قبل أيام انتهيت من قراءة رواية كل شيء ضدي للكاتب الروائي سلام إبراهيم (النصير أبو الطيب).. لأول مرة أشعر اثناء قراءة رواية جديدة أن احداثها تتواصل مع الروايات السابقة التي قرأتها للكاتب والمحطات التي مرّ بها في العراق.. فزعاً ومختفياً محصور في حيز صغير بين احشاء المدن التي تعيش ويلات الحرب تارة.. وجبهات الحرب التي يساق اليها عنوة.. ومن ثم تجربة التواجد بين الأنصار مع زوجته لاحقاً..
وكذلك الحال مع المهجر والانتقالات بين مخيمات اللجوء في إيران أولا.. ومن ثم محطات دمشق وموسكو قبل المكوث الطويل في كوبنهاكن.. التي عكست من خلال فصولها طبيعة العلاقة المتأزمة بين شخوصها وتفاعلاتها مع الآخرين.. من خلال صور ومشاهد درامية.. تكشف عن المزيد من الزيف الذي يغلف العلاقات الإنسانية.. التي تتفكك عبر تداعيات تُجددُ الشكوك وتعمق وتيرة الخلاف.. الذي تراكمت لبناته مع الزمن.. لتصبح جداراً ومصداً نفسياً.. يعكس تبدل الخيارات والميول الفكرية والاجتماعية والنظرة للآخر.. في أجواء مراجعة للذات.. تكشف المزيد من الغباء الإنساني المنمق بعد فوات الأوان..
لتبدأ رحلة عذاب مع الوساوس والظنون.. التي تنمو وتكبر لتطوق النفوس الحائرة.. التي تتخاصم لأتفه الأسباب والدوافع.. وتدفع بأطراف العلاقة لممارسة القسوة والايغال في خلق الأجواء المؤذية والمدمرة التي تصل حد الاستهتار للتخلص من شريك الحياة.. وفرض الطلاق عليه.. وتحويله لذليل محصور في زاوية من زوايا الشقة السكنية.. التي لا يجد فيها الاّ سريراً سفري ليتمدد عليه.. كأي بائس او حشرة مهدداً بالإزاحة من المسكن..
رغم كل محاولاته لمعالجة الموقف واستعادة الثقة وترطيب العلاقة مع الزوجة.. التي سعت لإقامة علاقة مع شاب بعمر ابنها في حفل حضره معها في أجواء كوبنهاكن.. لتبدأ منغصات حياته بالتفاقم ويلجأ عبر استذكار لتداعياته.. علاقته مع زوجته وحبيبته لإعادة اكتشاف نفسه وذاته الجريحة القلقة والمتوترة المحملة بالكثير من مشاهدات العنف والآلام. والفواجع. التي تنز الماً وخوفاً.. وهي تحمل شروخها المعذبة بين جبهات الحرب.. وندوب دهاليز أجهزة القمع.. التي تركت بصماتها على جسده ونفسه المتهالكة المدمنة على الكحول..
التي تسوقه وتدفعه ليعيد حساباته السابقة.. ويتوقف ليدقق في بدايات علاقته بزوجته من الليلة الأولى التي اكتشف فيها فقدانها المسبق للبكارة.. وتجاوزه لتلك الصدمة في حينها.. لكنه بعد عشرين سنة يعود لمراجعة موقفه ويكتشف انه مغفل ونادم.. وان زوجته وحبيبته ليست الاّ لعوباً استغفلته.. ينبغي التخلص منها ويستعد لقتلها..
ويستعيد عبر ذاكرته المشروخة مشهد قتيلة كردية.. بسبب الشك.. بين مخيمات اللاجئين في إيران بالإضافة الى مشاهداته الدامية في جبهات الحرب.. وجولات تعذيبه في اقبية الأمن.. لكنه يواجه سؤالاً مصيرياً وموقف انعطافي يجعله يتساءل..
ـ كيف يجرؤ الانسان على القتل؟
هذا السؤال الكبير المزلزل.. والموقف الحاد.. هو الخط البياني للرواية التي سعا من خلالها الروائي سلام إبراهيم تتبع الخطوات التي تترافق مع المزيد من الفجوات بين الأنصار وتفكك علاقاتهم في أجواء الغربة.. التي تتعفن فيها النفوس الحائرة.. والتي تمكن من خلالها رصد التحولات بين البشر والثوار عبر مظاهر التحلل والتفكك الاسري.. الذي افتقد للحب والثقة بين البشر.. وحول البعض منهم الى مشردين ومدمنين على الكحول ومسحوقين.. يتذوقون الذل والمهانة ويعانون من الانكسار والقهر والتشتت في أجواء لا يعونها تشبه القيامة..
هي رواية تتطلب تجاوز القراءة السطحية والغوص فيما وراء السطور لمعرفة ابعاد ما ورد في تداعيات حروفها التي تحدثت عن القلق والظلم والخسارة والبلادة في صيغ إنسانية تسعى لتجاوز الانكسار والتحول لاقتناص الفرص التي تدفع بالإنسان للتشبث بالحياة والبحث عن البديل الآخر الأفضل في صيغة تجدد تكون نهايتها الغوص في مياه البحر قد تكون توديعاً وانتحاراً مسجلا موقفاً رافضاً للزيف والعنف بعد جولة عناء نفسية تدفع المرء للتفكير بالقتل.. وقد تكون تطهيراً للذات للتخلص من ارث وتركة نفسية ثقيلة معتمدة على الشكوك والظنون القاتلة مع لحظة الدخول في مياه البحر للعوم والاغتسال للخروج بحالة تؤهله لاستيعاب ما جرى وتعينه في التعامل مع الآخرين بيقظة وانتباه.. بهذه النهاية المفتوحة والمتأملة تنتهي رواية كل شيء ضدي..
هي في الخلاصة وبقراءة معمقة.. كل شيء أصبح ضد الانسان.. في عالم متكالب ابتداء من لحظة الولادة ومصائب الحروب ومتاعب الهجرة وما رافقها من خيبات واوهام وتفكك اجتماعي واسري.. عصفت بالأحلام المحملة بالقيم.. التي تداعت ولم تصمد امام اغراءات الحياة الزائفة والشكلية الخالية من الروح والمحبة الإنسانية..
رواية تصرخ بنا.. انْ انتبهوا.. لم يفت الاوان.. ثمة هناك أمل للتمسك بالقيم.. وان لا نفرط بإنسانيتنا..
ـ
ـ ملاحظة اعتمدت على النسخة الالكترونية التي أرسلها لي الكاتب مشكوراً قبل الطبع..