من أوراق رحلة الهند
جميل حسين الساعدي
من سفرٍ إلى سفرٍ، ومن رحيلٍ إلــى رحيلٍ. خطواتٌ تتبعُها خطواتٌ، مدنٌ وقـــــــرى تمتدُّ امتداد َالافقِ، ومدىً يختفي فـــــي الظلام، ومـدىً يتكشّفُ شيئا ً فشيئا ً مع إطلالةِ النورِ. وهــــــذا الفتى العربيّ المولعُ بالسفرِ، يُنزلُ أمتعتـهُ عن كاهلهِ، ويُلقي بجسدهِ المتعبِ على رمالِ سواحلِكَ الذهبيّــــــة، يُغمضُ عينيهِ قليلا ً ثمَّ يفتحُها، ليتأمّلَ امواجَكَ، التي تقاذفتْها المسافــــــاتُ من سواحلِ نخيلِ التمرِ إلى سواحلِ جوزِ الهند.
ماذا تقولُ أمواجـُـكَ أيّها البحرُ لرمال الشواطئِ؟ ومـا الذي تنشــــــدُه الرياحُ في آذانِ النخيلِ؟ ليتني استطيعُ فكَّ رموزَ لغتِكَ لأعرفَ كُنْهــــــــكَ وأسبرَ غورَ اسراركَ! فأنا لا اعرفُ عنكَ سوى أنك تُدعى بالبحرِ العربي لماذا سمّوكَ بالبحر العربي؟ لا أعلمُ.. ربّما لأنَّ الشواطئَ، التـي انطلقـَـتْ منهـــا أمواجُكَ الأولى كانت عربيّة ً، أو ربّما لأنَّ العربَ أوّلُ منْ امتطى أمواجك َ وليكنْ مايكونُ.. المهمُّ أنَّ اسمكَ استوقفني، فأنزلتُ رحالــــــي، وكعادة ِ العربيّ حينَ يمرُّ بطللٍ، يقفُ طويلا ً، يتأمّلُ الحجــارةَ، وكأنّهـــــا قمْقم ٌ، حُبِسَتْ فيهِ أرواحُ أحبّائه ِ وخلّانـهِ. ها أنا أيّها البحْرُ أمامك َ وجْـه ٌيتمعّنُ، يستفهمُ، يتطلّعُ بعينينِ حائرتين إلــى امتداداتِك، يرتسـِـمُ عليه ِ ألفُ سؤالٍ وسؤال.. وأنتَ أيّها البحرُ صفحــاتٌ مُلأتْ بالأســرارِ! ولكـــــــــنْ كيفَ يتسنّى لي أن أقرأَ أبجديّة لمْ أتعلمْها، وأنّى لِي أنْ أنْطـقَ أصواتــــا ً ما عرفتْها أوتارُ حنجرتــي.
معذرة ً أيّها البحرُ.. لقد كانَ فضــولي كبيرا ً، ولمّا تمـــــرُّ إلّا بضْعُ ساعاتٍ علــى لقائنا. لكنْ هكذا هيَ عادةُ الشعراء والعشـــاقِ: أسئلةٌ مُلحّـةٌ وفضولٌ يستحثّهُ شوقٌ.
معذرةً أيّها البحر، فصدري لمْ تبـــــــقَ فيــهِ فضْلة ٌ تتّســـــعُ لشكوى.
آهِ لو كانَ لي مثلُ صدْرِكَ! آهِ لو منحتني بعضَ صبرِكَ!
سلاما ً أيّها البحرُ.. ولتكنْ مصافحتنا أن أنزلَ إلى مياهكَ، وأغتسلَ فيهـــــا من غبارِ السفــرِ، وأنفضَ عن جســدي روائـــــــحَ الباصاتِ والقطــاراتِ والعرباتِ، التي أنهكَ خيولها التعبُ. ثمَّ لتسمحْ لَي بعدَ ذلك َ أن أسْمِعــَـــكَ حَدِيثي، وأبثَكَ ما فــــــــي صدري. فيا طالما قد سمعتَ أحاديثَ، وشهدتَ وقائع َ.. محِبّــونَ وثّقوا عهودَ ودّهمْ على شواطئِكَ.. سوّاحٌ دفعَهُمْ الضجرُ والمللُ إليـــــكَ، فنصبوا خيمَهم تحتَ نخيلِكَ.. غزاة ٌ شتّــــى عبروكَ طلبا ً للمالِ والمجدِ.. قراصنةٌ بحثوا عن ضحاياهم فوقَ أمواجِك َ..
معذرة ً أيّها البحْرُ.. لستُ من أولئكَ، الذينَ يذرعونَ شواطئـــكَ نهارا ً وليلا ً، يكدّرونّ مياهكَ بفضلاتِهم، ويستعلونَ على الحياةِ بأوراقِهِم النقديـّة. أولئك ذوو الأرواحِ القَزِمة، التـي تحاولُ دونَ حياءٍ، أنْ تتعملق َ أمــــــام َ نخيلكَ المتعالي. الطيورُ ــ أيّها البحرُ ــ تهاجرُ بعيــدا ً، ثمّ تعودُ إلـى أوطانِها، لكنَّ روحــي طائرٌ لا كالطيورِ.. يُهاجرُ ويهاجرُ، ولا ينتهـــــــي من رحيل ٍ إلّا ليبتدأ َ رحيـــلا ً آخـر َ.
وكما تعلو الموجة ُ الموجــة َ، يستحثُّ الهاجسُ الهاجس َ، فتندفـــــــعُ الروحُ كمُهْرة ٍعربيّــة ٍ، تنهبُ الآفاق َ، خيّالُهــا ذلكَ الشوقُ المشرئبّ دوما ً إلـــى اللانهاياتِ.. آهِ أيّها البحرُ.. كم هو َ مُحزنٌ أن يتمّ الفراق بينَ المُهْرة ِ والخيّال ِ. مُنْذُ زمــانٍ بعيدٍ لمْ يَعُدْ الإثنانِ صديقين كما من قبــلُ. فالمهْـــرةُ العربيّــةُ لمْ تَعُــدْ تنهبُ الآفــاقَ، والخيّــالُ اعتراهُ الوهــنُ، فتركَ الميــدانَ وانزوى كسيـــرَ الخاطر.
لحظات ويختفي كلّ شئ ٍ أيّهــا البحرُ، وتخلعُ الروحُ كلَّ الثيــــــــاب ِ، التي ارتدتها عبـــــْر َ رحلاتها.. وأنتَ أيّهـــــا البحْرُ مرآة ٌ، أتلمسُ فيـــها الخطــــــوطَ اللامرئية لذلك الجوهر، الذي غطّــى عليهِ غبارُ الوقــــــائعِ وضجيجُ الزمن ِ. آه ِ.. لو تُصغي الأمواجُ لذلكَ الــــنداء البعيـــد، المنبعث ِمن اللامكــانِ ومن كلِّ مكانٍ.. كم أتمنى لو تستطيعُ الرموزُ بكلِّ ما تمتلكُ من قوّةِ الإيحاءِ، أن تنقلَ ولو بعضا ً من تلك الذبذبات ِ، التــــــــي عبرتْ بوّابات الأزمنــة لتتمترسَ أخيـــرا ً في نقطةٍ، كما يتمترسُ الحلزونُ فــي المحــــــارة ِ.
آهِ منكِ أيّتُها اللغةُ.. هلْ يستطيعُ أن يتجمّــعَ اللامحــدودُ في المحدودِ؟
هلْ بإمكــــــانِ جغرافيّةُ الأرضِ أن تستوعبَ جغرافيّةَ السمــاءِ؟ كمْ بودّي أنْ أرى الأشواقَ تنزلُ من سمائها، وتتجسّدُ لأولئك الذينَ لمْ يفقهوا فحواها.
أيّها البحرُ.. أنا الغريبُ.. غريبُ الروحِ والجســدِ. ليسَ لإبحاري نهايةٌ. أشرعتـــي ستظلُّ منشــورةَ، وبوصلتي ستظلُّ تُشيــرُ إلــــــى لا إتّجـــاه..
المرافئُ تتكررُ، والوجــوهُ والألوانُ تتكررُ، وفــــــي النهايــــــــةِ سيكونُ للأشياءِ نفسُ النكْهــــــــةِ، ويعودُ المســافرُ يمسكُ بأمتعتهِ مِنْ جديـــــــــدٍ، فهذا العالمُ ببلدانـهِ ومدنـهِ، ليسَ ســوى محطاتِ انتظارٍ للمسافرِ الغريب.