النفاق التقني والنفاق الاجتماعي: محاولة فهم
يعد “النفاق التقني” أحد فروع النفاق بشكل عام. ويمكن تعريفه بذلك النفاق الذي يلجأ إليه (للضرورة) أو يمارسه (عن اختيار) فرد أو مجموعة أفراد في سياق مهني معين أو في سياقات مهنية متداخلة. بمعنى، فالنفاق التقني يتطلب وجود سياق مهني كمجال احتضان وتفعيل وانتعاش وتفاعل، إلى جانب وجود أفراد لديهم مستوى ثقافي ومعرفي لا بأس به، إلى جانب تجربة في ذلك المجال المهني. فالنفاق التقني يستدعي من المنافق تقنيا (أو المنافقين تقنيا) تعبئة وتوجيه معارفه(م) وزبدة تجاربه(م) لخداع المجموعة المهنية بكاملها أو جزء منها أو فرد محدد فيها (الرئيس، القائد، الزعيم مثلا) مع تخطيط مسبق وغايات متنوعة، علاوة على خاصية تعايش المجموعة المهنية مع كل أشكال وتجليات النفاق التقني في حالة الانكشاف المبكر والمتأخر، كتقنية أكثر “نفاقا” و “نفاقية” تتقبلها المجموعة ككلية أو القائد كعضو مؤثر ومسؤول، لضمان استمرار سيرها وبلوغ الحد الأدنى من أهدافها، في إطار ما يمكن تسميته ب”النفاق النسقي”.
يختلف النفاق التقني مع النفاق الاجتماعي باعتبار الصنف الأول نفاقا ”مدروسا’ و”موجها”‘، ينبع من شخص واعي ومثقف أو على قدر من التجربة (أو هما معا)، في سياق مهني بسيط أو مركب/متداخل، عن طريق التمويه والخداع والاستغباء، وقد تكون الغاية مادية كجني مصلحة ملموسة أو معنوية كنيل رضا الرئيس المباشر أو إعجاب أغلب أو بعض أفراد الوسط أو المجموعة المهني(ة). وقد يلجأ البعض إلى النفاق التقني كآلية لدرء الإحراج في وسطه المهني، لأن إبداء الرفض لمسألة مهنية مشتركة مثلا قد تتمخض عنه صراعات ومجابهات أو قد يؤثر سلبا على صورة الفرد من منظور بقية أفراد المجموعة المهنية، لذلك يضطر “للنفاق” و”المنافقة” و”التنافق” تقنيا، وإن تعارض موقفه العلني المصرح به مع موقفه الخفي المكبوح داخليا.
في حين، يمكن اعتبار النفاق الاجتماعي نفاقا “منفلتا” و”غير مؤطر”، أي أنه لا يشترط وجود وضعيات مهنية محددة، وإنما سياقات اجتماعية متجددة ومفتوحة (دكان الحي، المقاهي الشعبية، المساجد والمآتم والحفلات الاجتماعية، إلخ). ويمكن ممارسة النفاق الاجتماعي من طرف أي فرد في المجتمع دون قيود أو تخطيط (أي بعفوية وتلقائية)، ودون حيازة شروط ثقافية ومعرفية معينة أو الاحتكام الى التجارب السابقة. وتتجلى تلقائية وعفوية هذا الصنف من النفاق في عدم تعمد المنافق اجتماعيا توظيف استراتيجيات وتكتيكات مفكر فيها ومدروسة مسبقا. كما أن الغاية من النفاق الاجتماعي غالبا ما تكون غير محسوبة النتائج والعواقب، وقلما تحقق مكاسب مادية أو معنوية للمنافق اجتماعيا، بل قد تفرز نفورا أو صراعات وتشنجات مجانية غير محسوبة العواقب عند انكشاف وتعري الوجه الحقيقي للشخص المنافق اجتماعيا.
يلتقي النفاق التقني مع النفاق الاجتماعي في كونها حالة من التناقض حيث يتعارض ويختلف الموقف أو السلوك المعبر عنه صراحة مع الموقف أو السلوك الفعلي المخفي. كما أن هذين الصنفين من النفاق أثناء التعري والانكشاف، قد يعرضان ممارسهما لتهمة ازدواجية الشعور أو الرأي/الموقف أو السلوك، مما قد يجعله معرضا للنبذ والتبغيض والنفور والمواجهة أو الاجتناب. فإذا كان النفاق التقني يتم عن وعي ومدارسة وتخطيط وتوجيه من طرف فرد أو مجموعة أفراد ذو(ا) مستوى معرفي-ثقافي محترم، وفي وسط مهني بسيط أو مركب، قصد نيل مكاسب مادية/معنوية أو درء احراج/صراع مجاني، فإن النفاق الاجتماعي قد يمارسه الأفراد بشكل تلقائي مع عدم توقع وتكهن افرازاته الآنية والمستقبلية. كما أن المنافق اجتماعيا قد لا يصل إلى نقطة إدراك كونه منافقا إلا بعض التعرض لصدمات أو صراعات أو عنف رمزي كالنبذ، كما يصعب عليه الاقلاع عن النفاق لأنه مكتسب لديه على مراحل اجتماعية-نفسية طويلة حتى صار بمثابة إدمان يحتاج لجهد كبير ومواكبة مستمرة لعلاجه، وقبل ذلك قناعة فردية، بأضرار النفاق على المستوى الفردي والجماعي.
في مقابل ذلك، يظل النفاق التقني فعلا واعيا يتم اللجوء إليه في سياقات مهنية محددة وقد يتخلى عنه الفرد الذي يوظفه بانتفاء الوضعية التي أوجبته، مع إمكانية اللجوء إليه مجددا، بوعي وتحكم، كلما برزت شروط المنافقة المهنية. كما لا يحتاج إلى خطة علاجية، عكس النفاق الاجتماعي، وإنما إلى توفير أجواء الثقة المتبادلة التامة داخل المجموعة المهنية وتقديم كافة الضمانات القانونية لعدم تعريض فرد أو أفراد تلك المجموعة للعقوبة أو الإقصاء أو سوء المعاملة كلما أبدى موقفا معارضا أو طرح فكرة مغايرة لتوجه المجموعة وزعيمها. بمعنى، فتخليص المجموعات المهنية من النفاق التقني يقتضي تحرر وتحرير كافة أفراد تلك المجموعات من كافة الهواجس والمخاوف.
حمزة الشافعي
تنغير/المغرب