ليث العبدويس
تُرى.. هَل حَدثتُكُم يوماً عَنْ حَبيبَتي ليلى؟ هَل اخبَرتُكُم عَنْ تِلكَ التي لَمْ تَكُنْ وَلَنْ تَكون؟ عَنْ التي تَستَبيحُ أدقَّ أسراري بِخَفق الرُموشِ السومَريّة؟ عَنْ التي أقامَتْ عَلى مَشارِفِ أشعاري محاكِمَ تَفتيشِها وَوَزَّعَتْ جَواسيسَها عِندَ مَداخِلِ أورِدَتي وَمَخارِجِ شَراييني؟
هَل عَلِمتْ أني استَقَلتُ بَعدَها مِنْ خَطيئَةِ الشِعرِ وامتَهَنتُ التَسَكُّعَ بينَ مَقاهي الذِكريات؟ عَن التي تَحتَجِبُ عَنّي كُلَّ ذاتِ ظَهيرةٍ حَتّى هُطولِ المَساءِ الكَئيب، وأنا المُتسَمّرُ على مَصاطِبِ القَصاصِ كَصَبيّ مُشاكِس، أتجَرَّعُ خُمورَ الغيابِ الطَويل.
ليلى.. مُحاصَرَةٌ هي الكَلِماتُ في جوفي، مُتَجَمّدٌ هوَ الدَمعُ في جَفني، المَسافَةُ إليكِ مَلغومَةٌ ِبذاكَ الاشتهاءِ الخَجول، مَنْ سَيكتُبُ تاريخَ تَرنُحي بَعدَ أنْ شُنِقَ المؤَرِخون؟
ليلى.. أيُّ لَعنَةٍ ألقاها عليكِ ابنُ المُلوّحِ قَبلَ أنْ تَبتلِعَ الصحراءُ هذا المَخبول؟ هَل كانَ قَدَرُكِ أنْ تستَمرّينَ أسيرةَ المَرَضِ وأبقى أنا كالريشَةِ يتناهَبُني ظَلامُ العِراقِ الحالِك؟
أنا.. وقواريرُ الدواءِ المُصطَفّةِ عَلى خِزانَتَكِ كَمخاوِفي، وَكَهَنوتُ الحُكَماءِ العاجِز، وَفَجرٌ تَمرَّدَ عَليهِ ليلٌ الهاويةِ الحالِك، وأنتِ التي مَهما طالتْ سَهرَتُنا، وَمهما استَدرَجتُكِ لِتُقاوِمينَ الكَرى، لا بُدَّ في النِهايَةِ أن يُغلِبُكِ النُعاسُ، وَترضَخينَ لِوَسنَة الغَفوِ اللَذيذ، فتَنسَلّينَ مُستَسلِمَةً لِفراشِ الوَجَعِ المُستَديمِ بَعدَ أنْ تَتَصَنَّعينَ ابتِسامَةً وَدودَة وَتَضَعينَ على وَجنَتي قُبلَةٍ رَقيقة، وَتتمَنينَ لي صباحاً عِراقياً آخَر.
لَكِنَّكِ كسندريلا الرافِدينِ تتجاهَلينَ دَقّاتَ مُنتَصَفِ الليلِ لأنَّكِ لا تَملُكينَ عَرَبةً مُزخرَفَةً ولا حوذيّاً وَسيم، لا سُلطانَ للساعاتِ على حُضورِكِ المَلَكيّ، لو تَعلَمينَ أيَّ هَلاوِسَ يَضُجُّ بِها نومُكِ المُضطَرِب، هَلاوِسَ تُبقيني يَقِظاً حَتَى هَزيعِ العُمرِ أتساءل: كيفَ تَحتَمِلينَ كُلَّ تِلكَ الكَوابيس؟
وأَفَقتُ في صَباحِ الانتِفاضَة، وَتَذَكّرتُ أنها كانتْ – كَليلَةِ القَدرِ – بِلا عَواءٍ مِنْ كِلابِ الأزقّةِ المَسعورة، وَلَمَحتُ، مِنْ ثُقبِ البابِ جُثّةَ الحارِسِ مَثقوبَة الصُدغِ مُبتَلّةَ السِروال، وَرأيتُ حُطامَ كاميراتِ المُراقَبَةِ وَرُتَبَ الجنرالاتِ تَدوسُها أحذيَةُ جاريَ المَنغولي اللَطيف، وَرَأيتُ مِنْ نافِذَتي قوسَ غَضَبٍ يَطلُعُ مِنْ حَواري الكَرخِ القدَيمةِ وَيجتازَ جِسرَ الأئِمّةِ مُقَبّلاً جَبينَ الرَصافَة.
رأيتُ بِأُمّ عيني الرَصاصَة تَتَراجَعُ مَذعورَةً في مأسورةِ البُندُقيّة، ورَأيتُ كُلَّ شُهداءِ العِراق يَتَقَدّمونَ بِطَلباتِ لَمّ الشَمّلِ مَعَ أحبابِهمُ الأحياء، وَرأيتُ ضَبعاً دَبِقَ الأشداقِ يُقَلّبُ في تَلمودِهِ السَميكِ عَنْ تَعويذَةٍ تُميتُ كُلَّ البَشَر، وَرأيتُ.. نَعَم رَأيتُ جِراءَهُ تَجُرُّ مِنْ خَلفَها أمعاءَ جُثّةٍ طازِجَةٍ مِنْ قَبوٍ سِرّيّ قيلَ أنّهُ لِمُكافَحةِ الارهاب، رأيتُ تَهَشُّمَ كُرَةِ الساحِرةِ البَلوريّة وانسِحابَ المُهرّجينَ وَهَدمِ باستيلِ بغدادَ، رَأيتُ جان داركَ تَصدَحُ بأهزوجَةٍ ثوريّة بِطعمِ مِلحِ
الهَورِ وَرَشاقَةِ عيدانِ القَصَب، رَأيتُ الِعراقَ كأني أراهُ لِلمَرّةِ الأولى.
رأيتُ المُثَقّفَ الماركِسيّ الذي أتلَفَ مُجَلداتِهِ خَشيةَ أنْ يَستَدِلَّ عَليها ذُبابُ المَعبَدِ وامتَهَنَ بيعَ الحُمُّصِ الَمسلوقِ عِندَ الزاويةِ.. رأيتُهُ يَقلِبُ قِدرَهُ الساخِنَ بِوَجهِ جُباةِ الضَرائِبِ والمُكوس، رأيتُهُ.. هكذا رأيتُهُ.. مُبتَسِماً لِلمَرّةِ الأولى مُنذُ عَشرِ سِنين.
تَلَفَتُّ.. فَلَمْ أَجِدْ ليلى في السَرير، وَوَجَدتُ بَقايا قَهوَةٍ سوداءَ مُرَّةٍ ورِسالةَ وَداعٍ أَمَر، عُدْتُ كالمَجنونِ ابن المُلوّحِ لِنافِذَتي أمَشّطُ بِبَصَري شَلَالَ الجَمعِ الهادِرِ دونَ جَدوى، بيدَ أني لِلَحظَةٍ خُلتُني لَمَحتُ وِشاحَها يَغيبُ بينَ الهاتِفين.