————————————————–
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2014
الفقرة (7)
تُستهل بحنين رجاء إلى بيت أهلها وذهابها إلى زينب التي لم ترد عليها ، فقد قررت الأخيرة ألّا تكلم أحدا هذا اليوم إلّا الله ، فهي تستعيد ذكرى الإغتصاب الفاجعة نهار 28/9/91 م . ستحتفل وحدها مع الله وبين يديه (هكذا نبدأ برجاء التي تفكر في زيارة بيت أهلها وتحنّ إليهم لنتوقّف عند زينب ونحن على الطريق السردي !!) ، وها هو طارق يداهمها وهي تصلّي :
(اجتاحها من دون أي مقدّمات . لم يمط من ثيابها إلا الموضع المخصص للإيلاج . أزاج كل ثيابها إلى الأعلى فغطّت وجهها أيضاً . لم يرها . ولم تره . كان فحيحه يتصاعد) (ص 167) .
وتبرع نبيلة الزبير في وصف حال زينب الضحّية بعد اغتصاب زوجها لها (وأرجو من السادة القرّاء العرب أن يراجعوا تعريف الإغتصاب علميّاً ليجدوا كم من أفعالهم الجنسية مع زوجاتهم تقع ضمن هذا التعريف !) . لقد غادرها إلى الحمام ، وحين عاد وجدها لم تزل على حالها تلك ؛ لم تتحرّك من مكانها ولا ثيابها عادت إلى موضعها . حاول أن يصالحها بسلسلة ذهب ثمينة !! لم يكن رد فعل زينب مثل رد فعل زوجته الأولى بشرى التي استفتت أهل العلم فقيل لها جمعتِ بين الطاعتين : الله وزوجك ! (ص 168) . زينب ظلت على حالها .. يومين .. ثلاثة .. لم تأكل .. لم تتحرّك .. لم تذهب إلى الحمام . تقطّع قلوبنا نبيلة الزبير وهي تصف مشاعر زينب المحطمة :
(زينب على حالها تلك منذ ساعات ، ربما منذ سنين ، نصفٌ محجوب ونصفٌ مسفوح . امرأة في العراء لا شيء يسترها ، ، لا أحد يقف بينها وبين أن تُهتك حتى الله) (ص 168) .
ولو انتهت الرواية عند هذا الحد لكانت من أروع الروايات .
المهم أن الرواية تشي بحب نبيلة الصارخ لبطلاتها ، تتماهى مع آلام غانياتها الحزينات بإخلاص وروعة . تماهٍ حتى لو كلّفها التحرّش بأعظم سلطة مرجعية التجأت إليها زينب ذاك اليوم بعتاب ممزّق ؛ اليوم الذي أرادت أن تختلي فيه مع الله فداهمها الشيطان المسكين . فطارق ، حين تراجع سلوكه ، تجده ، بدوره ، مسكيناً .. ضحية أخرى تلفظها تلك الآلة الجهنمية التي تسمّى العائلة :
(.. لكن ذلك اليوم اختارت أن تكون مع الله ، بين يديه وحده ، تحمده وتسأله أن يشفي جراحها . بدا كأنه جل وعلا يركلها بقدمه ، ويقصيها عنه . فجأة أعاد الحدث نفسه ، ليس في شريط مصوّر بالصوت والصورة ، بل الحدث نفسه بواقعة حيّة . أيّ ردّ هذا يا ربّي ؟! – ص 172) .
ترى ما كان ضر نبيلة الزبير لو صممت الرواية بطريقة بحيث يكون هذا المشهد هو ذروتها ولحظتها الفاصلة ؟ تبقى زينب نصف عارية وثوبها على رأسها منتهكة إلى أن تموت ؟ تطوّره لينتهي بموت زينب ؟ .. ها .. ما ضرّها ؟
الفقرة (8)
يأتي مشهد ألحق بالذروة العظيمة السابقة الهزيمة الفنّية ، وأصاب مسرى الحكاية بالبرود ، فها هي زينب – وكأننا ما رحنا ولا جينا يا أخوان – تقف أمام المرآة تتمكيج لزوجها وتتفنّن كي ترضيه . واستعملت قارورة Touch of pink التي عرفت – كمحترفة – أنها قد أثارته من قبل . لكنه يواجهها ببرود ، يصدّها بعد أن طلب منها أن ترقص ولم تفلح . عجزت عن فهم هذا الرجل (ص 172 و173) .
الفقرة (9)
حوار داخلي (مونولوج) يجري في فكر طارق فنفهم من خلاله المصيدة المعقدة التي علق بها في علاقته بزوجاته الثلاث : بشرى وندى وزينب . أعادة لمعلومات سابقة وإضافات جديدة أهمّها الدور الحاسم الذي لعبته “لحيته” في ترصين نظرة الناس – وهم سطحيون بطبيعتهم – إليه واحترامهم له وعدّهم إياه رجلا صالحا يصلح لبناتهم . كان يستطلع زوجاته حول رأيهن باللحية وتأتي الإجابات متناسبة مع شخصياتهن وميولهن .. وفجأة . تأتي فقرة مباشرة تصف طارق وهو يذهب بلا تخطيط مسبق إلى وزارة الأوقاف والإرشاد ليقدّم اعتذاره عن سدانة الجامع . بدأ يصلي في جامع آخر . ثم أصبحت صلواته في البيت فقط (ص 177) . كل ذلك لنتأمل تذبذبات سلوك طارق واعتلال شخصيته الذي صار مصدر عذاب وإرباك له وللآخرين من حوله .
الفقرة (10)
رجاء في بيت زينب التي ترتمي على صدرها باكية (كانت تريد التخلّص منها في بداية الرواية) . لم تسعفها خبرتها في “إدارة” الرجال عبر سنوات البغاء الماضية في “إدارة” طارق والتعامل المريح معه . رجل معصوب ذو سلوكيات طفولية متقلبة تعجز أكثر الأمهات صبرا عن مداراته وهدهدة متطلباته المتقافزة . الرجل الذي لم يعثر على ذاته قبل أن يرتبط بامرأة لن تستطيع هذه المرأة أن تجدها له ابدا . من الممكن أن تضيع معه .. يدوّخها هذا الطفل صاحب الجلالة كما يصفه معلم فيينا . كان يعتقد أنّه بارتباطه بزينب قد حصل على مصدر لإشباع لا ينضب . لكنها فشلت في الإستجابة لطلبه الأبسط – حسب تصوّره – في أن ترقص له . كان جسدها متخشبا فلم تستطع . لقد جفّفت روحها سنوات الضيم ، فتخشّب جسمها . الرقص يبدأ أولا في الروح ، مثلما يبدأ الإنتصاب في اللاشعور أولا . كلاهما في محنة . يدخل طارق فجأة وتخرج رجاء مقتنعة بأن طارق رجل غريب الأطوار (ص 178و179) .
ندى تتفقّد قنينة عطرها الـ Touch of pink فلا تجدها . شكّت في الشغالة . ثم فكّرت في طارق الذي تحوّل من الغيرة الخانقة عليها إلى البرودة وتبلّد المشاعر (ص 180) .
الفقرة (11)
طارق يشدّ زينب من يدها ويخرجها من المطبخ ويجلسها أمامه في الصالة . يدلق محتويات كيس بلاستيكي أمامها . كلّها مواد نباتية وعقاقير تساعد على الإنتصاب ، مبينا لها أنها كلها لم تساعده ولن تساعده من دون معونتها !! أخذها إلى السرير للتطبيق الفوري . أنجز مواقعتها . شجّعته . أخرج من جيبه بضع أوراق نقدية ووضعها في يدها . مشهد مُستهلك هذا الذي يخرّج فيه المختصون منفذا للرجل العنين بمعاملة زوجته كبغي يسلّمها أجرها بعد أن يضاجعها . بعض الرجال ينربطون أمام المرأة المحصنة التي تتصرف وفق القواعد المرعية .. لا تتقطع قيود عنتهم إلّا مع النسوة الملوّثات . إنجازهم مع البغايا يكون أعلى من إنجازهم الجنسي مع زوجاتهم وأكثر إثارة للمتعة والإشباع . كم رواية عربية وعالمية تناولت هذه الثيمة ؟ كثير . لكن التناقض يكمن في أن طارق جاء بزينب من قسم الشرطة ، وهو يعلم تماما أنها بغي .. ملوّثة أصلا . فما الذي سيزيده فعل دفع الأجر لدينا كقرّاء من إدراك لأسرار عجزه ؟ صار دفع الأجر لديه عادة . يضاجع .. يدفع .. ثم يغسل باهه فورا ويخرج . وزينب تتصل برجاء لأول مرة منذ تزوجت لتأتي وتشرح لها ما يحدث . المشكلة أننا كقرّاء صرنا نعرف دوافع ما يحدث من مقدمات سلوك طارق . لكن جرأة الكاتبة تكمن في توسيع النظرة ؛ في الإنطلاق من هذا الفعل “العصابي” إلى “التدعير” الجنسي الأشمل المسكوت عنه اجتماعيا والذي يتمثل جانب منه في ما تقوله رجاء لزينب الآن :
(إسمعي عندي مقترح . لكن اسمحي أقول لش أولا : فيه زوجات كثير يأخذن فلوس من أزواجهن في السرير ، أو بسببه . يعني زيما ناخذها إحنا باختصار) (ص 184) .
الفقرة (12)
اقتنعت زينب – ووفق مقترح رجاء – بضرورة توظيف خبرتها لإسعاد زوجها وإشباعه . صارت تنظّم له سهرات بملامح غانية . مكياج كثيف أعجبه .. قميص نوم بقطعة داخلية خلاف ما تعارف عليه .. ورائحة رخيصة أثارته . وصارت تطلب منه برفانات ثمينة يجلبها من باريس فورا !! ترقص له وهو يصفّق . أشبعه تجلّي المرأة الملوّثة وانبثاقها من لاشعوره . تحسنّ أداؤه في كل المجالات : في عمله .. في علاقته بزوجتيه .. بأولاده بعد أن أهملهم بضع سنين . قد يتساءل القاريء لمَ لمْ تعجبه صورة المرأة الملوّثة التي جسّدها سلوك ندى ووقاحتها في ليلة الزفاف ؟ لا أدري .
لكن فجأة تراجع كل شيء وانطفأ التوهّج النفسي الذي ساد الطرفين : زينب وطارق . صارت زينب “متخشّبة” في فراشها لا تتحرك ولا تتناول الطعام .. فطلب لها طارق صديقتها رجاء وخرج .
الفقرة (14)
رجاء منقطعة تماما للعناية بصديقتها زينب التي تتدهور حالتها الصحية بسبب سوء التغذية كل يوم . يحرجها حضور طارق وجلوسه على سرير زينب قريبا منها . وها هو يفاتحها بالزواج !! يفاتحها بالزواج وقد صعقته رائحة الخمرة المنبعثة منها ليلة وصولها بعد أن قطعت جلسة مدفوعة مع أحد زبائنها !! تردّه .. فيخرج بلا عودة . ومع شمّه رائحة الخمرة من رجاء ، يتداعى إلى مخزون ذاكرته الشمّية حيث التستر في الطفولة على رائحة الخمرة التي يشربها ابوه مع ضيوفه في سهراته ، وتصنّت الأم عليها . كل طفل في مجتمعاتنا المسحوقة تنمو لديه ما سمّاه معلم فيينا بـ “عقدة الإنقاذ” . عقدة أو مركّب نفسي ، تستقر في أعماق اللاشعور تتمثل في تصوّر لاواعي مكين – له في حياتنا مبررات واقعية قوية – عن حاجة الأمّ – موضوع الحب الأول للإنقاذ . جانب من هذا التصوّر أراه جزءا اساسيا من المركب الأوديبي . فبفعل الإمتلاك الأبوي لموضوع الحب المشترك واستئثاره به والإزاحة القاسية للمنافس الشريك الذي لا تتوفر لديه الإمكانات الإدراكية لمبرراتها ، ينمو إحساس بالقهر يعادله امتياز الحماية الأبوية ، وشعور بحاجة الموضوع المشترك للإنقاذ . ينعكس هذا في خيالات الولد وفي سلوكه . ولا نستطيع تبرئة حتى السلوك السياسي المتحمّس المفرط من بقايا هذه العقدة . لكن يبدو أن معلّم فيينا كان “مسترخيا” “حَبَّة” حين شخّص هذه العقدة وتحدّث عن آثارها “كاستثناء” مرضي في مجتمع غربي متفتح على علاقات شبه متوازنة بين طرفي المعادلة : الرجل والمرأة . في مجتمعنا أعتقد أن اختزان هذه العقدة هو “قاعدة” سلوكية وليس استثناء مرضيا . وفي مواقف عديدة كانت الكاتبة تذكّرنا بمقدار الإنذلال والقهر الذي تتعرض له الأم – موضوع الحب الأول – على يدي السلطة الأبوية في البيت الذي نشأ فيه طارق :
(حتى أمّه كانت تجلس قريبا من الباب الموصد . تستمع ، وربّما تستمتع بالغناء يصدح من بين صليل الكؤوس ، واصطدام القوارير ، وأصوات النساء ، بين كل ذلك الخليط من الأصوات كان ثمة نساء ، يخرج تمايلهن ورقصهن من الشقوق نفسها . كلماتهن غير المفهومة وقهقهاتهن كانت تنبعث . يراها وقد صارت دموعا في وجه أمّه) (ص 188) .
كان الأب يستهتر ويسكر ويخون ويكفر ، والأم صابرة على هوانها . في هذا البيت بُني لاشعور طارق وتأسست لبنات عُقَده السود الحاكمة . في بيت الطفولة نتدرّب على أساليب الحُكم في بيت الرجولة .
وفي هذه الفقرة ، انطفأ أو خفّت موجات التأثير النفسي لاضراب زينب عن الطعام لأسابيع كما خمّن الطبيب . لقد وصلنا الذروة من الناحية الفنّية في تلك اللحظة المباركة ، سردياً وفنّياً ونفسياً ، التي ظلت فيها زينب ممدّدة عدّة ايام مهدورة الكرامة بنصف عار ونصف غطّاه ثوبها الذي وضعه طارق على رأسها وهو يضاجعها . أنا دائم التكرار لقاعدتي الذهبية التي أقول فيها : (القصة القصيرة فن والرواية علم) .
الفقرة (15)
طارق مع ندى يراجع ذاته وهو في حالة الخراب الشامل . فقد شحّت أمواله .. وهو ، وقد عاش طفيليا على ثروة أبيه ، لم يستطع امتلاك أي مهرات مهنية تعينه على العمل ؛ أي عمل . لم يكن رجل عمل أو تجارة بأي صورة . “لحيته” – وهذه التفاتة بارعة من الروائية – كانت جواز مروره نحو الجاه والنفوذ والثروة . إن واحدة من أخطر النتائج البنيوية العميقة ، لا الشكلية المظهرية كما تبدو ، والتي أفرزتها موجات الإسلام الأصولي هي : اللحية . تصوّر مواطنا جواز مروره وملامح هويته في مجتمعه هو : لحية ! وتصوّر مجتمعا تغطّي “لحية” أفراده على كل المستلزمات الإنسانية الشخصية وتعوّض كل القصورات المهنية ! كانت مجتمعاتنا تفخر سابقا بالشهادة العلمية كامتياز كبير يضع صاحبه في موقع الوجاهة الإجتماعية . وكانت جموع الشباب تتنافس للظفر بهذا الإمتياز . أمّا الآن فقد صار الشباب عندنا يتخلّصون من عناء الإجتهاد والعلم بشهادة بسيطة على الوجه هي “اللحية” . لحية علومها مفتوحة للإفتاء والإمامة بيسر وبمراجع شفوية بسيطة . لا معادلات ولا ألغاز .. وبقدرة هائلة على “تخريج” كل المسائل والمعضلات . إذا كان “العالِم” يتحكّم بالدنيا .. فصاحب اللحية يتحكّم بالآخرة . حل من حلول الإختناق الحضاري الذي نعاني منه . اختناق لن نحصل على مخرج منه لمئات السنين ، فقد ختم على واقعنا بشمع العقيدة الأسود :
(اليوم عليه أن يعمل ! يعمل ماذا ؟ ما الذي يجيده .. لا شيء .. ولم يتم تعليمه طبعا .. أبوه كان يواكب الثورة في حلتها الجديدة . لم يكن وجهه صالحا لزراعة لحية ، استعمل وجه ابنيه . لحيته كانت هي التي كانت لها وظيفة . هي التي كانت تذهب إلى المكتب .. هو كان مجرد حامل من الخشب .. آخر العمود ثمة لحية ) (ص 191)
واللحية صارت في حياتنا تتكلّم . بل نحن الذين “ننطقها” كل على طريقته ووفق مخاوفه اللائبة وآماله المعطّلة وطموحاته الجريحة . صارت اللحية “علامة” حياتنا ؛ علامة بسيطة وغير مكلفة قادرة على إخفاء الكثير من مكبوتاتك وعقدك وصراعاتك التي يكلّفك انكشافها غاليا . وحين نتحدّث عن أواليات الدفاع النفسية المخفّفة للقلق في الصراعات النفسية والاجتماعية فنحن لا نتحدّث عن أواليات يسيرة التحقق نلجأ إليها للتهوين من لهيب القلق الذي يشتعل حين تهدّد إمكاناتنا الحقيقية وتوضع قدراتنا التكيفية على المحك ويوشك قصورها على الإنكشاف . إنّها عمليات مكلفة من الناحية الإقتصادية النفسية . كل هذه العمليّات العصابية المتعبة يمكن أن تغطّيها لحية . في أوالية “التكوين العكسي – Reaction Formation ” يقوم الفرد بالتعبير عن الدوافع المُستهجنة سلوكيا في شكل معاكس أو في شكل استجابة مضادة ، أي اتخاذ الفرد لاتجاه معين يكون مضادا لاتجاه آخر غير مقبول ومثير للقلق ، يقول الشاعر :
خبروها باني قد تزوجت فظلت تكاتم الغيظ ســــرا
ثم قالت لأختها ولأخرى جزعا : ليته تزوج عشرا
فقد يشعر الشخص الذي يسير وحيدا في شارع مظلم بخوف يتملكه ، فيأخذ يغني ويصفر ليبعث في نفسه حاله من السرور والاطمئنان ، وهي حالة مضادة لحالة الخوف. وهذا حال الكثير ممن يلتمسون من الناس ان ينقدوهم نقدا صريحا ، وفي نفوسهم تعتمل رغبة شديدة في الثناء ، والدليل انهم يغضبون حين يُوجه إليهم النقد . والاستكانة الظاهرة التي يبدو بها المريض بعصاب الوسواس تخفي وراءها بالفعل نفسا تموج بالعدوان والتحدي والعناد . بل أن الإسراف في التلطّف والتأدب أو التذلل لشخص معين ، كثيرا ما يكون غلالة تخفي وراءها عداوة لا شعورية له . كذلك الإسراف في الورع والزهد كثيرا ما يكون تمويها لا شعوريا ، أي غير مقصود ، على ميول شهوية أو عدوانية مكبوتة. والملاحظ أن أهدأ الفتيات وأكثرهن خجلا هن اللاتي يطلن أظافرهن بما يشبه مخالب النمر. وكثير من الرجعيين في مجتمعنا الذين يستغلون الدين في تهجمهم على سلوك الغير واتهامهم بالانحلال والفساد – أولئك هم الكفرة الفجرة – المجرمون في خيالهم الذين يخشون هذا في أنفسهم فيرونه في غيرهم ، فيعلنوها عليهم حربا شعواء ، وكم من مصائب ارتكبت على أيدي هؤلاء ممن يشغلون مناصب عامة يتحكمون من خلالها بالغير كمناصب القضاء و إدارة الأعمال وحماية الفضيلة ، ويُخشى من الأفراد الذين تتأصل فيهم هذه العملية ، القيام بأعمال عدوانية وتخريبية ونستشهد على ذلك بالجماعات المتطرفة دينيا . وفي هذا الخضم السلوكي الدفاعي الهائج الذي يصبح ضاريا في مجتمعاتنا المعصوبة المنافقة ، تأتي اللحية وببساطة لتعوّض كل شيء .. كل شيء .:
(إنّه حتى لا يتكلف كلاما يقوله للآخرين . للحية كلام يقوله الآخرون لأنفسهم كل على طريقته … من قائل إنه إرهابي جمع ثروة من وراء أخوانجيته .. ومن قائل أنه مؤمن يخاف الله أمواله حلال .. ومن قائل هذا حزبي ناشط …
كل هذا وأكثر ، فعلته اللحية وحدها . من دون أن تستعين به . بالكثير كان يضع يده على لحيته ، فيكون لذلك ألف تفسير) (ص 191 و192) .
نبيلة الزبير في رواية “زوج حذاء لعائشة” : القصة القصيرة فن والرواية علم (5)
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا