صفات “الإنسان المثالي”
الدكتور زاحم محمد الشمري
وأنا أعكف منذ فترة على دراسة باللغة العربية في مجال الأدب الألماني الحديث تحت عنوان: “لسنغ والعالم العربي الإسلامي”، والتي تناقشُ نظرة الأديب ورائد حركة التنوير الألماني غوتهولد أفرايم لسنغ للإسلام في القرن الثامن عشر وكذلك التواصل الثقافي بين حضارتي الشرق والغرب وانعكاساته على أمكانية الحوار البناء والتسامح بينهما، قادني للحديث عن موضوع “الإنسان المثالي” وعلاقته بالحوار والتسامح، لما لذلك من أهمية كبيرة في الوقت الحاضر ونحن نشهد احتدام الصراع من جديد بين القطبين الشرقي والغربي … والذي تطلب مني الرجوع قليلاً الى الوراء للبحثَ في ثنايا التأريخ الإنساني وكنوزه العلمية، حيث إحتفظَ الموروثُ الثقافي العربي الإسلامي للقرون الوسطى، والذي ترجم الى اللغة اللاتينية واللغات الاوروبية الحية ومنها اللغة الألمانية، بتقاليد الدعوةِ الحقيقية للحوارِ المتسامح مع الثقافات والأديان الأخرى، وذلك حين حدد العلماء المسلمون في التجمع الثقافي المعروف بـ “الأصدقاء الأوفياء” في مدينة البصرة – أحد أشهر المراكز الأدبية في القرن العاشر الميلادي بالعراق -، بعد التفاهم مع التجمعات الثقافية المنتشرة في ربوع الدولة الإسلامية آنذاك، الخصال الإسلامية والمسيحية واليهودية التي يجب أن يتصف بها “الإنسان المثالي” صاحب الخلق الرفيع، ويرونها جزءاً من صفات المجتمع الإنساني المتسامح. لقد اجمعوا على القول بانه ليس هناك كتاب أو علم أو نمط حياة غريب يحول دون المرء ورغبته في بناء نفسه بناءً صحيحاً.
وتأسيساً على هذا الرأي اصبح لزاماً على العلماء البصريين وضع اللبنة الأساسية الأولى لمشروع “الإنسان المثالي”، وذلك بعد أن أكد كل تجمع ثقافي إسلامي في القرون الوسطى الصفةَ التي ينشدُها، فعكس هذا الرأي الإرادة العظيمة والتصور الرائع غير المنحاز لمجتمع عالمي متسامح، يَحترمُ فيهِ أتباع الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام بعضهم للبعض الآخر، ويعيشون بسلام جنباً الى جنب، وعلى الصورة التي عبر عنهم فيها الكاتب ورائد حركة التنوير الألماني غوتهولد أفرايم لسنغ في مسرحيتهِ الشهيرة “ناتان الحكيم” سنة 1779. وبناءً على هذا التصور دونَ العلماء المسلمون البصريون هذه الصفات، وكما جاء في المجموعة القصصية “الفن يحيا بعقلانية” للأديب ومترجم اللغة العربية الاسباني (بيتروس الفونسي)، الذي عاش بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، بقولهم:
“ينبغي أن يكون الإنسان المثالي النزيه صاحب الخلق الرفيع شرقياً فارسي الأصل، عربي العقيدة، من أنصار مدرسة الحقوق الحنفية، عراقي الثقافة، واسع المعرفة كالعبراني، شاباً كالسيد المسيح في سلوكه، متديناً كالراهب السوري، يونانياً في علومه الشخصية، هندياً في تفسير الأسرار، واخيراً صوفياً في حياته الدنيوية.”
إن هذا التصميم لفهرس صفات “الانسان المثالي” هو تعبيرٌ عن الادراكِ والفهم الراقي للعناصر الحقيقية للثقافة الإسلامية، وإشارةٌ واضحة الى التعايش السلمي في الدولة الإسلامية السابقةِ بين المسلمين واليهود والمسيحيين، والشعوب من ديانات وعرقيات مختلفة، ويبين أيضاً إن الاندماج الإجتماعي بين الأقليات انذاك لم يكن صعباً في امبراطورية الخلفاء المسلمين. وكان هذا التعايش الإنساني السلمي الفريد من نوعه محط انظار المفكرين والفلاسفة الأوربيين، كما يتضح في قول الفيلسوف ورائد حركة التنوير الفرنسي (فولتير) في كتابه “إطروحة التسامح” Traité sur la tolérance (1763-65): “حكم السلطان الكبير بسلام عشرين شعباً من دياناتٍ مختلفة.” إنَّ خاتمة هذا القول تقدم لنا نموذجاً بارزاً للجهد الفكري والنفسي الذي قام به الإنسان في المجتمع الجمعي الحديث، الذي يتطلب التسامي العقلي العالي عن عدم التمييز في القدرة على تقديم الرعاية وتجاوز الاشكاليات كما كان في الماضي.
وبناءً على رأي العلماء المسلمين الذي ورد في المجموعة القصصية للاسباني (بيتروس الفونسي)، التي ترجمت الى اللغة الالمانية، يترتب على الانسان في المجتمع المنفتح ان يكتسب البديهية في البعد النقدي العقلاني، وتوظيف هذا الجهد من خلال الموقف في الدور الذي يلعبه. وان مصطلح “أنا ناضج” يضع الاجتهاد والملاءمة في المقدمة، لذا يجب على الانسان ان يفهم أولاً بعقلية المنتقد، ماذا يريد من ذاته في محيطه الاجتماعي، وان يستشعر تقييم الاخرين له، لكي يستطيع التفكير بشكل صحيح، خاصة عندما يدعي العيش في هذا المجتمع الجمعي، ويريد ان يعمل على صيانته ورقيه، لان المنجز الإجتماعي، الذي يبتغيه المجتمع من الفرد، وكان من الصعب تحقيقه في الماضي بسبب عدم اهتمام الناس به، سيكون مفيداً لمساءلة أولئك الذين ارادوا العيش على مدى تأريخهم الطويل من اجل تحقيق المصالح والمزاعم الشخصية فقط.
إنَّ الاعتماد على التطلع التأريخي للعلماء المسلمين لحياة مشتركة يسودها السلام والسعادة، في عالم تتحقق فيه العدالة على أساس الحوار الديني والحضاري بين الثقافات الاجنبية والاديان والمذاهب المختلفة اصبح ضرورة لايمكن تجاهلها، وذلك بعد أُفول نجم الدولة الإسلامية الحديثة في القرون الوسطى، واندلاع الصراع المستمر والعميق بين الحضارات والاديان، ومذاهب العقيدة الواحدة. وقد انعكس هذا الصراع في أدب الشعوب منذ الازل، فتعامل (هذا الأدب) بشكل مباشر مع قضاياها التأريخية والحضارية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعمل على أرشفتها، بحيث اصبح المرآة التي تعكس مشاكل المجتمع وتدعو الى معالجتها.
ومختصر القول: إنَّ الأدب لايستطيع أن يحيا بمنعزل عن أي مجتمع إنساني، لانه يعبر عن نشاطات المرء في الحياة اليومية المختلفة ضمن حراكه الإجتماعي الإنساني. لذا فإن هذه الدراسة العلمية الأدبية تتناول في إطار حوار لسنغ مع الإسلام التواصل التأريخي والثقافي والسياسي والاقتصادي بين الغرب والعالم الإسلامي، ذلك التواصل المرتبط بقضية تفعيل الحوار الحضاري والديني بينهما، مما أصبح ضرورة في حياة المجتمع العالمي في الوقت الحاضر. إنَّ مفهوم التأثير والتأثر المتبادل بين الثقافات الكبيرة له تأريخ طويل، ويبقى في أفق الأدب العالمي والعلوم الطبيعية والإنسانية مستمراً على مرّ العصور، إذ أدى القادة والعلماء والحقوقيون وعلماء الدين المسلمون دوراً ريادياً كبيراً في التأثير على الثقافات العالمية ولا سيما الأوربية منها.
وقد تأثر الأديب ورائد حركة التنوير الألماني لسنغ بطروحات العلماء المسلمين ومواعظ الإسلام بوصفه ديناً عقلانياً منزلاً، حيث جسد ذلك في مقدمة اعلانه عن عمله المسرحي “ناتان الحكيم” عام 1779 بقوله: “ولكن حين يقول أحدهم عني بأنني أردت أن أتصرف خلافاً للاتقان الشعري، ووجدت من بين أولئك البشر … رجالاً مسلمين، لذا أقول: أن الرجال المسلمين القدماء كانوا من العلماء الافذاذ، وما يعاب عليهم، انهم قدموا للبشرية ديناً موحى … .”