيه مايدل على عودة الحياة، او الحيوية الى العرب، الذين يبداون تاريخهم الحالي الحديث، بحركة احياء منتكسه ومختنقة، هي “الوهابية” التي ارادت ان تكررعملية ” الفتح ” في العصرالحديث، وفشلت بعد محاولات يائسة، اظهرت انها لاتتعدى كونها حركة وطنية جزيرية ” سعودية”، غير قادرة كما تدعي على تكرار الماضي الاسلامي الصافي، ولا ان تستوعب او تستعيد الرسالة المحمدية من ” اصولها”، ولولا النفط وعوائده، لكانت هذه الحركة، قد عرفت في اوقات لاحقة مصيرا غير حميد، بالمقابل لعبت مصر، منذ تجربة محمد علي دورا رمزيا في تكريس زعامة التسنن، وقد انتكست هي الاخرى، كما انتكست بعدها تجربة عبدالناصر، بينما بدات تظهر حدود قدرة مصر على التاثير في المنطقة. والتسنن هو الذي انجب ” السادات” و” حسني مبارك ” وفتح باب الاعتراف باسرائيل. كما ان المملكة العربية السعودية وسياساتها في المنطقة والعالم، لاتدل على اية حيوية، او تناغم مع الحياة والعصر، وهي نموذج بال ومتخلف، ولايمت الى حيوية الاسلام وروحه بصلة، ولاتشير الى اي افق او امل، يمكن ان يجيب على تطلعات امة طامحة الى العصر والحياة والمستقبل، وهي الان تعطي مؤشرات على الترهل، واحتمالات التفجر من الداخل على مستوى القمة.
لاتوجد اية حيوية نابعة من التسنن، لااليوم ولا في الماضي، وهذا التيار في الاسلام، لاينتمي الى الجانب المحرك في حياة الامة، ولايعكس روحها او توثبها التي هي اليوم بامس الحاجة اليه، فهو فكر جمود وتكلس وطغيان، لم يعرف من الثورات غير ” بن لادن” وحركته الظلامية الخالية من اي مشروع، او وفي افضل الاحوال، ” تكفير العالم “، لا التفاعل معه وطلب الانتصار عليه، كما فعل ” السيد قطب ” معلم بن لادن، والسلفية الجهادية. كل هذا التردي المفهومي والعملي، يقابله الميل الى التفاعل مع العالم ومستجداته، ” محمد باقر الصدر”. ونظرية تجديد النهضة الوطنية الايرانية ” ولاية الفقيه “. ولايعني هذا او غيره، ان الامر يتعلق الان باحتدام او تجدد الصراع الطائفي، بل يعني ان الاليات التاريخية في المنطقة، حين تتراكم فانها تنحو نحو تجاوز الجمود. وان التسنن والحالة هذه، يبدا بالتراجع والانحسار، وليس من الحتم ان يعني ذلك انتصار التشيع بصيغه الحاليه، او الامامية المعروفة. الا ان ديناميات النهوض، تسير الان، نحو اختراق السقف التركي المماليكي واثاره وبقايا هيمنته، وحيثما يواصل بعض المفتين السنه في السعودية والخليج، الهستيريا ضد التشيع، فانهم لايقولون شيئا يستحق النقاش، ولايكررون سوى شتائم مستمدة من ترسانة بالية،مصدرها قرون الظلام، وترسانة الفترة العثمانية، بينما لانرى او نسمع عن اي ميل او نزعة للتجدد، او محاولة الخروج من سياق الموت التاريخي، ناهيك عن استيعاب مقتضيات التاريخ والعصر.
مهم اليوم ان نرى في الضجيج الطائفي المتصاعد، لحظة مخاض، ربما تتجاوز التسنن والتشيع، وقد تظهر بان الاسلام، اذا كان مايزال حاملا من حوامل التاريخ، القابلة للحياة والتجدد، فانه لابد ان يشهد عودة الحيوية، بصعود راهن ومتجدد للتيارات و” الملل والنحل” داخله، الامر الذي يدل على الحياة والحيوية، لاعلى خطاب الفرقة التي يدعيها التسنن الرسمي ، باسم تكريس الجمود المعادل للموت. يكرر التسنن الرسمي اليوم ايضا، دعوات وحدة الامة، وهو يريد فرض نظرة واحدة،ورؤية احادية جامده، فيظهر عصبية وتوترا واضطرابا، بينما هو قد فقد كل مبرراته وحججه، وقد انفتحت الافاق، لمزيد من تجدد وصعود التيارات والرؤى ” والنحل” من جديد، فاذا استمرهذا الاتجاه بالتصاعد، فان حضورا عصريا لاسلام متجدد، قد يبدا يلوح في الافق.