الطبع والموهبة
ـــــــــــــــــــــــ
قد يحدث التباس لدى كثير من الناس مابين الطبع والموهبة على الرغم من التشابه الكبير الحاصل بينهما إلا أن هناك إختلافاً جوهرياً كبيراً .
حدثنا التاريخ الأدبي عن تلك الإعرابية التي عثرت على جرو ذيب تائه ليس له من معين فساقتها عاطفتها نحو هذا الجرو وتكفلت به معاهدة نفسها على الإهتمام به تقرباً لمرضاة الله ، فأتت به بيتها ترضعه من حليب شاتها الوحيدة فألفا بعضهما فلما بلغ أشده واشتد ساعده وثب على تلك الشاة وافترسها ومن ثم أكلها مما جعل تلك البدوية في حالة من الذهول والإندهاش فأنشدت تقول : ــ
أكلت شويهتي وفجعت قلبي
وأنــت لشــــاتنا ولــد ربـيـب
غذيت بــدرها ورضعت منها
فما أدراك أن أبــاك ذيـــــب
إذا كانت الطباع طباع سوء
فـلا أدب يـفيـد ولا أديـــب
وهنا يكمن سر طبع الحيوان الذي تجذرت به خصال الطباع حتى وإن لم يترب عليها فهي من صلب كيانه ولا يؤمن بالتطبع إلا في بعض حالات التدريب المكثف لتصبح قادرة على التكيف مع حياة جديدة بعيدة عن طباعها ومثال ذلك حيوانات السيرك التي تصبح طوعة بيد مدربيها ومع ذلك فانها فشلت في كثير من الأحيان إذ هجمت على مدربيها وقد فارق الحياة على إثرها كثيراً منهم وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حصل لمدرب الأسود في السيرك القومي المصري محمد الحلو الذي عمل لسنين طويلة في ترويض الأسود إلا أن الأسد سلطان إنقض عليه في ثمانينيات القرن الماضي وفشلت كل المحاولات لإنقاذه ففارق على إثرها الحياة في المستشفى وهكذا استنهض هذا الأسد طباعه متفوقا على الترويض ومروضه ومن ثم الفشل في محاولة تطبيعه مع غير طباعه ، أذكر ذات يوم كان عندي قطة مع صغارها الثلاثة ، ولسبب أو لآخر ماتت تلك القطة مخلفة ورائها قططها الصغار وهم غير قادرين على إلتهام طعامهم مما جعلني أن أقوم باطعامهم عن طريق قطارة العيون مستعينا بحليب الأطفال في إطعامهم لغاية ما إستطاعوا من الإعتماد على أنفسهم ، ولكن لاحظت عليهم شيئاً غريباً ، إذ رأيتهم عند بدأ التبرز قيامهم بنبش التربة وتبرزهم في تلك الحفرة السطحية الناتجة من ذلك النبش ومن ثم قيامهم بعملية طم برازهم ، فكيف حدث ذلك وهم لم يروا أمامهم من يعلمهم هذا الفعل ؟ إذن هناك عامل غريزة الطباع التي حفزتهم للقيام بتلك الأعمال ، إذن هذه طباع بعيدة عن الموهبة ولكن لاننكر أن هناك ذكاء لبعض هذه الحيوانات ولكن بشكل محدود فتراها تقوم بأعمال غير متوقعة مثال ذلك الحمار الذي ما أن يسير على درب بين نقطتين معلومتين فانه بعد ذلك يعمل بصورة تلقائية مابين تلك النقطتين ذهابا وإيابا .
أما الموهبة فلا أظنها متوفرة إلا بالإنسان فهي مايمزه عن بقية الأحياء بالإضافة إلى الطباع ، فالطباع هنا تختلف مابين هذا وذاك ، فلكل إنسان طباعه قد تتشابه مع إنسان آخر وتختلف في أحيان كثيرة في التصرفات فهذا هاديء الطباع وذاك عصبي المزاج ، وهذا يعمل على ترتيب أدواته بشكل ملفت للنظر وذاك تكون أدواته مبعثرة هنا وهناك وهكذا دواليك ، إلا أن الموهبة لها شأن آخر ، فهي من خصال البشر ، وقد يكون هذا موهوب في جانب ولا يجدها في جانب آخر ، فالشعر ، الرسم ، النحت ، الخط ، الغناء ، الموسيقى… الخ مواهب قد تظهر إحداها أو بعضها على إنسان دون غيره وهي قد تكون موروثة تظهر في جيل وتختفي في جيل آخر ، وقد يكون هناك إخوان عدة تبدو على أحدهم إحدى المواهب من دون أشقائه ، فنرى موهبة الخط أو الرسم تظهر في أحدهم ولا تظهر على بقية إخوانه ، ولكن بالتأكيد يكون قد ورثها من أحد أبويه أو أخواله أو أعمامه لأنه يحملها في جيناته الوراثية ، كما أن هذه المواهب لايمكن أن تأتي بالتعلم التدريجي أو بالدراسة الأكاديمية أو حتى بالممارسة والتدريب أو بالتأثر في أحد الموهوبين الذي ربما يكون من أفراد أسرته أو غير ذلك ، فلا يمكن أن يكون هناك رسام أو خطاط أو شاعر مالم تكن جيناته الوراثية حاملة صفات تلك المواهب ، فأنا حاولت ذات مرة أن أكون رساما متأثرا بشقيقي الأكبر ( الأديب ناظم المناصير ) الذي امتاز بموهبة الرسم وحصد جوائز عديدة في المعارض الفنية المقامة على مستوى قضاء أبي الخصيب ، وحاولت مرات ومرات وبعد تدريب مستمر أن أحذو حذو شقيقي لأكون رساما منذ طفولتي ولكن لم أفلح في هذا الجانب لأني لا أحمل موهبة الرسم في جيناتي الوراثية التي من المؤكد أن أخي كان قد ورثها من أحد أقربائي ولكن كان هناك من أقراني في المدرسة ونفس عمري يتمتعون بموهبة الرسم ، وكذلك حاول أحمد السنباطي نجل الفنان الكبير والموسيقار القدير رياض السنباطي ، نتيجة تأثره بأبيه أن يحذو حذو أبيه فولدت نتاجاته ميتة منذ البداية ، إذ يبدو أن أحمد أراد تقليد أبيه في أن يكون ملحنا أسوة بوالده ، وقد نسي أن الموهبة تورث وتظهر في أحد الأبناء أو الأحفاد ولا تظهر على غيره ولا مجال هنا للتأثر والتأثير لتلك المواهب على أحد أو تقليدها من قبل الذين تعجبهم تلك المواهب ، وللحقيقة أقول وحسب رأيي المتواضع أن رياض السنباطي لم يكن موسيقارا فحسب بل كان عبقريا في مجال الموسيقى والتلحين ويعتبر أفضل من لحن القصيدة العربية وشاهدي على قولي هو مراجعة طفيفة لأغاني أم كلثوم بخاصة القصائد ، نرى أن عبقريته تتضح جليا في تلحين القصيدة العربية مما جعل إحمد يتأثر بأبيه ولكن هذا ليس معناه أن يحذو حذوه لأنه لم يورث الموهبة عن أبيه ، وما ينطبق على أحمد ينطبق على حفيد الموسيقار الكبير سيد درويش فهذا إيمان البحر أراد أن يكون كذلك متأثرا بجده وحاول التلحين والغناء إلا أنه أدرك أن محاولاته كانت في مهب الريح فلم يكن كذلك ، وقد كان هناك الفشل الذريع لعماد عبدالحليم الذي تأثر بعبدالحليم حافظ محاولا الإستفادة من الشبه الحاصل في الشكل مابينه وبين عبدالحليم حافظ فذهب إلى إستعارة اسم عبد الحليم فأطلق على نفسه اسمه عماد عبد الحليم ، وقد نسي شيئا أساسيا أنه كان متأثرا بعبدالحليم وليس لديه الموهبة التي تمكنه من الولوج في هذا المضمار ، فهذه الأمثلة وغيرها كثير ، قد يكون هناك فنانون ولكن بدون موهبة ، وليس كل فنان موهوب ، إذن الموهبة موروث جيني تظهر على أحدهم إلا أنها غير قابلة في التأثير أو الإنتقال بالحث .