الدراما التلفزيونية .. وحلم الإفاقة
سعدي عبد الكريم/ناقد وسينارست
الدراما التلفزيونية من الفنون الفاعلة والمؤثرة في الوعي والذائقة الثقافية، والجمالية، والوعيوية في حياة المجتمعات، وهي الملاذ الصوري المرئي في معرفة تاريخ الشعوب عبر أحداثه الماضية، والحاضرة، وربما الاستشرافية أيضاً، والأحوال والمتغيرات داخل المجتمعات في حقب زمنية معينة وبطرق فنية اكاديمية، للافادة منها، فالفن بجلّ مصنفاته يهدف إلى الفرجة، والمتعة، والمنفعة وتداول سلطة الوعي بينه وبين المتلقي، وللإفادة القصوى من الدراما بشكلها الفني المُتقن، علينا فتح نوافذ التساؤلات الكبرى للإجابة عنها، وإشاعة روح المناقشة حول مديات نجاح العمل في توصيل فكرته من عدمه، على اعتباره محاكاة الأحداث التاريخية التي وقعت في (زمكانيات) مختلفة، ومتعافبة ماضية، أو سرد الحالات الواقعية الحاضرة، والكتابة بطريقة معالجاتيه عبر أنساق درامية لا يفقهها إلا المتخصّصون في فن كتابة السيناريو، لا كلّ من هَبَّ، ودَبَّ.
تُعَدُّ الدراما مُهلما جمالياً في محاكاة الأحداث لا كما حدثت في الواقع حرفيا، ولكن تحاكيها وفق منظومة معيارية استشرافية مُتخليَّة لإيجاد أجوبة ناجعة حيال الأسئلة اليومية الكبرى، وكما قال أرسطو (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع) وهذا القول لأرسطو يعاضد رأينا الذي ذهبنا إليه.
إن الدراما العراقية التلفزيونية نائمة في غرفة الإنعاش، وحلم الإفاقة من سباتها الطويل بدا مُستعصيا، لأن القائمين عليها لا يرغبون في كتابة التاريخ في الحالتين التي أشار إليهما أرسطو، ونبقى نحن كتاب الدراما أسرى لجملة من المعطيات، والاسباب والرغبات التي يحاول البعض فرضها علينا، لنكن مشاركين في وأد الدراما التلفزيونية في مهدها بأية طريقة، ولأننا لا نستطيع الهبوط لهذا المستوى المُتدني من النتاج الدرامي الهَشّ، ولا لإملاءات القنوات الفضائية بضمنها القنوات الحكومية الغير راغبة بسماع أصواتنا التي بُحت من أجل تأسيس مناخ صحيّ للنهوض بمستوى الدراما العراقية والارتقاء بها صوب حيزها الإبداع الفسيح، بل وترتجى منا النزول إلى هذا الدرك المُهلك، والكتابة وفق هذا النمط المتخم بالإسفاف والكوميديا الفجة، والحجة الدامغة التي يحتجون بها علينا (الجمهور عاوز كده) والحمى تأتي من الأرجل.
إن إحترام عقل ووعي (السيد المتلقي) هي من أولويات العمل الفني الدرامي، والمعروض من الأعمال التلفزيونية في رمضان وكما يبدو للعيان، والطافح على السطح، ما هو إلا ضحك على الذقون، ومرارة تجثم على الصدر، ومائدة تخلو تماما من الفن، بل ومن الدراما ذاتها، ارحموا (السيد المتلقي) وارحموا الدراما العراقية صاحبة الإرث الفني الكبير، وارحمونا من هذا الغثاء اليومي الذي يزكم الأنوف، والذي يبدو بأنه لم يكتب كنصّ درامي، بل هو مجرد (تصفيط) مشاهد وبلغة أقل ما يقال عنها، بأنها لا تليق بمشاهد عرف، وخبر بدراية (المُتفرج الواعي الحذق) للتمييز بين الغث، والسمين من الأعمال الدرامية، لذا نجده يهرب لأقرب قناة عربية فيها عمل فني يحمل عنوان (مسلسل فني جيد) يتصف بنكهة الدراما التلفزيونية بداية من النصّ، ومرورا بالممثلين، والتقنيين، وانتهاء والمخرج المتمكن من أدواته الفنية ليُظهر لنا صورة فيها قيمة فنية عالية تتمكن من الإبهار، والدهشة، والتَّميّز، والجمال، والمسلسل الذي يبعث على رقي المتابعة، والاستكشاف، ولا يبعث على الملل، والتكرار بذات وجوه الممثلين، والشخصيات، والحوار، والتأليف، والإخراج.
لا تقللوا من قيمة الدراما العراقية الرائدة وكأنكم تشاركون في قتلها، ليتوزع دمها بين الفضائيات.
أما وجهة نظر المسؤولين في الحكومات العراقية المتعاقبة فهم ينظرون إلى الدراما العراقية بعين واحدة، على اعتبارها (رجس من عمل الشيطان) فيجتنبوها، ولا بدعموها، خشية تأثيرها سلبا على السلوك، وخدش الأخلاق العامة، ولأنها حكومات تسمي نفسها إسلامية، وقد كثر فيها الفساد حتى وصل إلى (اليافوخ).
إن مواقف الحكومات معروفة سلفا من الفن والفنانين، والأدب الأدباء الذين بات بعضهم يفترش الأرصفة، ويقطن في بيوت من صفيح، ويأكل من الصدقات، ويعتاش على الفُتات، وينتظر رحمة الله حينما يرحل الى مثواه الأخير، بمساعدة الخيرين من أبناء هذا الشعب الطيب.
إن الحكومات التي سقط من حسابها الفنان، والأديب العراقي، وتحكمت بمصائرها الملاذات الخاصة، لإشباع بطونها المُتدلَّية، وعقولها الخاوية، لا تستحق قيادة بلد بحجم العراق حضارته تمتد إلى عمق التاريخ البشري، هذه الحضارة التي علمت الإنسانية كيف يُكتب الحرف، وكيف تنطق الكلمة.