الرّاعي وفاكهة النّساء
رواية جديدة مع بعد جديد للكاتبة ميسون أسدي
د. جـودت عيـد/ حيفا
كما الأغنية وكما القصيدة، هكذا هي الرّواية والقصّة فكلّها تعكس ثقافة وقيم الفرد وتفكيره وثقافة حقبة زمنيّة لتشكّل مرآة للمجتمع ولتجربته الكونيّة. كتابة رواية تشدّ الكثيرين من الكتّاب والكاتبات، وذلك مبشّر خير لحراكٍ ثقافيٍّ مباركٍ نستطيع من خلاله الانكشاف على قراءة واقع أو حالة شخصيّة أو اجتماعيّة أو خياليّة من وجهة نظر الكاتب/ة كأحد أركان الثّقافة والحضارة في زمن محدّد. الشّعر والقصّة القصيرة وأدب الأطفال، كلّها تشكّل قنوات، بالنّسبة لي، من خلالها أمارس فنّ الكلمة لتُمتع القارئ ولتوفّر مساحة فكريّة له عبر صور يتماهى معها كفرد وكمجتمع في حيّز ثقافة زمكانيّة، الأمر الّذي يتطلب توظيف مهارات فنّية وفكريّة واجتماعيّة. كذلك الأمر عند كتابة رواية واختيار شخصيّاتها وأحداثها، يحتاج الكاتب والكاتبة، حسب رأيي، إلى توظيف تلك المهارات وغيرها من القدرات لرؤية الفكرة المتكاملة وفهم أبعاد وتسلسل الأحداث، قبل الشّروع بالكتابة وخلال الكتابة، الّتي قد تستمر لسنوات، وعند اكتمال النّص النّهائي الذي يرضي الكاتب/ة قبل النّشر. ثقافة ومعرفة الكاتب/ة، وماهيّة الآليّات المستخدمة في النّص تشدّ القاريء/ القارئة للاستمرار في القراءة، وتقنعه وتستحوذ على إدراكه وتماهيه مع الأحداث لتصير جزءًا من يوميّاته، فيستمرّ في الغوص ويتمسّك في الرّواية، ويعيش أحداثها على مساحة مستعارة يوفّرها الكاتب/ة.
رواية “الرّاعي وفاكهة النّساء” للكاتبة ميسون أسدي، هي رواية لافتة للنّظر بالذّات لأنّها تحثّ القارئ/ة على حوار ذاتيّ ومجتمعيّ من خلال المحاور والأبعاد الّتي تطرحها. حين قرأت الروايّة حاولت تحديد ملامح الطّرح الذي يحاكي قضايا مجتمعيّة أحيانا بشكل مباشر وواضح وجريء، وفي أحيان أخرى بشكل متردّد مقتضَب متعمَّد. هل تهدف الرّواية تسليط الضّوء على حالة مجتمعيّة؟ هل تهدف إلى إحراج المجتمع المنافق من خلال مواجهة مع حقيقته تحت غطاء التّقاليد أو الدّين؟ هل تكشف الرّواية عُقد الكبت النفسيّ والجنسيّ في مجتمعنا بهدف التحرّر منها؟ أم تهدف إلى فضح مجتمع التّابوهات وتداعياته على التّركيبة المجتمعيّة؟ تساؤلات أشغلتني وحملتها إلى الكاتبة بسؤال مباشر: “ماذا كان هدفك من كتابة هذه الرّواية؟” فأجابت، دون تردّد: “الإمتاع”! كانت تلك إجابة كافية بالنّسبة لي، فإن أحد أهداف الأدب هو “الإمتاع” ونقل صورة تحاكي زمكانيّة مجتمع في حيّز ثقافيّ سياسيّ ما، وبالتّالي الاسهام في الحركة الثّقافيّة. قدرة الكاتب والكاتبة تظهر في مدى جاذبيّة النّص للاستحواذ على القارئ/ة وبقائه في مدارات السّرد الرّوائي فيصير (القارئ/ة) جزءًا من الحكاية ليتماهى معها ويذوّت جوانبَ منها.
الحديث عن رواية “الرّاعي وفاكهة النّساء” يحتاج الى الوقوف عند عدة محاور، التي تتفرع من خلال موضوعات تطرحها الكاتبة وتسهب بها وبعضها تهملها عمدًا. سألت الكاتبة لماذا لم تنتهز الفرصة لطرح كل قضيّة بعمقها المطلوب فأجابت: “ليس الهدف هذه القضيّة أو تلك إنما الهدف التّركيز على الشّخصيّة التي تعايش تلك القضايا في سيرورتها اليوميّة على صعيد العائلة والحمولة، والثّقافة العربية البدويّة، واشكاليّة الهويّة والاندماج في المجتمع الاسرائيليّ وما إلى ذلك”. ما يهمّ هو تجربة “هزاع عنيدات”، الشّخصيّة المركزيّة في الروايّة، في دوائر شتاته ومحاور النّفاق وتداعياته. حالة غير عاديّة حيث يلتقي “هزاع عنيدات” مع الذي قبض على روحه في حوار حول الملاذ الأخير لروحه بعد موته ويفهم بأنه (كروح) يُمنح بعض الوقت ليصلح وضعيّته كي يُغفر له، وبالتّالي يسعى إلى رواية حكايته ومن خلالها يعتذر من النّساء اللاتي أساء لهنّ، وهكذا تبدأ الحكاية! لتحمل الرّواية صورا من مجتمعنا، تقدّمها الكاتبة بطريقة جذّابة حيث وظّفت ما في جعبتها من قدرة كتابيّة فنيّة ومن تجربة مهنيّة في العمل الاجتماعيّ وانكشافها على مشاكل المجتمع وأسراره وقصصه التي يضعها “تحت السّجادة” أو تحت وسادة ممنوعة من الحلم أو التّحليق، فلا يتحدّث بها ولا يحاورها وأحيانا ينكرها وأحيانا يمارس جهله قسرًا أو طوعًا ويدّعي المعرفة!
محور لافت في الرّواية يعرض ثراء الثّقافة العربيّة البدويّة بمصطلحاتها ويوميّاتها وأبعادها الجذّابة من جهة، ولكن أيضا، من جهة أخرى، ما تحمله تلك الثّقافة من عادات وتابوهات وتقاليد متعبة لا تتناسب مع يوميّات عصرنا ما يؤدي إلى شرخ في الثّوابت والهوية والانتماء. نجد وصفًا جميلًا من قلب الثّقافة البدويّة لثوابتَ تعتمد العائلة والتّركيبة الاجتماعيّة للنّاس، واستعمال مصطلحات من عالم الحقول والزّراعة والمواشي، مثل كلمة “مارس” و “نعزب” على لسان “هزاع عنيدات” الذي يسهب في وصف ملامح يومه كراعي مواشي حتّى بكلّ ما يتعلّق “بهداد الماعز” ويبرز إلمامه بالطّبيعة والمحيط الّذي نشأ فيه وعلاقته المثيرة مع حسنة حبيبته الأولى في المراعي. السّرد جذّاب والعمق في وصف المجتمع البدويّ وثقافته وتراثه وتقاليده وانعكاس ذلك على مجريات حياة وسلوكيّات الفرد واخلاقيّاته تشدّ القارئ وتعكس عملا جدّيا ودراسة لهذه الثّقافة من قبل الكاتبة. تطرح أيضًا الرّواية قضايا شائكة، وتسلّط الضّوء على النّفاق الذي نمارسه بحنكة تحت رادار الأخلاقيّات، نخرج من دوائر التّيه والكبت والاحباط إلى حقيقة أسرار المجتمع المحافظ الذي يتلظّى بنار الشّهوة والغرائز والرّغبة الجامحة، التي تكسر التابوهات وتزعزع مفهوم المقبولات والممنوعات لتصير وفق وجهة نظر تتماهى مع مصلحة الفرد دون اعتماد الثّوابت المجتمعيّة، وفي ذات الوقت، يترفّع الفرد والمجتمع عامّة، ضمن اللّعبة، عن الرّذيلة ويتباهى بالعفّة والسّراط المستقيم.
خصّصت الكاتبة مساحة جميلة لتصف الحياة العائليّة والدّفء الأسريّ في المجتمع البدويّ، والعلاقة بين الوالدين كما تراها عيون الأطفال ومن خلال مشاعرهم بأسلوب جذّاب وموفّق، لكن تطرّقت أيضا إلى المفروضات المقيتة التي تعتمد العادات والتّقاليد، وتطرّقت إلى موضوع تعدّد الزّوجات وتداعياتها على الأسرة، الزّواج المبكّر واعتماد السّلطة والسّطوة الذّكوريّة عند تخوم انعدام حريّة المرأة، وزواج الأقارب، بالرّغم من الحاجة الملحّة للحفاظ على العادات، إلّا أنّ الأمر يتضارب مع التّفكير الآني في زمن يقدّس الفردانيّة وحقوق وحريّة الفرد. بالتّالي يعيش الفرد بين عالمين ويضطرّ دخول دائرة نفاق أخرى للالتفاف حول مفهوم الزّواج. تُظهر تلك المحاور مهنيّة الكاتبة ورؤيتها الاجتماعيّة حول تركيبة المجتمع وثقافته كعاملة اجتماعيّة تعرف ماذا يوجد “تحت السّجادة”، وبالتّالي توظّف هذه المعرفة من خلال حكاية “هزاع عنيدات”، ولقائه مع المحاميّة كاتبة العدل “ابتهاج أنطون” لتكتب حكايته. تنتقد الكاتبة، من خلال شخصيّات الرّواية، الحالة المجتمعيّة القائمة على الفساد والنّفاق المجتمعيّ، تنتقد أيضا المؤسّسات النّسوية والعاملات الاجتماعيّات، وتشير إلى إشكاليّة أشباه المثقّفين الّذين يعتمدون التّسويق الرّخيص في مجتمع مأزوم ومهزوم، لكن دون اسهاب!
تستمرّ الكاتبة في عرض الموضوعات الاجتماعيّة وتتحدّث عن العلاقات الجنسيّة خارج إطار المقبولات المجتمعيّة، وخيانات زوجيّة وتحفّظ من الملل الحاصل في مؤسّسة الزّواج عند انعدام الانسجام ليلجأ الفرد إلى عالم خياليّ سعيد في علاقة سرّية، للهرب نحو مرفأ أمان وحنان. كما وتشير إلى التّابوهات الاجتماعيّة الكثيرة في المجتمع، والتّحول الحاصل في مدى مقبوليّتها بما يتعلّق بالمساكنة أو العلاقات الجنسيّة قبل الزّواج، أو العلاقات المثليّة، وكلّ التّابوهات والممنوعات التي يفضّل المجتمع الامتناع عن تداولها. تعرض الكاتبة موضوع ممارسة الجنس في جيل المراهقة وسط أبناء وبنات المجتمع المحافظ، وعدم المعرفة والكبت الفكريّ والجنسيّ لديهم ليوفّر لهم مساحة للانطلاق بخيالاتهم لاشباع غرائزيّ للرّغبة والعاطفة، “لم نعرف أنا وهي عن الهوى سوى ما تعلمناه وشاهدناه عن القطيع فكنّا نخاف من كلّ حركة خاطئة ولم نعرف الخطأ من الصّواب!”. تطرح الرّواية، بشكل جريء، موضوع الجنس مع الحيوانات وشيوعه في المجتمع، وتحاور مفهوم الحلال والحرام والقصص التي يعرفها النّاس لكن لا يتداولها علنًا منعًا للفضيحة. كما أظهرت في حكاية المرأة وابنها، الذي رفضه النّاس لشربه الخمر حتى بعد توبته، فما كان للأم إلّا أن تجلب ديكا أمام الجمع وتقول: “من لم يجامع دابة فليخرج ويذبح الدّيك. لم يخرج أحد من المصلّين، فقالت لهم الأم: كلّكم جامعتم الدّواب وتأتون وتصلّون وتقولون أنّكم تُبتم، فما المشكلة مع ابني الّذي شرب الخمر وتاب، دعوه وشأنه!”. يذكّرنا النّص بتوبة الزّانية، حين وقف السّيد المسيح عليه السّلام أمام الجمع الغاضب الذي رجمها بالحجارة وقال: “من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”.
من الموضوعات اللّافتة التي تعرضها الرّواية، الشّرخ في الهويّة، كجزء من التّركيبة اليوميّة التي يعيشها “هزّاع عنيدات”، كما كلّ واحد منّا في هذا المجتمع. من خلال طرح موفّق، تسلّط الكاتبة الضّوء على اشكاليّة الشّرخ في الهويّة والشّتات الذي يعيشه غير اليهوديّ في إسرائيل، من خلال وصف علاقة “هزاع” بـ- “سريت”. “اليهود لا يريدوننا ولا العرب يريدوننا”، كما ورد على لسان “هزّاع عنيدات” حين غضب بنعته عربيًّا إذ يعتبر نفسه بدويًّا، وبالتّالي يواجه إشكاليّة، بحيث يخدم البدو في الجيش وتحترمهم الدّولة، لكنها “تلفظهم” حين الانتهاء من خدماتهم، في ذات الوقت يتصارع الفرد مع مفهوم “الفردانيّة”، كحالة طبيعيّة “للعصرنة”، ونزع الذّات من الحالة الجمعيّة وفرزها عن الانتماء الثّقافيّ التّاريخيّ “مالي ولهذا الصّراع”! أو محاولة “الوسطيّة” للتّعايش في مجتمعين وعالمين مختلفين ثقافيّا وسلوكيّا فيحمل “هزّاع عنيدات” اسمين، “هزّاع” و”عيزرا” بهدف الاندماج في المجتمع الاسرائيليّ بين ثقافة محافظة وأخرى غربيّة منفتحة، والرّفض من قِبل الجهتين للجهتين، كما ظهر حين اكتشفت عشيقته اليهوديّة المتديّنة بأنّه ليس يهوديّا. صراحة الطرح تعكس الواقع بكل تركيبته من موروثه الاجتماعيّ الثّقافي الدّيني الذي يتصارع مع ذاته في مجتمع متغيّر ومتحوّل بشكل سريع، من جهة، وكمجتمع مهمل كأقليّة في إسرائيل، من جهة أخرى، من قبل المؤسّسة والسّلطة وانعدام بوصلة التي تحدّد وجه هذا المجتمع وهويّته وتعريف انتمائه وروايته في ظلّ التّركيبة التي يعايشها كمواطن في الدّولة اليهوديّة ما بين التّهميش والولاء.
لا بد من الاشارة إلى بعض مواطن الضعف والهفوات في سياق النصّ، مثلا: لم أكن مصدوم/ الصّحيح مصدومًا، شيّقة كخطأ شائع والصّحيح شائق أو مشوّق، وغيرها. وكانت هناك بعض المشاهد مثل مشهد استعمال الهاتف العموميّ ودليل الهاتف، أو مشهد عودة “هزاع” من تل أبيب إلى القرية وتوجّهه إلى بئر الماء ليشرب، ربما ما زالت هناك بئر ماء في إحدى القرى، لكن تلك المشاهد والسّلوكيات لا تتماشى مع الحقبة الزمنيّة الحاليّة. أيضا مشهد حادث السّيارة الذي تعرّض له “هزّاع” وخروج الرّوح للبحث عن طريقة للاعتذار قبل رحلتها الأخيرة إلى الأبديّة، تلك صورة تكرّرت في قصص غربيّة، الأمر الذي قد يضعف من تماهي النّصّ مع ثقافة القارئ. يبرز في بعض الأحيان حضور الكاتبة المهنيّ والفكريّ القويّ من خلال “هزّاع” الذي من المفترض أن يعكس شخصيّة أبسط بقدراته الفكريّة والشّخصيّة وقد يُظهر ذلك عدم توافق ويضعف من مصداقيّة النّص.
في نهاية هذه القراءة نصل إلى “الفصل ما قبل الأول” الذي يأتي في نهاية الكتاب، وذلك نمط مستحبّ ومستعمل في بعض الرّوايات وهو موفّق، حيث تعيدنا الكاتبة إلى بداية الحكاية بشكل ذكيّ، لتضعنا أمام مفارقة جذّابة لتثير الجدل والتّساؤلات حول شخص الطّبيب د. عنيدات والمحاميّة ابتهاج انطون… أترك للمعنيين في قراءة الرّواية مساحة للتّشويق والإبحار في نصّ لافت شائق يحمل بعدًا جديدًا من حيث الأسلوب والمبنى والمضمون.