ليل التميمي من اليسار الى اليمين أيضا
قراءة سسيولوجية في ديوان(الليل وكربله والناس) للشاعر عودة ضاحي التميمي
عبدالكريم قاسم
إن السوسيولوجيا تعيد إلى الأذهان بأن الأدب لا يختزل أبدا إلى أعمال كالتي يهتم بها المؤرخون، النقاد ويعالجونها، لأنها لا تمثل سوى فرع من مجال واسع، متنوع. تحليل المضمون يفضل ما كان أدبا شعبيا لأنه يصلح أفضل من غيره من الآداب لمثل هذه البحوث. فالنتاجات الشعبية التي تمت صياغتها بفردية أو بمشاركة تستدعي بوجه من الأوجه التحليل النوعي والكمي بالفعل. لما كانت هذه النتاجات مرهونة مباشرة بالحوافز الجمعية، فإنها تمتلك بعدا اجتماعيا قويا، تعكس الأنماط الحياتية، العادات، التقاليد.. حتى الادلجة.
يسعى النقد السوسيولوجي إلى تحطيم بعض الحواجز، توسيع الحقل الأدبي، يهتم بالكتابات التي تعد أعمالا شعبية، التي تنتمي إلى شرائح واسعة من السكان. كذلك يجعل من حكايات الأطفال، الأغنية الشعبية، الشعر العامي..مواضيع أساسية في الدراسة. أنه ينفتح للأجناس الأدبية، ذلك من أجل البرهنة على أنه بين هذه الإرساليات، المواضيع التقليدية للنقد، ليس هناك في أغلب الأحيان سوى فروق في درجات التحليل والاستعمالات.
يشدنا أدب الطبقات الشعبية إليه بمظهره حتى الحكي الخرافي باعتباره أدب الشعب، ذلك كوعاء لنزوات، مخاوف، تعصبات، أحلام الضمير الجمعي. لكن: هل هذا الأدب(يخرف)أو(يخادع)أم (حقيقي)؟. قد نرتاب في وظيفته إذا كان يلجأ إلى تدجين الشعب، إن الأخير يسقط ضحية الإغراء الاجتماعي. النموذج السوسيولوجي، ينطلق من العمل الأدبي، يعود إليه، هو قراءة وتفسير داخلي.
الكلمات ليست إلا آنية لخبرات تفيض من آنيتها، كما الشراب من الكؤوس. ترمز للتجربة لكنها ليست هي، لذلك تظل قاصرة عن التعبير عن كل التجارب. في اللحظة التي يعبر عن التجربة بالفكرة والكلمة تكون قد انتهت، جفت،أصبحت مجرد فكرة.. من ثم حالة الكينونة يستحيل وصفها بالكلمات. لا تصل لإنسان آخر إلا إذا شاركني. في نمط التملك الحكم للكلمة، أما في نمط الكينونة فإن التجربة الحية التي لا يمكن التعبير عنها هي التي لها السيادة.
لقد ظهرت تيارات في دراسة الأسطورة والانثروبولوجيا، تأثرت بعلم النفس، الفلسفة، علم اللسانيات، ثم أثرت في العلوم الإنسانية عموما والنقد الأدبي بشكل خاص. من أهم هذه التيارات، مدرسة الانثروبولوجيا التي تزعمها مؤسس(مركز البحث حول المخيال) جيلبير دوران gilbert duran .
أهم ما جاء به، تصنيف صور المخيال الأسطوري، بناء على تتابع الزمن المعاش، أي الليل والنهار. يرى أن الصورة الأسطورية، كما الشعرية، في المخيال، تقوم على التناقض بين الليل والنهار. إذا كان النهار لا يوجد إلا بوجود الليل، فهو ضده ومبدد عتمته، فإن العكس غير صحيح. هكذا يكون الشاعر أو الأسطورة، شاعر النور أو الظلمة. تبنى الصور في قصائده على التتابع الزمني أو التناقض الآني بين نظام النهار المضيء ونظام الليل المعتم. ثنائية التتابع بين النظامين، نجدها عند الشعراء المتجولين في القرون الوسطى، الشعراء المتصوفين، شعراء الحب والهيام، شعراء العامية. عادة ما يكون المضيء، نظام العفة، الصفاء، الانتظام، في حين يعبر الليلي عن الألم، الحزن، الفوضى.
عند قراءة ديوان الشاعر العراقي المبدع عودة ضاحي التميمي(الليل اوكربله والناس)كربلاء/2005 تبدو التجربة تدور داخل شخص يعي نفسه من الأعماق للمنتج الإبداعي، لا يقف عند مجرد إلقاء النظر عليها، أو يقرأ قصيدة علينا فتتحرك فينا المشاعر التي عبر عنها بالكلمات، على الرغم من أنه يحدث فينا(إنتاج)لشيء ما. إنهم يخلقون ملكاتهم، يبعثون الحياة في غيرهم من الأشخاص، الأشياء. فما هو الشيء المبعوث الرسالي أو الإشاري في تلك المجموعة الشعرية؟ الليل؛ تحول إلى رمزية أسطورية مكثفة !.
تتوزع القصائد على العمر الزمني أحيانا الشخصي، ترسل من جغرافيتها نحو بقعة هي ظرف المكان، الزمان، عبر تأريخ التجربة مع وحدة(الليل)التي يبث فيها خلجاته. 28 قصيدة من الشعر العامي، يتوشح مفتتح جسد القصائد ذكر عدد مرات الليل، بين التذكير والتأنيث، مع العنوان،أعتقد نفس عدد سنوات عمر الشاعر:
الحسين/1، الخيبة/1، العيد والحرب/1، الفاتحة/1، الفارس/1، فتى النخيل/1، البخت/1، هلي والشوك والديرة/2، غربه/2، باب المراد/2 ، التوحد/2، طقوس خاصة/3، المنتحر/3، شلل/3 ، الحطب/4، الناي الحزين/4، صلاة الغائب/5، غفوة ضمير/5، عرس الدم/7، الليل وكربلا..والناس/12.
مرادفات الليل في القصائد الآخريات ممكن تشكيل نص جديد منها، (عيد الدرب) ابيضاض واسوداد، تقابلات تضج بعنفوان العاطفة الجياشة بين أليل ليل في نهار قصيدة(العيد والحرب)، يقول:
عيد والديره بعيده أو درب المبشرين اظلم
عيد وعيون اليتامى ابحيره تطشر أو تلتم
عيد بس كل ساعة منه تشبه العشرة محرم
وبين أشرق ليل، في ليل قصيدة(الشهادة):
درب واحد سبگنه البي سبگ بالشمس خطواته
درب مو للمشه جناز يتعثر بدمعاته
درب للشال گلبه وعبر حد السيف
وجه بوجه لاگه الموت مو لايذ ابچلماته
درب لو ندفن الذل بيه لو تدفنه شماته
لكل ليل معنى ومبنى يختزل الكل في الجزء، انتقال التشاؤم الى قمة التفاؤل، تدحرج التفاؤل إلى وادي التشاؤم، خلجات، نوبات نفسية يستصرخ الشاعر أوجاع الإنسانية وآلامها دفقة واحدة بعد احراق سفن العودة، تلك الكينونة والتملك. مدينة الشاعر قلب، قلب الشاعر مدينة، الدعوة عامة للجميع، أنها حاضنة، اللقاء فيها ولها، الموت والحياة. الليل فيها له أسماء، صفات، أفعال، ظروف حيثما تغرب أو تشرق. . انها قدره.
أضخم القصائد أصغرها، حملت اسم وسنم المجموعة(الليل وكربلا والناس). 12 ليل يتقابل فيها مع 12 من أضداده وردفائه، بمعنى 12ساعة نهار و12 ساعة ليل، لتشكل 24 ساعة يوم كربلاء، يبدأ وينتهي في الليل مشغل الشاعر! في القصيدة، الأنموذجات تحمل البنى الخيالية التي تتعدى تطور الكائن الفردنة لتهتم بمجمل الجنس البشري المحيط. إن اجتماع الضدين في الألوان وتكاملهما يبدوان مع مقابلة الأبيض والأسود، الضوء والظل، النهار والليل. مثلا، في الجيتاgita الهندوكية يمثل الأبيض(أرجوانا) arjuna ويمثل(الأنا)، و(كريسنا)krisna يمثل الأسود و(الهو).الأسود هو ظلام البدايات، الحالة الرئيسية لعدم الظهور، لكنه كذلك في القطب الآخر لون الظلمات الخارجية. إنه يرمز إلى الموت، السلبية، الحداد. الأسود لون الإلاهات الجهنميات، لون حجر الكعبة. لقد ألف جلال الدين الرومي مراحل الصعود والارتقاء الداخلية للصوفيين على سلم اللونيات بدا من الأبيض إلى الأسود الهرمسي. العودة إلى السديم المتميز في القصيدة التراتبي، لون ثابت(الليل)زائدا اسم ثابت (كربلاء)تساوي المتغيرات في لوحة وجدانية صاخبة، لعلها في الموروث تقابل(هوسات أو ردات):
الليل وكربلا = الناس
الليل بكربله = ضويات
الليل ابكربله = خيمه
الليل بكربله = بستان
الليل بكربله = عاشك
الليل بكربله = دنيه
الليل بكربله = محبوب
الليل بكربله = عريس
الليل بكربله = شاعر
الليل بكربله = امعزب
الليل بكربله = عاشور
الليل بكربله = دنيا ابتناقضه
ما هذا الليل، الرمز والاسطورة، الذي احتل الناص ونصوصه؟ مابين ليل القوم، وليل الشاعر، هل يريد أن يخدعنا، يقنعنا، يوقظنا كما الآخر: ألا يا أيها الليل الطويل الا انجلي؟ أم لهذا الليل(عله سچة هلي هلالين)ص5.
أول ما يستوقفنا هنا انقلاب القيم الظلامية المعطاة لليل من قبل النظام النهاري للصورة. عند شعوب كثيرة منها اليونانيين، يلطف الليل بصفة(الإلهي). الإغريق يصبح(الهادئ)،(الساكن)،(المقدس) ليل الراحة الكبرى. المصريين تعكس السماء الليلية، المدمجة بالسماء السفلى، عملية انقلاب المعاني: العالم الليلي ما هو إلا صورة معكوسة، كأنها في مرآة، لعالمنا. هناك يمشي الناس ورؤوسهم الى الأسفل وأرجلهم الى الأعلى. هذا الانقلاب يظهر بوضوح أكثر عند شعوب السيبيريين اللذين يعتبران الليل نهار يلد الأموات، لكون كل شيء ينعكس في تلك المملكة الليلية. أن عالم الأموات، نقيض عالم الأحياء، فما يلغى على الأرض يعود الى الظهور في عالم الأموات.. لكن قيمة الأشياء تنعكس فيه: فما هو قديم، متلف، فقير، ميت على الأرض، يصبح فيه جديدا، صلبا، غنيا، حيا.
في النظام الليلي للتصورات رمز التكاثر المستمر الذي يمثل الانعكاس تنوع وتعدد ألوانه، صورة ملابس الآلهة الأم الفاخرة قديمة، نجدها على بعض الأختام البابلية حيث يرمز المعطف إلى قدرة الإخصاب عند الآلهة التي ترمز بدورها إلى الطبيعة والنبات.
سلسلة التشابهات متواصلة، تبدأ بإعادة تقييم الليل لتنتهي بإعادة تقييم مملكة الموت. هذا ما يظهر كيف يتوجه الخيال البشري نحو تلطيف الليل، عله يجد في ذلك نوعا من التعويض الزمني عن الأخطاء والقيم على السواء.
النهار مقدمة لليل، الليل فائق الوصف، غامض، لأنه منبع الذكريات المحبوبة والمحبوسة، علماء التحليل النفسي المعاصرين يرون أن الليل رمز اللاوعي، يتيح للذكريات البعيدة أن تتحرر تصعد الى القلب مثل ضباب المساء. الدور الذي يلعبه الليل في الانتصار على وجوه الزمن. إن زمن النور يقاس، لكن سلطان الليل لا يعترف بالزمان ولا بالمكان.
نرى إذن، سواء في الثقافات التي يسود فيها تمجيد الأموات، أو عند المتصوفين أو الشعراء، يحصل انسجام بين الليل وكوكبة الرموز الليلية بكاملها. بينما كان الجو العام للأنساق الارتقائية هو النور، فإن أنساق الهبوط الحميمي عند التميمي تصطبغ بعتمة الليل.
بينما تنحصر الألوان في النظام النهاري للصورة الشعرية في البياض المطعم باللازورد لأن ذلك النظام بفضل الجدلية الواضحة للفاتح والغامق على نزوات شيطان القصيدة، يصبح اللون عبارة عن ليل مذاب. الفكر الشمسي يكتفي بالتسمية، لكن النغم الليلي يدخل ويحلل..رمزية الألحان، مثل رمزية الألوان، تعبر عن ارتداد نحو التطلعات الأكثر بدائية للنفس، لكنها تشكل أيضا وسيلة للتخلص من الحتمية الزمنية ومحاولة للتعايش مع الزمن من خلال تبهيجه؛ (يا ليل الربيع)41.(همومي وبگايه الليل)،(آنه و..والليل.. نتجاسم كراسي الميز)44.(أفز وأغنيه بشفافي..طرب ياعين..ياليلي)45. (أنه يا ليل ..ياما الك غنيت)46.(النجمات اتغازل ليلك)51.
منهج ماري دوجلاس في دراسة الثقافة من نظرتها الى الحياة اليومية. معظم كتاباتها تدور حول بعض الأمور الدنيوية كالقذارة، الطعام، الأجساد، النكات، أساليب الكلام واللهجات. اهتمت أيضا بأنساق التصنيف، بالأنماط أو الأبنية الثقافية، التي تعطي للرموز الملموسة معناها، كما يؤكد وجودها من خلال الشعائر والمشاعر والشعر..نظرا لانعكاسها وتأثيرها على الأنساق الاجتماعية، حيث تفترض أن العنصر الأساسي هو وجود(الرموز)التي تعين حدود أو خطوط التجمعات البشرية بعضها عن بعض الخطوط الخارجية. كما تتمايز بالمثل داخل هذه التجمعات الفردية أو الأفراد الخطوط الداخلية.
لنلاحظ انموذجات الصورة المكثفة الليل الرمز:
1ـ التقديس؛ الحسين(يالشايل اجروحك ديم ومسافر ابوحشة ليل)7 .(الوفه بينه نبي او تضوي ابميلاده الليالي اشموع)9.(تظل اخيام زينب عتب فوگ الليل)10.(جانت مهره ابليل المحيه)57.(يا فرحة الزهرة وليلة المحية)،(لو اتنطر المهدي يفجر ليل سردابه)69. (اوالفت ليل الطفوف)75.(او كبل فرض الليل)80.
2ـ كربلاء؛(جانت ليل)57.(وصارت كمره اتطشر حزن الليل الفات)56.(بالموضع والليل امهودر)62.(وبليلي اشوفچ ֡گمر سهران الي بسمه)63.
3 ـ هواجس ذاتانية؛ (مستاحش ..آنه والليل ..وهمومي الغريبة وهندس الديره)5.(ي چف الليل بعيوني ليمته تظل اتذري ارماد)13.(ليل او حاير ابنادم)30.(يمر ليلي طويل)،(وعلى بالليل يلتمن فرد لمه)40.(الدنيه ضباب وليلها اطلابه)70.
4ـ للحب؛(عشگنه ابليل وامشينه)15.(غرفت الليل بعيوني)،(ابليله الروح)16.(ليله بين اعيونها الحلوه ايتلامض..عشگ جمر المنقله)36.
5ـ الصحبة والتقلبات؛ (يليل اهلي)5.(يا گلبي..هج ابليل لا تركن الجار)13. (لا السكته اتزرر اجروح الليالي)،(حته عكبتنه الليالي)48.(شلن اجدامه الليالي)50.
6ـ العادات المجتمعية؛(طبعنه ما يبدله الليل ما ناكل جثث موتانه من انجوع)9.(وتطش نزف اجروحنه ليل وخريف)10.(ركضنه عالشموع انثير نخوتها..اعله جيش الليل)22.(عنده الليل سالوفه) 33.(والمضيف ادلاله گمره وتغازل ويه ليل السابله)36.
7ـ الوطنية؛(الوطن لمن گبلت اعليه لگيته ليل موحش..)64.(ولا خاوه ظلام الليل يوم او نام بهدابه)68.(يا وطني اعذرني ..او ما ادري ياهو المن عدنه المعذور..او ما ادري الصوچ من الحايف ..لو صوچ اعيون الناطور)52.(من كربله الكردمند)63.(چم ابن ازياد ابلا غيره..ومطره اللي شاخت بالديره)61.
8ـ ذاكرات؛(ابليل الكوفه حاير)11.(وألف فدعه ابليل موحش)23.(وبكل ليلة جمعه اتبدل)55.
9ـ تيار العمر،النهر،الشعر؛(گاموا ايسمونه نهر العلقمي)73.(ولك دصحه..العمر عبر اثلاثينه.الهجرها الكيف ..چا عاشور يترنم بغانينه)16.(زتن الخمسين وجناتي الطريه)29.(الفرات او ملخ اجروفه)34.(الشاعر بطبعه..مثل المهدي بالغيبه تظل الوادم اتانيه ابكل جمعه)39.(انه يا ليل ..يا ما الك لوليت..اعلگتلك سبعه وثلاثين شمعه..وثاري يا كل اسنيني)46.(آنه بنص الدرب ظليت..لاني ويه جيل الراح..ولاني الماشي وي جيلي)47.(دنيتي الطوفان وانه..لا شبيه الخضر بيها او لاني نوح)49.
إذن، ليس التخيل نزوة لا طائل منها، انه فعل تلطيفي يحول العالم حسب ما يريد إنسان الرغبة:
إنما الشعر ربان
أورفيوس يرافق جازون
لا يبدو عقيما أن ينكب الشاعر من جديد، مثل كاهن الإغريق القديم، على الإلهام الخيالي بجهد اخوي، أن يهتم قليلا بعمل آلهات الشعر، الليل مثلا، ماذا كان سيحل بالمغامر لولا قيثارة أورفيوس؟ من كان سيعطي الإيقاع للمجذفين؟ هل كنا سنسمع يوما بالجرة الذهبية؟ أو(الليل وكربله والناس)؟.