————————————————–
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2014
ولنلاحظ الآن سلسلة الإنتقالات بين شخصيات الرواية وبين الحوادث والوقائع . على الكاتب أن يحتفظ بحلقة مركزية تدور حولها الحوادث مهما كانت متراكبة ومتشعبة . هذه الحلقة المركزية هي النواة التي يلتم عليها جسد الرواية بلطف لكي تحفظ للقاريء تركيزه ومتابعته لمسار الحكاية وتضمن عدم تشتت انتباهته . فما الذي حصل في رواية نبيلة هذه ؟
الآن نحن نقف – خفية – وراء الكاتبة نراقب ما تقوم به ندى في شقتها من الصفحة 70 (ليلة الزفاف الجسور) ، مرورا بالصفحة 71 حيث شرت قمصان نومها ورتبتها بعناية ، وجلوسها على “تسريحة” التجميل وتذكّرها دورات الماكياج .. وتصنيفها لقناني العطور (ص 72) . ثم وضعها ماكياجا صارخا على وجهها .. فغسلها إياه لتبدو حورية خرجت من الجنة توا لتثير دهشة زوجها الذي اندهش سلبا (ص 73) ، ليُختم المشهد على الصفحة 74 بقول الكاتبة مبررة الإندهاش السلبي لطارق :
(خبرته في النساء اقتصرت على امرأة واحدة ، زوجته التي يعاشرها من دون أن ينزع ثيابها ؛ الثياب التي غالبا هي ثياب الصلاة – ص 74) .
ننتقل الآن وفوراً إلى مشهد جديد : طارق يلقي حزمة قات عند قدمي زينب فتندهش .. وتتداعى إلى الكيفية التي كانت تميّز بها الرجال الذين كانوا يدخلون عليها ليعاشروها من خلال “قاتهم” ، ولتستنتج أن زوجها “مُحدث” قات ، وأنه أرادها لجلسة خاصة لكنها لا تحب مضغ القات ، فخرج وغادرها لأيام (ص 75) . نقلة إلى عام 97 حيث مشهد يمارس فيه طارق الجنس مع زوجته – نعرف أنها ندى من التاريخ – لكنها إعادة مكرورة لا لزوم لها مادامت الكاتبة قد حدثتنا عن افتراعه لها سابقا . لكن ما يضاف الآن هو أنه يزجرها لتغتسل وتتطهر لنوازع دينية حارما إياها من لحظات استرخاء لا تعوّض (ص 76) . ثم نقلة مباشرة إليه ، وهو يمزّق قميصها الفاضح فتذهب ندى إلى أمّها ببقجة قمصانها المكروهة . تتداعى الأم لتخبرنا كيف تزوجت صغيرة ، وأنجبت ستة أولاد وكان “نفسها” في بنت ، فجاءت ندى لكنها تسرّعت في تزويجها (ص 77) .. ثم نقلة إلى كره طارق للتلفاز حين تنشغل به ندى .. يغلقه نهائيا .. تزعل ندى وتركض إلى غرفة النوم فيلحقها ويضاجعها بما يشبه الإغتصاب فتستمريء العملية (ص 78) . ثم وقفة مع طارق وهو يوافق على عودة ندى إلى المدرسة ، وغرابة سلوكه ، فكلما انهمكت بقراءة كتبها نغّص عليها ذلك . يتصرف بصبيانية ويدلق العصير على كتابها . ثم يأخذها ليتبختر ويشتري لها الكتب (ص 78 و79) :
(ستستأنف (الدراسة غدا) . كان ذلك طبعا بعد ليلة عاصفة من الشجار والبكاء والحنق ، تخللتها ثلاث ممارسات جنسية – ص 79) .
مناكدات ومماحكات جنسية بين طارق وندى التي تلسعه بسخريتها وهي لم تتجاوز الثالثة عشرة .. يرد عليها بأن ينيكها . وهنا تقدّم الكاتبة تفسيرا مهما لشكل من أشكال سلوك العبودية المغلّفة الذي يقوم به الرجال تجاه النساء :
(هذه المرة صفعها لكن ليس بيده بل بأن ناكها . لم يكن ذلك الذي فعله ويسمّيه الجماع ، أكثر من ردّ مغتاظ ، مسبّة ، نفس المسبّة والشتيمة التي يتلفظ بها أولاد الشارع في سبابهم اليومي . لا فرق إلا أن هذه السبّة ليست لفظية بل فعلية – ص 80) .
وفعلا ، فإن المرأة عندنا تنذل جنسيا بالتدريب والتعويد لتصبح الممارسة الجنسية “مسبّة” أو صفعة من الرجل يلطمها بها على وجه وجودها أو خدّه ، مثلما يلطم الزبون الغاضب أحيانا المومس المقصّرة على وجهها .
الآن نقلة إلى ندى ، وهي تشكو لأمها حرمانها من كل مصدر للترفيه ، فتستبقيها أمها ليأتي زوجها “ويربّونه” . ثم هجمة من الأخوة بسبب عبارة تلفظها عن الجنس بحق ندى ، ليغادروا بعد أن أهانوه آخذين معه ابنتهم والعمة سعدة (ص 82) . ثم مقطع عن طارق وهو يفكر بتغيير ديكور مكتبه في التجارة البائسة التي لم يفلح فيها ، بفعل سطوة أبيه المتحضر الذي يحضر المناسبات ببنطلون الجينز ، وندى تقارنه بزوجها ، ابنه ، الذي يدهن رجليه بالفزلين (ص 83) . ثم نقلة إلى 11/2/1998 يوم عودة ندى إلى بيت الزوجية بعد غياب ، ورأي طارق في أهلها قليلي الحياء ليضاعفوا قلة حياء ابنتهم (ص 83) . والآن الفقرة (10) عن رجاء ، وهي تقف أمام المرآة لتلتحق بدروس تعلم اللغة الإنكليزية وتستذكر أيام مراهقتها ، وكيف بدأت مشوار الدعارة بقيادة ابيها مكسور الظهر الذي تحوّل من أعمال البناء إلى بيع البطاطا والبيض المسلوق في عربة دفع كغطاء للسمسرة على عرض ابنته (ص 85) . إثنتى عشرة سنة من الدعارة تحنّطت فيها تلك الطفلة البريئة وقضي على نقائها . ها هي تعود إلى واقع اللحظة أمام المرآة فتقرر زيارة زينب بعد الدرس (ص 87) . نقلة ، أو ردة ، إلى عام 87 م حيث تستأجر عائلة رجاء بيت حميدة لتمارس فيه رجاء الدعارة بإشراف أمّها وأبيها هذه المرّة (ص 87 إلى 90) .. وهكذا تحسّ بأنك تقف وسط ما يشبه الفوضى السردية حيث تفتقد للخيط الناظم الذي يربط تلك الحلقات ويشعرك كقاريء بأن كل ما يجري سيصب أخيرا في المصب النهائي وهو حكاية “زينب” .
في الفقرة (11) تراجع رجاء نفسها وتتأمّل حالها كمومس بعد أن يتقدم بها العمر . هي الآن في السادسة والعشرين ، فكم سنة ستستمر في الدعارة .. عشر سنوات ؟؟ ستُركن حتما ، خصوصا مع غزو السوق بفتيات تنزل أعمارهن إلى الثامنة يتدربن بإشراف آبائهن !! برغم اتساع الطلب من قبل الخليجيين والنازحين من العراق والجنود الأمريكان ، فإن العرض يزداد أيضا . وهذا قانون السوق . وهي تحاول الصراع من أجل البقاء من خلال “تطوير” إمكاناتها بتعلم اللغة الإنكليزية التي يفضّلها الأمريكان من المومس الأكبر سنّاً .. الأمر بالنسبة لهم “ليس نيكة والسلام” (ص 93) .. الأمريكان الذين اكتسحتهم زينب ومن دون لغة بماذا ؟ (بطاعة الوالدين وصلاة الفجر حاضراً” (ص 93) . وهنا تضع الروائية الماكرة هامشاً توضح فيه مغزى هذه العبارة الغريبة فتقول :
(جملة يقولها الشارع منسوبة لأحد رؤساء اليمن في ردّه على سؤال صحافي : كيف اصبحت رئيساً ؟ )
وهي تربط بصورة مباشرة بين الموقفين التبريريين الساخرين ، فمثل هؤلاء الرؤساء هم أسوأ من المومس التي تتجه إلى عملها متسلحة بدعاء الوالدين وبعد أن تصلي الفجر . كان أحد الشعراء القدماء يقول :
قد بُلينا بمليكٍ حمد الله وسبّح
هو كالجزار فينا يذكر الله ويذبح
إننا نعيش مرحلة “تدعير” الحياة العربية على كل المستويات بدءاً من تحية “صباح الخير” ؟ الناس عندنا يتداعرون منذ الصباح حتى المساء ؛ قادتهم ومقودوهم .. رؤساؤهم ومرؤوسوهم .. رجالهم ونساؤهم .
وفي ختام مراجعة رجاء لحالها المؤسي وقلقها من المستقبل ، تأـي إشارة إلى زينب التي لم تعد تتحمل الكلام معها ، وصارت تجبّ واقعها بالتوبة (ص 94) .
الفقرة (12)
لم تفلح جلسة القات مع زينب ، وها هو طارق يفكر بتكرارها مع ندى ، فبشرى زوجته الكبرى تمقت القات وأخوتها يحاربونه . لكن مشروعه تغيّر حين شاهد ندى في الشقة لأول مرة بعد انقطاع عند أهلها . لقد نضجت كثيرا فصار يشك في أنها أجهضت .. أو .. إلخ . عاجل حيرته باغتصابها وتطليقها ، والطلاق على نكاح غير محلل (ص 98) ، ليعيدها بعد مدة وبعد أن أزالت زينب شكوكه بالقول أن البنت تنمو حتى الحادية والعشرين . ملخص القول هو أن طارق رجل معصوب بالنشأة والتربية والتدريب على العلاقة الجنسية بالمرأة .. شخصية غير كفوءة .. مهزوزة .. مترددة .. منخذلة . كان يضاجع زوجته الأولى بشرى لمدة سبع سنوات مداهما إياها وهي تؤدي واجباتها الدينية .. وهي تستمتع . ثم تحوّل مفاجيء إلى حيرة الأشخاص الذين يتعاملون معه بماذا ينادونه : استاذ .. شيخ .. إلخ .. وشيخ لم تثر استهزاء أبيه وسخريته المتوقّعة (ص 100) .
الفقرة (14)
عرض لمعاناة رجاء مع زبائنها . مهنتها مهنة عبودية لا يستطيع فيها العبد الإعتراض على رغبات الزبون إلا وفق قواعد محدّدة . وهذا زبون خليجي اغتصب روحها بالأسئلة التي لا تنتهي عن عائلتها ، وكأنها في تحقيق يستمر حتى الصباح عن كل فرد في عائلتها ، ولماذا لم يقم بالسلوك الفلاني ، ولماذا لم تترك المهنة .. إلخ . كلما صمتت كان يزجرها : “خبري” و”ويش صار؟” .. وإياها أن تكذب ! :
(“خبري” . لم يعد لديها شيء. أفرغها . ربما هي القارورة الوحيدة التي أفرغها إلى القعر. من دون أن تلامسها يده (…) يطرح سؤالا يقرب مما كانت أجابت عنه قبل قليل . يدور في مواجعها بمحراث . يبحث عن المؤثر ، والأشد إيلاماً ، يجمع أوجاعها ، يقطعها ، ويعاود رصها كمكعبات على الطاولة . هذا الشكل أفضل ؟ لا ، هذا أفضل ، بل هذا . ولا يكتمل الشكل ، يعود ليسألها : “ويش صار؟” – ص 103) .
إنّه في الحقيقة تمظهر آخر للإستغلال الطبقي . فمن يملك أكثر يستعبد المومس بدرجة أكبر واقسى وأشد إيلاما . لقد جرّبت أنواعا من الإستغلال الجنسي والإمتهان . لكن هذا الرجل اغتصب روحها . ولو تحمّلنا التأويل الضاري التالي لقلنا أنه بنفس الطريقة تغتصب أرواح شعوب كاملة عندنا . ألم تنتبهوا إلى المطوّلات الخطابية .. والجلسات المتطاولة .. والندوات التي يتربع فيها الشيخ الرئيس وهو يستعرض كل أحوالنا تفصيليا ، وأحوال شعوبنا وعوائلنا وما فعله لنا . إنه “التدعير” الكلامي الشامل .. وبالموافقة المعلنة أو المستترة . . ممارسة جنسية اغتصابية من اللسان إلى الأذن .. فالروح المستعبدة . وهذا التأويل – كما سنشاهد في المقبل من وقائع الرواية بوضوح – ليس بعيدا عن مقاصد الروائية . أبدا . إنّ الفلسفة الأساسية للكاتبة تقوم على هذا الفرض : أن الدعارة حالة “وطنية” ؛ هي روح كل السلوكيات الإجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية .. بل حتى الـ … وهي – الداعرة المستلبة – لا تستطيع الرفض فسيعاقبها القوّادون . والرفض مرفوض في كل المجالات .. في السياسة والمجتمع والثقافة . لم تستطع رفض طلبات الآخر الذي طلب منها أن تتعرى وترقص ولم يمسها .. يجلسها عارية أمامه لساعات (ص 106 إلى 109) .
الآن نقلة (أو ردّة) إلى عام 86
حيث شخص يساوم أبا رجاء على ابنته فينفجر في وجهه رافضا وباكيا . ثم انتقال العائلة إلى بيت حميدة وطقوس الدعارة فيه حيث يتحوّل الزبون من ضيف ابيها إلى زبون بعد التاسعة حين ينام أخوتها (ص109 إلى 113) وتحرّش علوان بأمّها وتعلّقه بها مدة طويلة على أمل أن يفض بكارتها !!
الفقرة (15)
مع نشوى في سكرها الدائم وسلوكها الجنسي الداعر مع الرجال ومع النساء ، ومنهن سماح التي تقاوم رغباتها السحاقية لكنها تفرّج عن مكبوتاتها بالإستماع إليها وهي تهذر بتاريخها العائلي السري (إجهاض أختها الكبرى في القاهرة .. والتعسف في حق سلوى وسامية .. ثم الأبناء : طارق وأمين وعارف الهلفوت ) . ولاحظ أننا قد حصلنا على معلومات عن الأبناء قبل ذلك . الآن نعلم أن كل شيء باسم الأب والولدان الكبيران طارق وأمين يتنافسان على الخواء . والخلاصة :
(عيلة لكل واحد فيها وساخته . وساخة بدأت بحورية وستنتهي إن شاء الله عندها. من أين لها كل ثروتها ؟! وراثة ؟! وراثة عجيبة . لا تنقسم إلا على واحد من ثلاثة إخوة ! – ص 120) .
بهذا ينتهي القسم الأول (أبواب للخروج فقط) ، والعنوان معبّر ، فكل الشخصيات النسوية – بل حتى الرجولية – التي عرضت الكاتبة سيرتها مقتضبة (زينب ، رجاء ، نشوى ، ندى) ، جاءت من بُنى عائلية صُممت لتكون لها أبواب للخروج فقط .. للاعودة .. للنبذ والهجر والقهر حتى لو كانت أبوابها مشرعة في الظاهر .
نبيلة الزبير في رواية “زوج حذاء لعائشة” : القصة القصيرة فن والرواية علم (3)
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا