ليث العبدويس
اُتيحَ لي- ومنْ قَبيل الصُدفَةِ البَحتة- وَبعدَ أنْ استهلَكَ الموضوعُ مَداهُ الزَمنيّ وَصارَ في ذِمّة الأرشيفِ وطيّاتِ التاريخِ، أنْ أطَّلِعَ على رائِعةِ المُعاناةِ الانسانيّة الساخِطةِ على الحَربِ وفظائِعِها والموسومَةِ بـ “قاطِعِ أزهارِ الرَبيعِ” إذا أفلَحَ النَقلُ عَنْ الانجليزية (Daisy cutter) أو الاسبانيّة (La cortadora de margaritas) فِلمُ الرُسومِ المُتحَرّكَةِ القَصير المُنتَجِ بِرِعايَةِ دائِرة الشؤونِ الثقافيّة في حُكومَةِ إقليِمِ الباسكْ الاسباني (Gobierno Vasco ) الذي عَرفناهُ حتى سنواتٍ قلائِلَ مَهداً لِمُنظَمَة (ETA) الجَناحُ العَسكَريّ لِحَرَكة تحرير الباسك القَوميّة الانفِصاليّة.
استوحى الفِلمُ عُنوانَهُ مِنْ اسمِ احدَى القَنابُلِ الامريكيّةِ الفائِقةِ التَدميرِ والمُسمّاةِ (BLU-82B) أو حَركيّاً (Daisy cutter) والمُصَنَّفَة ضِمنَ برنامج (Commando Vault)، اُستُخدِمَتْ هَذهِ المُتَغوّلة الشيطانيّة التي تَزِنُ ما يُقارِبُ السَبعَة أطنانٍ مِنَ رَحيقِ جَهَنّم على نِطاقٍ واسِعٍ وَبِشَكلٍ مُجرّدٍ تَماماً مِنَ ادنى أخلاقيّاتِ الحَربِ لِلمَرّةِ الأولى خِلالَ التَدَخُّل الامريكيّ في فيَتنام ولاوس وَكمبوديا (1955-1975) بِهَدَفِ صُنعِ بُقَعٍ انزالٍ مُستَويةٍ تَتَراوَحُ مساحاتِها ما بينَ (300-900) قَدَم مَسلوخَةٌ مِنَ كُلّ ما هو حيّ أو قائِم، رُقعَةٌ صَلعاءَ تَبدو وَكأنَّ مِكواةً هائِلة قَدْ أعمَلَتْ فيها فولاذَها الساخِن، تَصلُحُ كَمهابِطَ لِمُروحيّات المارينز أو أعشاشَ مَدفَعيّة داخِلَ أدغالِ الهِند الصينيّةِ الكَثيفَةِ المُتشابِكة.
ثُمَّ اُستُعمِلَتْ كَكاسِحَةِ ألغامٍ مُتَفجّرة إبّانَ عَمليّةِ (عاصِفةِ الصَحراء) او ما عُرِفَ بِحَربِ تَحريرِ الكويت عام 1991، وَخِلالَ الحَرب في أفغانستان لِتدميرِ الكُهوفِ والمَلاجئ الجَبَليّة، وأخيراً كأداةِ إرهابٍ سيكولوجيّ ووَسيلَةً للتَركيعِ النَفسانيّ والمَعنَوي ضِدَّ الجيشِ العِراقيّ والمَدنيينَ على حَدّ سَواء ضِدَ العِراق مَرّةً أُخرى في غَزو عام 2003، وَقَدْ تَقاعَدتْ قاطِعَةُ أزهارِ الرَبيع أو (Daisy cutter) عامَ 2008 فَقطْ لِتفسَحَ المَجالَ لِبُزوغِ جيلٍ أَشَدَّ فَتكاً وَوَحشيّةً مُغايِرٍ لِكُلّ ما عَهِدناهُ سابِقاً مِنْ مَفاهيمِ التَنكيلِ بالجِنس البَشَريّ، وَهي (MOAB) أو أُمُّ جَميعِ القَنابُل!! .
الفِلمُ يَهمِسُ في أذانِنا بِقِصّةِ زَهرَةٍ عَبَرتْ الحُدودَ بين الكائِناتِ لِتَتَجَسَّدَ في مُعاناةِ تِلميذَةٍ عِراقيّةٍ صَغيرَةٍ فَقَدَتْ زَميلَها إثرَ غارَةٍ للحُلفاءِ الغَربيّينَ في الحَرب المَذكورة، عَلَقَتْ (زيرا) الطِفلَةُ ذاتَ الأعوامِ العَشرِ في ذِكرى هذا المِسكينِ الذي لَمْ يَتبقّى مِنه سِوى طيفِهِ المُحلّقِ في صَفّهِ المُتداعي وَمَقعَدُهُ المَدرَسيّ الخالي إلّا مِنْ شُرودِ الزَميلَةِ وَكركَراتِ زَمَنِ سَلامٍ وَلّانا ظَهرَهُ مُنذُ رُبعِ قَرنٍ وَنيّف، وَهي ذِكرى بَدَتْ زيرا شَديدَة التَعلُّق بِها وَحريصَةً كأشَدّ ما تَكونُ على استِحضارِها الدائِمِ مِنْ خِلالِ أزهارِ الرَبيعِ، وَلَعُهُما المُشتَرَكِ قبلَ أنْ تُفَرّقَ بينَهُما الأقدارُ والمَنايا.
شُرودٌ لا يَقطَعُهُ سِوى جَرَسُ انتِهاءِ الحُصّةِ أو بارِقةُ أملٍ يائِسٍ في شَبَهٍ يَسيرٍ بينَ مَلامِحِ الفَقيدِ وطِفلٍ مَجهولٍ يُحاوِلُ التَملُّصَ مِنْ قَبضَةِ أُمّهِ عِندَ مَتجَرٍ في ناصيةِ الشارِع المُترِب، أمَلٌ سُرعانَ ما يَخبو حينَ يَستَديرُ الأخيرُ ليتجلّى وَجهٌ يَشي بِشَرّ في غيرِ أوانِه، وَجهٍ مَليءٍ بالنُدوبِ-كَوجهِ الحَربِ القَبيح- واصابِعٌ نَحيلَةٌ تَستَديرُ على مِقبَضِ مُسَدّسٍ دُميَةٍ –إثمُ عَسكَرةِ الطُفولَةِ وَشيوعيّةُ التَسلُّحِ المَجانيّ القَصْديّ الوَفير-.
وهوَ إثمٌ لَم يَعُدْ أحدٌ يَكتَرِثٌ كَثيراً لِمُقارَفَتِهِ، تَماماً كما لَمْ يَعُد أحدٌ يأبَهُ لِمرأى الَدباباتِ وَهي تَقطَعُ الشوارِعَ جيئَةً وَذَهاباً، ولا حَتّى الصَغيرَةُ مِحوَرُ الفِلم نَفسَها، إذْ قَدْ تَعتادُ العينُ على البشاعَةِ أحياناً حينَ تتحوّلُ إلى خَيارٍ أوحَدٍ إزاءَ غيابِ أو تَغييبِ خَياراتِ الجَمال أو عِندَ انتِكاسِ السَلائِقِ وانقِلابِ المَفاهيمِ السَويّة.
وَقَفاتُ الفِلمِ –على قُصْرِهِ الشَديد- مَشحونَةٌ بالحُزنِ وضاجّةٌ بالألم، ويتعاقَبُ مَشهَدُ الأزهارِ المَقطوعَةِ فيهِ بِشكلٍ قاتِمٍ يوحي بالنِهايَةِ الوَشيكة، مِنْ الوردةِ الحَبيسَةِ في أصيصِها الزُجاجي، والأُخرى المَسجونَةِ داخِلَ الدَفترِ المَدرَسي، وثالِثَةٍ ورابِعَةٍ مُلقاةٍ على قَبرِ الزَميلِ الراحِلِ المُسجّى إلى جانِبِ عَشراتِ القُبورِ الحَديثَةِ الحَفر، تَمهيداً لِبدء المَشهَدِ الخِتامي، مَشهَدِ الإبادةِ الكُبرى للأزهارِ –رَمزُ السَلامِ المَحمولِ في مِنقار حمائِم بيض- وبيئَتِها الانسانيّة والمَكانيّة بِقُنبُلَةٍ مِنْ طِراز (Daisy cutter) مُمَثّلَةً خَلاصاً لِعَذاباتِ طِفلَةِ أضناها فِراقٌ لَمْ تَسمح مَدارِكُها المُبكّرةُ في استيعابِ ماهيَتِهِ أو استِنطاقِ فَحواهِ العَبَثيّةِ المُجسّدة لِخُلاصَةِ كُلّ الحُروبِ والنِزاعاتِ، وِلتَتَماهى صَغيرَتُنا مَع ثيمَة الفِلم الأساسيّة وَتغدو مَحضَ زَهرَةٍ اقتَلَعَ عَصفُ الأنفِجارِ براءتها وأحرَقَ لَهَبُ القَذائِفِ مُحيّاها الوَديع، موَدِعَةً مُستوانا الأرضيّ التحتيّ في عُروجٍ سَماويّ نَحوَ الزَميلِ الشَهيدِ، وَهُناكَ فَقَط يَسودُ مَلَكوتٍ أسمى بِكَثيرٍ مِنْ كُلّ حَماقاتِ البَشَرِ وأحلاَمَهُمُ الدَنيئَةِ عَنْ حوزِ أَشَدّ الوَسائِلِ إيلاماً في قَتلِ الآخَرِ واستئصَالِهْ.
كَتَبَ قِصّة الفِلم (انريكو غارسيا) وَشارَكَهُ مواطِنُهُ (روبين سالازار) في إخراجِهِ، وَمَثّلَ صَرخَةً قادِمَةً مِنْ أعماق الوَعي الأوروبي الذي استَشعَرَ تَنامياً فَجّاً مُضطَرِداً في لُجوء الحَليفِ الأمريكي لأدوات القوّةِ المُفرِطة، وَعَكَسَ إدانَةً لِواقِعِ الطُفولَةِ التي عادةً ما تَكونُ أوّلَ ضَحايا الصِراعاتِ الناشِبَةِ بين الكِبار، وَيصطَفُّ –على قِصَرِهِ الشَديد- بِدقائِقِهِ السَبعِ في مَصافي تراجيديّاتِ البؤس البَشَري ذوات الأبطال الافتراضيين (Animation)، طَبعاً إلى جانِبِ رائِعة المُخرِج الياباني إيساو تاكاهاتا (قَبرِ اليراعات) أو (Grave of the fireflies) والمُترجَمِ للمُشاهِدِ العَرَبي بِعُنوان (لارا الصَغيرة والطائِرات المُغيرة).