قراءة في قصيدة “امرأة” للشاعرة غادة اليوسف
محمد رستم
على بُعد تفعيلَتَين وقافية راحت تُراوِدُ حِبري أنثى من بهاء وعَبَق ..
أُنثى غاويةٌ تجول بين ضفاف القصيدة تلوحُ في مرايا الكلمات .. أنثى لا تحتاج لتفّاحة وخلود كي تُثبتَ ذاتَها .. وإذا كانت حوّاءُ قد أخرجَتْ آدمَها من جنّة الروح ، فإنّ أُنثى الشّعر هي مَن تُعيدٌه بكلِّ ألَق الفِتنة إلى جنَّةِ البَوح .. ذاك العالَم المليء بالنشوة .
إذ بدَت مثل «كاليبسو» .. ولكن لا .. «يوليسيز» في الآفاق .
فعصَفَ بروحي وهجُ الكلمات .. وغدا كٌلُّ همِّي أن أفكَّ خرَسَ التلميحات فأجلو ما تذهب إلَيه الكنايات ومُضمَر المجازات .
في ترنيمةٍ يختلطُ فيها الأسى بالإقدام والتّحدِّي بالخسران تُعنوِنها الشاعرة بـ «امرأة» .. والعنوَنة هي البؤرة المُكثّفة والعتَبة التي نلِجُ من خلالها النص ، (امرأة) إشارة إلى الأنثى .. وقد أوردتها الشاعرة مُجرّدة من التعريف لتؤكِّد أنّها لا تعني امرأة بعينِها .. بل كلّ النساء في هذا الشرق الغافي في مستنقع الإرث المريض ..
فجسَد النص الإجمالي بروحه التي تمزج الخاص بالعام ومضايفاته وبنكهته ذات المنحى السردي الحكائي يخلق حالة من الجذب .. والشاعرة إذ تتحدّث بصيغة الـ”أنا: فإنها بالحقيقة تتقصّد صيغة الجمع الـ”نحن” في ما يخصُّ عالَمَ النساءلذلك تقول (والنساء جراح ) .. وذلك أنها الجزءُ الذي لا يتجزّأ من هذا العالم .
تقول :
” كلّما أصغَيتُ لِلّيلِ سمعتُ أنينَ مَخَدّةٍ خرساءَ ..
تصرخ بي : أيا أختي
أنا ديوانُكِ المهجورُ في أُميَّةِ القُرَّاء”
نلاحظ كيف بدأت الشاعرة بوحَها بـ “كلّما ” والتي تؤكِد تكرار حدوث الحالة تحت ظرفيَّة الشرط . واختارت الليل وقتاً حيثُ يهدأ ضجيج الحياة وتخلد الكائنات إلى سبات موقت وتبدأ المناجاة .
ففي سكون الليل تغدو الهمَسة ضجيجاً يشي بألف معنى ومعنى والشاعرة تسمعُ أنينَ مخدَّةٍ .. والمخدّةُ الخرساء يكونُ أنينُها أشدّ تأثيراً .. فالناطق يُفصِح والأبكم يُعبِّر بالهمهمات .. وهذا ما يزيد حزن السّامع إذ تختلطُ الشّفقةُ مع التعاطف وتقول لها المخدّة : أنا وأنت في الحال سواء ، كلانا يُعاني من جهالة الآخرين في قراءة مكامن بهاء حضورنا .. وكلانا يرخي الآخرون همومهم على صدرنا دون الاكتراث بأوجاعنا .. فأنا أختك في معاناة الغربة والوحدة والهَجْر .. وواضحٌ هنا كيف تظلُّ الأنثى تنوس بين بنفسَجِ الحزن وياسمين الفرح .. كيف لا والجمادات تحسُّ بآلامِها ( المخدّة) بينما لا يعير المجتمع أذناً صاغية لأوجاعها .. هي »سيزيف» تواجه همَّ الحياة وتشابكات خيوط الضباب في علاقتها مع آدم .
وتقول الشاعرة : «والجراح نساء» .. هي مشابهة جميلة وصورة ساحرة .. فالجراح كثيرة النزف ، رقيقة الحواشي ، .. وكذا النساء .
وتعيد :
«كلّما أيقظتُ ليل الأرجوان على احتمالات النجوم سمعتُ صوتَ تكسُّرِ القمر اليتيم» .
إذنْ كلّما عقدتِ الأمل على انبلاج فجرٍ جديد تحطّمت آمالها ووجدت نفسها في العراء .. إنها تعيش الغربة عاريةً في مجتمعٍ لا دفءَ فيه .. ملوّثٍ بتضخّمِ الذكورة المرضيّ تنهشُها مشاعر الخيبة الناكصة التي تُهيِج دبابير الأسَى وبزخمٍ شعوريٍّ عنيف وجامح وبأقوى صرخة للتمرّد تريد أن تؤكّدَ بُعدَها الرؤيوي من خلال هاجسها المُغمّس بماء الشعور فترفض الانتماء إلى عالم العبوديّة وقد رأت كيف أذرت الفحولة المرَضيّة للذكورة بمكانة الأنثى .
منذ التفاحة وحوّاءُ عالقة في برزخٍ عجائبي من تيه العلاقة مع آدَمِها فأُنزِلَت من عرش الألوهة إلى مرتبة “ملكة” فـ”أميرة” ثم “زوجة” فحسب .. أخير “جاريّة” بل أمَة” .. لذا فهي ترفض الانتماء لعالَمِ كهذا :
«أنا لا أحد .. أو ربّما لا إسم لي .. يكلِّلُ جبهتي شوكي المرصّعُ بالنزيفً»
وهنا تُجري تناصّاً ساحراً خفيّاً إذ تبدو كالسيِّد المسيح وقد صُلبَت على خشبة التمرّد والجموح ، وعلى جبهتها إكليل من شوكِ الخسارات .
إذن العلاقة الملتبسة بين المرأة والرجل والمُسوّرة بقيود الإرث تبدو وكأنّها اللازمة في نشيد الحياة الصاخِب .. والشاعرة إذ تتمرّد تعتلي جواد العنفوان وترفع راية الشّموخِ والكبرياء ، وحين تحاول تصحيح المسار وتتوق لتنظيف حياتها وترتيبها حسب رؤاها وطموحاتها يقف في وجهها الرجال والنساءُ معاً : «ينفَضُّ من حولي الرجالُ كما النساء» مع أنها تسعى إلى الإنصاف فحلمُها لا يتعَدّ أن تجد اليد الحنون التي تمسح بعطر الإنسانية غبار الضيق الذي هيَّجَهُ هُوام الكائنات .. وطموحاتُها لا تتعدّى أن تحيا بفرحٍ وحريّة كما الورود : « ما كان لي حلمٌ سوى بربيع أن أحيا كما تحيا الورود» .. وتُبيِّن رؤيَها للأنثى فهي المعتدلة .. لا مُتطرِّفة في الزهد كالبتول .. ولا ماجنة كبائعات الهوى :
«ما كنتُ بائعة الهوى أبداُ .. وما كنتُ البتول»
إنها ومضة نورٍ ضاقت ذرعاً بسجن مداراتها فتفلّتت تطوف في رحابات الكون دون أن تفارق اعتدال الطبيعة البشريّة ، وترى نفسها قيثارةً تعزفُ على أوتار حزنها فبدون آدَمِها تغدو كموجة تفلّتتْ من قبضة الشطِّ .
هي قيثارة تتوق ليدٍ ماهرة تجيد العزف على أوتار إنسانيّتِها لتزيلَ عن روحها أوصاب الدرب ، تصبو إلى إيقاظِ تائه الحلم من أنياب السيطرة والغُبن وعنجهيّة الفحولة المرَضيَّة فترقص بخلخال المحبة على انغام التقدير والاعتزاز .. تنطلق في براري الفرح كفرسٍ جموح .
وكم بدْت في قمة الموضوعيّة والوعي والاتّزان وهي تبحثُ عن نصفها الآخر .. وكيف لا والأنثى لم تكن يوماً إلا ثانيَ اثنَين .. فتؤثِّث مع آدمِها الفضاءَ الإنسانيّ :
«من لي بنقصٍ يُكمِلُ النقصَ الجميل»
إذن تمرُّدُها السابق ليس طيشاً أو جهلاً بل هو قائمٌ على أُسِّ العقل والموضوعيّة .. فالتكامل الجميل هو كيمياءُ الفرح .. والطّمأنينة هالُ نُكهتِها .. وواضحٌ هنا أن ليس همُّها أن تُسجِّلَ نقطة في مرمى الذكورة .. بل أن تُدوِّن احتجاجها في أرشيف الضمير الإنساني الحي إذ ترى أنّها تكتمل بآدمِها ويكتَمل بها تحت شرطيّة الجهة الواحدة لأنها وحدها مجرّة من عطر وتستحقُّ أن تكون النصف الآخر للذكورة .. النصف الجميل وليس ضلعاً ناقصاً ،و مَكسر عصا .
وهي لا تبني حياتها على لَسْع عقارب الكراهية .. بل تصبو للوداعة والسلامة والأمن فتَتّجه إلى الرجل الأب لتؤكّد أن المرأة تظل أنثى تبحث عن جدار الاستناد .. تبحث عن الحماية الكونَ الإبداعي للقصيدة والحنان والعطف : «والعمرُ يا أبتِ ضنينْ» .. وواضح كيف حكمت ثنائيّة (ذكورة وأنوثة).. فآدم هو الصندوق الأسود لهذه الترنيمة .
وكم تُسفِّهُ الذكورةَ التي لا همَّ لها إلا إفراغُ شحنات شبقِها تحت حرمة صكِّ الزواج .. إذ لا يتعدّى الجنس هنا لقاء انتشا الذكورة بفراغ الأنوثة بعيداً عن روح الأنثى المعطّرة بألَق النشوة ، فالجنس خارجَ روحانيّة الإنسان في نظرها عمليةٌ ماديّة إذ تغدو الذكورة مجرّد شيٍء مادي يرشح .. وهنا تحطُّ من قدر من انفلتوا خارج مدارات الإنسانية :
«امرأةٌ أنا راحت تُناهشُ ثوبَها سوءاتُ من رشحوا على صكِّ الشرائع نزوَهم»
هم آدمُ الذي يقف في وجه ربيع الحياة كمسمار الوقت الصدئ يفقأ بإصبعه عين السعادة ويُلوِّث بسموم مفرداته شرشف الإنسانيّة تحت شرعية صكِّ الزواج .
ونلحظُ أن الشاعرة لم تُضِع سمتَ البوصلة فجاءَت رؤيتها ناصعة إذ تريد للعلاقة أن تكون مطهّرةً من براكين التلوُّث ، منزَّهةً عن الخطوط الحُمر للوصايا التي تشكّل أغلالاً :
«تُقيِّدني بِفَكِّ القيد من قُدسيّة المبغى المًسيّجِ بالخراب» .
وكم تتمنى لو تحوّلت الخطوط الحمر التي رسمت أسوارَها رغبات الذكورة إلى صكوك غُفران تمنحها الأنثى لآدمها الضّالّ في بحور أنانيّته ورغباته : «كم أوفياءُ ومخلصون لذئبِهم» .
وكم كانت خيبتُها كبيرة إذ سقطت أمانيها في بئر يوسف .. ولا سيَّارة في الأفق ، فباتت تقضي وقتها في انتظار “غودو” :
«ولم أكن إلا أنا .. درباً تكوّر في حقيبة شاعر منسيَّةٍ .. بانتظار مسافرٍ ضاعت خُطاه .. مثلما ضاعت خُطاي»
هي تدرك أن الحياة تغدو غابة من الإشارات التائهة .. بل صحراء غزاها التصوُّحُ والاصفرار حين يقع الخلاف .. لذا تريد للعلاقة أن تكون معطّرةً بألق فراشات الضوء ، لا أن تزحف تحت لحاء الخداع والمكر ، لذا فهي لا تتقن ألاعيب المرواغة التي تنتهجها بعض النسوة للفوز برضا الرجل : «ولم أُتقنْ مرواغة الطريق الملتوي» .
هي شاعرة توظّف خبرتها الثقافية وحَدسها الشعري المرتفع الوتيرة لتخرج بالمرأة من عصر الردى والإثم وذلك بدعوتها لأن تحرّر المرأة ذهنها من عنكبوت الوصايا .. وهذا فعلٌ حضاري :
«ولم أُتقنْ مراوغة الطريق الملتوي ببين الغزالة والذئاب»
وتؤكّد أن طبعها العنادُ والعنفوان وتمقت التطويعَ : «طبعي العنادُ وأمقتُ التطويع» .. وتبرز “الأنا” هنا محوريّة التمركز تصل حدّ النرجسيّة فهي تسبق النورَ وضوحاً وطهراً ، بل إن روحَ النور يتبعُها : «وروحُ الضّوء يتبعني .. وتلك خطاه» وإمعاناً في النرجسيّة تقول : «هل يستحقُّ أنوثتي أحدٌ سواي» وتمعن في ذاتيتها وتؤكد حرّيتها واستقلال شخصيّتها فتقول بأنها هي من تخلع الرجل :«أنا امرأةٌ مُطلِّقةٌ .. ومُطلَقَةٌ بِفتح اللام» .. وتؤكّد على أنها تشتعل أنوثة فهي ما تزال في منأىً من الشيخوخة : «والوعول تضجُّ بي .. ومجرّتي لم تنطفئ» .. وتوضح أن كل شيء واضح بالنسبة لها فهي صافية شفّافةٌ مثل مِرآتها : «وأمام مِرآتي أنا والحلم نضحك عاريَين» .. وتختم بأنها تسكن القصيدة التي لا تعدوا كونها الحريّة والتألّق والتطلُّع نحو المستقبل : «هُدبُ القصيدة مسكني .. تأبى القصيدة أن تنام» .
أخيراً نقول : إن القصيدة زخَرت بمحمولات الوجع الأنثوي .. فبدت كمعلّقة صاغتها شاعرةٌ تمتلك أدواتها الفنيّة وتنأى عن كل ما يُشوِّش سلاسة الانثيال وسلامة الانهمار . وفي جماليات القدرة على التلاعب بالدلالات تقول ( أنا امرأة مطلِّقة بكسر الليل يا ليلي ….ومطلَقة ..بفتح اللّا لأبعد ما تقول الآه ) وتأتي جملتها الشعريّة متوهجة معطّرة بألق الدهشة (صدى اعتكار الدرب ..العمر ألهية السنين ) كما تبرع في التقديم والتأخير(ما كان لي حلم …سوى .بربيع أن أحيا كما تحيا الورود ) (هوناًعلى أنشودتي أمشي ) والشاعرة تزج بالصور المبتكرة والانزياحات المدهشة بكثافة مما تقتضيه القصيدة الحديثة ((يدان من البنفسج ..تمسح قذى اعتكار الدرب ..من أثر الهوام .يحضننا العراء ..تناهش ثوبها سوءات ..) وتبدع الشاعرة في المواءمة بين البنية الصوتية للحروف والتصاعد الدرامي في القصيدة فتأتي نغمة الحرف كلحن للحالة الشعورية مثل حرف النون (الارجوان.الخسران ,الهوان ..الخ ) في حالة الحزن ..واعتماد حرف الألف بما فيه من إمتداد حين الرفض (أعلنها..اللا..ليونتها,,قداستها..الخ) وكان الختام بكلمة (تنام )إشارة إلى انتهاء القصيدة مع بقائها يقظة …. هي شاعرة تعرف كيف تقذف اللهب الشعري في أحشاء الجملة .. مع تنويعٍ في أساليب اللغة : (النداء : أيا أختي) ، (النفي : أنا لا أحد) ، (الاستفهام : هل كان هذا مستحيل) .. ولأنها تسرد واقع الأنثى وتُخبر عنها جاءت معظم جملها خبريّة وفق رؤيا متوهّجة بالوعي .. لقد أشعلت الشاعرة النور في عتمة كهف الوجع ، وصاغت من الألم بهائيّةً جماليّة .. وأعطت للأنا أنفتَها الإنسانيّة والشعريّة بتدفُّقٍ عارم معتمدةً الإيحاءات والصور الشعريّة الساحرة وفق أنساقٍ متوهّجة الانسكابات والتراكيب مم يدفع بالبوح لأن يكون قائماً على تدفّق العوالم الداخلية متواشجة مع العوالم الخارجية متكّئةً على غزارة خوابي الذاكرة والمخزون الثقافي ( التناص مع قصة يوسف. وصلب السيد المسيح .ذكر قيس وليلى . .. الخ.. ) في قصيدة ظلّ الألم ينزُّ من حروفها على كل خطوط الطول والعرض .
وواضح كيف أن الشاعرة «غادة» تمثل روح الشاعر الحقيقي فقصيدتها تَشي بأن ليس شاعراً من لا يعيش في المستقبل .. ليس شاعراً من لا يحدو مواكب النور .. ليس شاعراً من لا يكون مرجلاً يغلي بالقلق ، يؤرِّقهُ قَيد مهما كان واهياً .. لذا فقد بدت غادة في قصيدتها هذه مشاكسة متمرّدةً مغايرةً ، فرساً جموح ، وشاعرة قلَّ مثيلُها .