ورقة إصلاح العبادي بين نهايته السياسية وبناء الدولة العادلة ?!
محمد حسن الساعدي
لا يخفى على المتابع حجم الارث الفاسد الذي خلفته حكومة المالكي ، وحجم الفساد والترهل الذي تعرضت له المؤسسات الحكومية كافة ، اذ كانت المناصب تباع وكان مكتب رئيس الوزراء مسؤولا عن هذه ملفات “القومسيون” التي كانت بايدي مقربين منه ، واستلمت حكومة العبادي زمام الامر بعد مخاض عسير كادت تطيح فيه العملية السياسية برمتها ،لولا ارادة بعض الكتل السياسية التي رفضت هذا الواقع والتمديد لولاية ثالثة للمالكي ، الامر الذي جعل الامر يبدو اكثر صعوبة خصوصاً وان الأخير استطاع من بناء شبكة عنكبوتية من الانتهازيين والفاسدين في جميع المؤسسات ، واستطاع من بناء موسسة إعلامية ضخمة باموال الشعب العراقي كانت تقود عمليات التسقيط السياسي للشركاء او الخصوم ، لهذا كانت المهمة صعبة على السيد العبادي ، ولكن ما ان استلمت حكومة السيد العبادي حتى بدأت متلكئة عرجاء غير قادرة على النهوض بالواقع الفاسد لمؤسسات البلاد ، فمرة الضغط الحزبي الذي كان يمارس على العبادي في ضرورة عدم المس بمنجزات الحكومة السابقة ، وعدم التعرض لرجال الحزب الحاكم ، والامر الاخر ان السيد العبادي لم يكن يملك القدرة والارادة في احداث تغيير مناسب خصوصا مع دولة فاشلة واقتصاد منهار ، وميزانية وخزينة “مصفرة” ، ومع ذلك كله كان تسير وتقف ، وتتلكى مرة ثم تعود لتنطلق ، خصوصاً مع وجود عدو يشارك حكم البلاد اسمه “داعش ” .
التظاهرات الاخيرة والتي كانت معلومة التوجهات والمتابع بدقة لمسيرات الاحتجاجات يرى انها كان ذات الوان متعددة ، ففيها الشيوعيين والمدنيين ، وفيها من يحمل اجندات معلومة تحاول زعزعة الوضع لتطلق رسالة ان الوضع بات منهار ولا يمكن الا برجوع المعادلة السابقة التي سلمت العراق لداعش ، كما ان هذه التظاهرات كان المحرك الرئيسي للماء الراكد ، اذ كانت صعقة كهربائية استطاعت من ايقاظ الوضع المنهار ، وهي خطوات مهمة وفرت مناخ اصلاحي في البنية السياسية والاقتصادية والأمنية للبلاد .
المرجعية الدينية من جهتها ومن خلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني المطهر كانت واضحة لا تقبل التأويل او التحريف ، كونها لم تخول السيد العبادي بشي ، كما انها لم تخاطب الشخوص ، بل خاطبت المنصب ، لهذا لا يمكن عدها تزكية للأخير او تفويضاً في القيام بإصلاحات غير مدروسة ، كما ان اللافت في توجيهات المرجعية الدينية العليا انها لم تقل للسيد العبادي افعل هكذا او هكذا ،بل كانت توجيهات صريحة في ضرورة تحمل المسؤولية الوطنية في القيام بإصلاحات من شانها تخفيف العبأ ، والنهوض بواقع الخدمة للمواطن ، وبناء المؤسسات الدستورية ، ومحاربة الفساد المشتري في موسسات الدولة جميعها ، اذ هل يعني محاربة الفساد تقليص المناصب الثلاث ، او السعي الى إلغاء المناصب وبأسلوب لا ينم عند دراسة واعية للوضع السياسي والامني ، خصوصاً وان اول طابوقه بنيت في العراق الجديد كانت على اساس التوافق .
ان ورقة الإصلاح التي قدمها السيد العبادي الى مجلس الوزراء كانت ورقة شكلية لم تعالج الواقع الحقيقي للفساد ، ولكنها ربما لامست مطالب الجمهور ، وخففت من وهج التظاهرات والمطالبات ، كما ان هذه الورقة كانت سببا في تغيير الجو السياسي من ساخط الى مؤيد ، وخلقت مناخاً إصلاحياً عاما في البلاد ، ورغم ان ملف الخدمات للمواطن لم يجد في ورقة الإصلاح سوى سطرين ، الا انها عدت الورقة الذهبية التي ستنقذ العراق من الفساد وبداية البناء الاصلاحي للدولة .
الخطوات الإصلاحية التي جاء بها السيد العبادي والتي كانت ورقة لحزب الدعوة تحديداً ، بل ان بعض الشركاء في داخل دولة القانون لم يعلموا ببنود هذه الورقة والتي جاءت متسرعة لا ترتكز على اسس فنية واضحة ،بل كانت ارتجالية كتبت على استعجال من قبل مستشاري الأخير ، بل انها لم تطرح في مجلس الوزراء او التحالف الوطني ليتم قراتها وأخذ المشورة من الشركاء ، والمباركة للبدء في عملية الإصلاحات ، كما ان إلغاء المناصب خلق جواً سياسياً مربكاً ، خاصة وان من يشملهم الالغاء هم روؤساء كتل من علاوي الى النجيفي الى المالكي ، مما ولد حالة من الامتعاض والرفض لهذه القرارات الارتجالية ، والتي بعضها لم يراعي السياقات الدستورية ، ولم تراعي التوافقات السياسية بين الكتل ، والتي كانت الأساس في بناء المشروع الوطني الجديد ، مما ولد حالة من القلق لدى الكتل السياسية والتي عبرت عن مواقفها في رفض هذه الإصلاحات وعدها البعض تهديدا لمبدأ الشراكة الوطنية ، واستهدافاً مباشراً لها .
الجانب الإقليمي هو الاخر دخل ملف الإصلاحات ، فدول الجوار بدت قلقة من هذه الخطوات خصوصاً وأنها أزاحت مناصب توافقية للسنة والأكراد ، مما ولد استفراد وتفرد بالسلطة من الشيعة والعبادي تحديداً ، كما ان البعض من دول الجوار شعر ان قوى التحالف الوطني هي قوى أساسية وذات تأثير كبير على الساحة السياسية فإذا ما تم ازاحة الشركاء وأضعافهم فماهو البديل القادم ؟!!
اعتقد ان الاولى على السيد العبادي ان يكون اكثر حكمة في مثل هذه القرارات والتي تستدعي الحذر وقراءة الواقع السياسي بجدية بعيدا عن الاهواء الحزبية والشخصية ، وان يسعى الى عقد اجتماع طارى لقوى التحالف الوطني ، وعرض الورقة الإصلاحية ، ونيل مباركة الشركاء ، ومن ثم عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء لاستماع الى وجهات النظر وتعديلها ، ومن ثم الانطلاق نحو الفضاء الوطني لتخفيف التوترات التي قد يولدها مثل هكذا قرارات ارتجالية غير مدروسة تماماً .
الشي المهم واللافت ان الورقة الإصلاحية والتي نتمنى ان تكون بداية عهد جديد في بناء دولة المؤسسات ، وبناء الدولة العادلة ، في حال لم ترى النور والتطبيق على الواقع او انها قوبلت بالرفض والاعتراض فماذا سيكون الموقف ، وكيف سيكون الوضع آنذاك ، خصوصاً ونحن نواجه عدواً خطيراً بكل المقاييس الا وهو الارهاب الداعشي والذي ينتظر الفرصة السانحة لإيقاظ الخلايا النائمة ، والسعي الى قلب المعادلة واحداث فوضى سياسية وأمنية خطيرة في البلاد ، وبالتالي ضياع اي هدف اصلاحي وتغيير الواقع السياسي والاقتصادي الهزيل ، والذي لا يمكن ان يرى الحل الا بولادة نخبة سياسية جديدة تقود البلاد نحو بر الأمان .