في السوق القديم في سنجار.. ، رأوها في ذات صباح تتهادى في خطوات خيلاء كما لو أنّ بين يديها تاج الطفولة..،
رأوا اقحوانة سنيها تكللها ضفيرتان تتسللان من تحت شال ابيض يهبط فوق عزفات شعر أرجواني..،
ورأوا كفّا من حنين تمسك كف كهل يهشّ عكازته باحثا عن ركام ماضيه بينا لحيته الكثة البياض تضيف إليه سحابة من وقار خجول ..،
ظنّوا أنهما عابران سرعان ما ينقلهما الطريق إلى طريق لا يعود …،
واشمئزوا …كيف لها أن تلامس يده أمام الناس …؟! يا للحياء ..أين بروده ..؟!
وفي صباح تالٍ رأوها من جديد..،
هذه المرّة تقف مع باعة الباقلاء والحلوى..،
مع حسرات العتالين..،
مع أخيلة التلاميذ قبالة حانوت أو ضجيج مقهى ..،
غضبوا.. ،
إمرأة تجول في مدينتهم في صحبة إنسان..،
امرأة تدخّن..،
تُدلي عناقيد الكلام إلى الآخرين..،
يا له من تمردٌ سافر ضدّ تقاليد تحول بين الأنثى والخروج من البيت إلا في حالات الإضطرار وفي معية وليّ أمر ٍ ..،
وكي لا يُمَسّ مارد الماضي بشواهقه ومنحدراته ..، زعموا أنْ قد ضربها عته عفريت ..، بهذا ، ظنوا ، أنّهم يحمون سلطتهم الذكورية،فالجنون وحده يبرّر سلوك هذه الغريبة التي جهلوا من أين انبثقت..،
وفي بدء ظهورها العحيب .. ، لاحقها الصبية والأطفال..، لاحقوها هازئين …ساخرين..،
بعد أيام تقهقروا أمام ابتسامتها الواثقة مثلما تتقهقر الرعود أمام هدوء الأشجار .. ،
وتركوها على ما هي عليه :
الخطوات المتباطئة في السوق ..التدخين ..الجلوس على دكّة الرصيف.. ومتعة الكلام مع الرجال ..،
تركوا غزال ميعة .. ،
ألفوها وألفتهم ..،
ومع الألفة تراكمت مفردات زوادتها ..،
غير أنّ ما يبقى من بين تلك المفردات هو مشاركتها الكلام في ظهيرة نيسان مع عمال بناء ..،
حينها وهي في الطريق كدأبها إلى السوق ٠ ، رأتهم جوار هيكل حول ارغفة خبز وكوز ماء.. ،
دعوها لتناول قدح شاي..،
جلست فوق كيس سمنت..،
مع خيط طويل من الدخان هزّت رأسها مرّتين ..،
ندت منها آهة حرّى ..،
تأوهت :
أمن أجل كفاف اليوم تعانون..؟!
ماذا لو انتهى البناء ..؟
أثمة عمل آخر ..؟
،أين هو العدل ..العدل معكم ..العدل مع آلاف المقهورين .. العدل معي ..؟! أهو العدل أن أسكن مع بعلي قاسم في خربة يعلوها سقف من الصفيح ..؟!
أصغوا الى أسئلتها المريرة..،
إلى هموم دفينة حملوها مع دورة الفصول وحملتهم ..،
أضافت :
العدل ..حتى صداه لا نرى في هذا البلد ..؟ قاسم مريض ..عظامه هشة مثل قصبة ريح ..لو يدفعه طفل يسقط..كيف يعمل ..؟!
أين هو العمل …؟
هل بنت الحكومة مصانع في شنكال..؟
هل شيّدت مدرسة في قريتنا..؟ لو شيدت لدخلها هو .. أنا .. ربما كنّا الآن معلّميْن أو موظفيْن..،
هل هنا ورشة خياطة أكدح فيها..أتقوت بتعبي.. بدل أن تردني هبات القلوب الطيبة .. طوبى لهم ..لكن الهبة تؤلم ..تهدُّ كبرياء المرء ..،
وأين يجد قاسم عملا ..؟
أيحمل صناديق الشاي فوق ظهره في شتاء عمره..؟!
لا..لن أدع انفاسه تذبل ..،
أستجدي ولا يذبل ..،
هو عزاءي الوحيد في عالم أدار لنا ظهره نحن المعدمين…،
هو وسادتي تستريح عليها أنّات روحي ..،
خذلتنا الأرض..،
خذلنا الحكام وما خذلتنا شعلة الحب..،
كم مدهشة هي هذه الشعلة النورانية..،
مدهشةٌ أناملها المخملية تلامس حسرات الفقراء وإذا بثمرات سخية..عذبة تنهمر من سعفاتها الوارفة..،
لولا قاسم أكنت أنسى أغلال حرماني..؟!
أكان ينسى سلاسله ..؟!
يسخرون حين يرون كتفه تجاور كتفي في الطرقات أو على حافة ينبوع … ،
لِمَ يحسدون ..؟!
لِمَ لا يدقّون الطبول لخلّين دخلا كهف العشق ..؟!
لِمَ لا يطرقون بابه..؟!
مساكين هم.. ،
غرباء هم عن محفل الوجود ..،
واحدهم يتأفف أنْ يشارك مائدة الطعام مع رفيقة أيامه ولياليه ..،
لو تدرون ..حين أسير مع قاسم والسيجارة بين اصبعي..، حين تشدّ كفّي كفّه أراني مليكة الدنيا.. ،
لو تدرون ..نظراته الودودة ولا تيجان الأباطرة.. ،
لو تدرون ..قبلته مع هلاهل الشمس تحيل كوخنا إلى بلاط أين منه قصور الكبار..بلاط من الأنس..من الشعور أنّ هناك من هو قريب منك.. منْ يدخل في ذاتك دون مقدمات .. يدخل في عفوية وأصالة..،
قاسم درّة عمري .. حين يهدّني مرض تتناوبه الآهات.. يغور في دعاء خافت طول الليل شبه تنويمة بلبل لزغبه..ألست مليكة إذن ..؟ ، كم من السنجاريات يرفلن بين الظلال التي تفيئني..؟!
كم منهنّ يستقبلن قبلة الصباح من أزواجهن ّ..؟!
كم منهنّ يطفن حول دكة المسرّات كما نطوف..؟!
بهذه العبارات تمور فيها أحلام الخلاص ، ألقت غزال ميعة ثمرات شقاءها الطويل على مسامعهم ..،
وكانوا يتلقفون نبرات صوتها مثلما يتلقف الأطفال هداياهم في ليلة عيد ..،
عقّب محمود :
يا أخت فتحت شبابيك في عقولنا..، منذ صغري كنت أسمع أن المقادير هي التي تملي الأرزاق..اليوم عرفت ان الحكومة هي سبب بلاءنا.. لو كانت تخدم ما حاصرنا الفقر .. ،
قال عيدو :
لا تكرري ما ذكرتيه في مجلس آخر …لو سمع (الأمن) حديثك هذا لألقوك في السجن ..لاتهموك بالتحريض ضد النظام ، قبل أيام سجنوا خالي مصطفي لأنّه تساءل لماذا لا تشيّد الحكومة مستوصف بيطري ..لماذا لا تحفر الآبار في السهول ..لا تسرّب الكهرباء إلى الريف..
لماذا لا تقيم معامل تعليب للتين والزيتون التي تزخر بها بساتيننا..؟!
أردف عيسى : ليت زوجتي تهديني قبلة الصباح مثلما يهديك العم قاسم …،
صاح خلف : ليتني أقبّل شريكتي ولو حين يحتوينا الليل ..أهو ذنبي أو ذنبها ..أعدوا لنا خاتم العرس.. لم نعلم به ..،
أكمل آخر : كلنا مثلكََ .. ما يجمعنا بهنّ هم الأطفال وعيب الطلاق ..، أضاف عيدو: بعد ما سمعت ما بينك وبين قاسم .. أقسم لن يقبل عرسي إلا أنْ تسرق إحداهنّ قلبي حتى لو امتدت بي السنين …، ضحكت ..ناولوها دريهمات .. ودّعتهم ..أبتهلت إلى الرحمان الرحيم أن يدرأ عنهم الشرور …,
تلك هي كانت غزال ميعة ..،
دخلت هودج السنين على وتريات صوتها ..ليس على صيحات الآخر ..،
حملت عصاتها مثلما تريد ، لا كما تأمر سياط الموروث ..،
أصغت إلى مزامير قناعاتها دون أن تهدج نايات الرعاة..،
أبت أن تتكيّف مع ما لا تراه..،
ومشت تتكأ على شعاع تأمّل إلى ضفاف الهناء وسْط ركام ٍ من الآلام والقهر ..،
وتلك فضيلة تغيب عن جل أبناء الجامعة البشرية ..،
وتناغم معها بعلها في سمفونية شمّإء ..، لم يعترض على جولاتها في شوارع المدينة ..،
أراد أحدهم ذات يوم أن يهدج منديل عشقه… ، أخبره أن غزال تنفرد مع البعض .. ، أحبطَ سعيه .. ردّ في هدوء : ثم ماذا ,,, المهم انها تعود في المساء ويضمنا الكوخ ..تعود و يدّثرنا لحاف واحد .. أخبره أنّه يمزح ، تمتم : أعرف ..غزال ياقوتتي ..
تُرى من أين اتت غزال ميعة إلى سنجار ..؟!
من هو قاسم بعلها الذي كان ..؟!
لِمَ لمْ يسأل عنهما الأهل والعشيرة …؟!
هل هربا بعد أن رفضوا ركونها إلى الذي مالت إليه..؟ أ
أين هما الآن ..؟!