“روح ربي يرزقك..”
من ويلات الحرب في بلاد الياسمين
هند زيتوني/ سوريا
أم يامن تلك المرأة الدمشقية التي تخطت عقدها السادس، تشق طريقها اليومي وسط الزحام مشياً على الأقدام من أجل لقمة عيشها. تأتي إلى بيتنا في الصباح الباكر لترعى والدتي المسنّة. ترتدي جلبابها البني القديم الذي لا تملك غيره، المزين بالبقع العنيدة، المثقوب بنوائب الدهر ورصاص الأيام. ومع ذلك فكلمة “الحمد لله” لا تزال ترطب شفافها كما ترطب أنثى شابة شفتيها بقلم من الحمرة لتعمل بعد منتصف الليل. عطر جسدها هو العطر الذي ترتديه. هي لا تملك “كوكو شانيل”، ولا زجاجة عطر ثمينة من “كريستيان ديور”. تظهر أصابع أرجلها المجرحة من حذائها المفتوح، وكأن كل أصبع من أصابع قدميها لها حكاية مأساوية مؤلمة.
تبدأ صباحها هنا في بيتنا، تسلّم على والدتي قائلة: “كيفك يا قلبي”. “يقبرني هالوجه الحلو” “يقبرني يلي خلقك…!”. كلماتها المعسولة هي كنزها الوحيد ورصيدها الذي لا ينضب. وثيقة تخرجها الوحيدة من مدرسة الحياة. يكمن في بحر عينيها العميقتين حزن دفين زرعته يد الأيام الجائرة. الأيام التي وضعتها في وسط البحر المتلاطم دون أن تمد لها يد العون أو تمنحها قارب النجاة.
قالت لي ذات يوم: لو أعلم أن ابني يامن المفقود ميتاً لاحتسسبته شهيداً وارتحت من التفكير به، ولو أنه ما زال على قيد الحياة أتمنى أن يجمعني به القدر وهو معافى! آه يا ابني … يا ويل قلبي عليك! لقد طحنتها الأيام بعد أن توفى زوجها وفقدت ابنها فاضطرت للعمل في المنازل.
تحتسي ببطءٍ قهوتها التي أصنعها لها بعد انتهاء عملها، وهي تنظر في قعر الفنجان الفارغ، وكأنها تنظر إلى بئر حياتها الفارغ من الماء، فتقول: لقد صارت القهوة من المشروبات الممنوعة علينا يا مدام! ” كيلو البن الرخيص بدون هيل يا سيدتي بخمس وعشرين ألف ليرة.!”، “وكيلو الكوسا يا سيدتي بألفين وخمس مائة ليرة “. “وكيلو البامية بأربع آلاف ليرة”. “قنينة زيت الزيتون …. بالآلاف!”.
تصمت قليلاً وأنا أتأمل أصابعها العريضة التي تمسك بالفنجان وتحتسيه لآخر نقطة بشغفٍ، فهي تحب القهوة كثيراً، ولكن لا تستطيع شراءها بل تفضل أن تشتري الخبز، وقليلاً من اللبن المصفى لتفطر في الصباح.
تستطرد قائلة: يا سيدتي والله لم أشعل ناراً في بيتي منذ ثلاثة أشهر، لم يصلني الإشعار من البطاقة الذكية باستلام جرة الغاز! والكهرباء لا تأتينا إلا لدقائق معدودة، نعيش في ظلمة كالحة يبددها ضوء شمعة ضعيفة.
قلت مستغربة: ولماذا لا تشتري واحدة من السوق الحر؟ رددت: “السوق الحرة” … وابتسمت ابتسامة باهتة! فظهرت على وجهها علامات الوجوم والحيرة ثم أردفت: يبدو أنك لا تعلمين كم ثمن جرة الغاز من السوق الحرة؟
قلت: كم هو ثمنها ؟
قالت: مئة وخمسين ألف يا سيدتي؛ أي عليّ أن أدخر مرتب شهر ونصف، ولا أشتري أي طعام لبيتي من أًجل الحصول عليها!
قلت في نفسي: أنا التي غادرت البلاد منذ ثلاثة عقود لأعيشَ في بلاد العم سام، وجئت لزيارة والدتي، لا أعرف شيئاً عن مأساة الشعب السوري الذي يعيش حياته، ينتظر المسجات من جواله المعدم، من أجل أن يسمحوا له أن يأتي ليشتري السكر والرز وجرة الغاز وغيرها من الأشياء الاستهلاكية والضرورية.
الشعب الذي خرج من حربٍ بشعة، حربٌ فُرضت عليه كما فُرض الحج والصلاة والصوم من أجل احتلال بلاده التي كانت ترفل بالحب والسلام، من أجل بيع نسائه بالسوق السوداء، من أجل تهجير شبابه إلى أوربا المليئة بالعجائز ليعملوا هناك في مواسير المياه المسدودة، أو حتى أطباء لمعالجة الكبار من مرض الزهايمر. فهم نسوا كم احتلوا بلادنا ودمروها في الأيام التي مضت، نسوا كم نهبوا ثرواتنا وسرقوا نفطنا بحجة قتل الطغاة! من أجل جعل أطفاله يتسولون في الشوارع لبيع محارم الحمام وهم يتوسلون إليك أن تشتري شيئاً بمبلغ ألفي ليرة، ويقول لك قبل أن تذهب: “روح ربي يرزقك..!”.