شفيق الإدريسي
شاعر يقبض على ضوء العتمات
حسن بيريش
(1)
“ومضَيْـتُ…
أطْـرق بابـاً
فِْـي زحْمَـة الأوجَـاع…”.
أن تقرأ له، أن تلتقي به، ما من فرق هناك بين قصيدة ثرة تعبر عن إنسان جزل. وحده التطابق يتلالى بين حبر جسد معناه، ورجل برز مبناه.
بين تعاطيه شاعرا، والانفتاح عليه صديقا، وجدت مسافة تضيق في حضرة شسوعه. لا لأنه ينهل من واثق سجاياه، وإنما لأنه يصب في جريان شيمه. وكلما إليه لذت، تتبدى بوارق شخصيته على مرأى من إعجابك.
حد الماء بسيط هو شفيق الإدريسي. أليس الشعر من ٱي الماء يأتي، وفي سورة العجب ينهمر؟ أوليس عرام كلماته يهطل من أعالي شفيق اسمه؟
تنتحي به ركنا وارفا في حيز القلب، فتندهش وأنت تراه يطرق أبوابا كانت موصدة. ثم تستغرب كيف ولج خبء دواخلك من أول لقاء، من مفتتح تعارف.
“أفتِّـشُ في الطَّريـق
عَـن فانُـوس…
فِي حضْـرة ضوء”.
(2)
“مِن وَرَعِ الرَّحيل
جسَدي كومةُ ثلجٍ
تُطفئ شرارات جرحي
على أشجانِ
قصيدة مُطرّّزةٍ بالسَّراب”.
في الإقامة تضرج بوريف الرؤيا. في العبور ٱل صوب الذي ينأى في إجهاش تدانيه. وها هو يقبض على ضوء العتمات، كي يتقرى دبيب الأشياء في خبء مسراه. وحده عبوره لا يني يخفق في طين المدينة.
متأجج المخيال، خافق المعاني، أرخبيلي العبارة، ثم مائي المحبرة، هو شفيق الإدريسي. لا يصاب بوعثاء الصور، لما يطرزها بمهارة، محررا إياها من وهم الحقيقة، مسافرا بها صوب ظل يعصي أوامر قامة.
“ويأخذني غيضي
فتنقلبُ…
مرآة صورتي
إلى شمسٍ
تَشرقُ خجولةً
من الغرب !”.
لذا، إذا قرأته حثني على مزيد، وإذا كتبته ٱل بي إلى كثير. ولا محيد عنهما معا، تكتبه في قراءتك / تقرأه في كتابتك، إذا أنت ابتغيت ولوج ممكناته القصية.
(3)
شفيق لا يكتب، بل يتسلق جبل الدوال. ولا يعبأ بصخرة “سيزيف”، تلك التي تتدحرج على مرأى من قصيدته. إنه هناك، على مشارف المجاز، منهمك في صوغ كنايته، وفي تقصي ملذات شتى لا ترى إلا بعين الاستعارة.
“مَـا بيْـن الظَّـلام والنّور
نظَـرْتُ إلَـى مرآة ذاكرتِـي
أنثُـرُ الورد في ثوب عاشقة
أبحَـثُ عَـن أوراق مُعتمَـة
أتسكع على رصيف الكلمات
أتذَكَّـر صَفِـير الرِّيـحِ
يأتِـي من الشَّـرق”.
وأنى حللت في ربوع أشعاره، كيفما سرت في رحب كلمه، يشدني إلى خطو يراعه. ويرغمني على الصعود إليه، هناك حيث تركض مضمراته في براري حدوسه، وتمرح صبواته نشوانة على حواف حزنه.
(4)
“ماذا لَـو كانت السَّمـاء
مِلْـكَ يَـدي
لَغَدوتُ أملِك مَدائِـناً مَسْـحُورة…
كمَـا لو أنِّـي الكَـوْن كله…!”.
في لغته الراقصة، ثمة فرادة بصرية منظورة، حد أن الظن يذهب بك إلى أنه يرسم معانيه ولا يكتبها. تتحول الورقة البيضاء إلى قماش ينادي، والقلم إلى فرشاة، ثم يهدر لون على سجيته، وتغدو القصيدة لوحة.
والعبارة الشعرية تتخطى دالها المائي، لكي تمسك بمدلولها الزيتي. وتنتقل من اليد الكاتبة، إلى المخيلة المرسومة. ثم
ينجلي القصيد وهو ممهور بسيلان بصره، مأهول بتشكيل بصيرته.
“فِـي الصَّبـاح الضَّبابـي
تسْبـح ذاكرتِـي
على المَـاء اليابِس
أمشِـي مُسْرعـاً…
داخِـل فجْـوة بَـاردة
والرِّيـحُ يُداعِـبُ نَحافتِـي
مَـع نُـزول قطَـرات النَّدى
تَنعطِـف أحلامِـي
على يَسَـاري
تّبْـدو…
كأنَّـها للتوِّ ترسُـم ظِـلِّي”.
(5)
أزعم أن إدراك ماهية شفيق، رهين بالتعالق مع خاصيات ذاكرته الثرة. لذا، ستقترب منه أعمق إذا تدانيت من وابل اشتعالات ذاكرته، من وهج مائها المتمرد، ومن نارها التي تضيء لك سبل الوصول إلى أسرار شرارتها.
تحبل قصيدته بثنائية الذاكرة / النسيان. ذاكرة اليد التي تقبض على جمرات النسيان. ونسيان الرؤية التي تتناسل داخل الجغرافية السرية للذاكرة.
اليد مهماز لرمز يحيل على التجدد في رحم الاندثار. أما الرؤية فهي إشارة تقود نحو انبعاث سرمدي، عبره تصبح مرايا النسيان متورطة في أشلاء الذاكرة.
“كالسّحَـاب أَنَـا
أظَلِّـل ثُقُـوب ذاكرتِـي
بأصَابِـع مِن أشجَار الصَّنوبر
مِـن دون غطاء الغَيمَـةِ
فقَـط رُتُوش المَطَر
تُـوقظ بيَـاض خيالِـي
كلَّما طَـوى العُمـر
أزهاراً بِـأوراق مُبتلَّة”.
(6)
هو يكتب استجابة لنداء الوجع، لا يكتب انصياعا لصوت الفرح. من هنا عبثا ان تبحثوا، في شعر شفيق، عن رنين كؤوس ملأى بوهم الغبطة، بل فتشوا عن ثمالة ثكلى، بها وحدها يصنع صوره اللعوب.
“وقَـدْ كَـان بِوسْعِـي…
أنْ أفتَـحَ في جَسَـدْ السَّفينـة