بشكل عام … لايمكن أن تتحقق مقولة العدل الأجتماعي ما لم توزن جميع المبتنيات المدنية والقانونية في ميزان الأخلاق .
وكما يبدو من المعادلة إن هناك طرفان في المسألة :
أداءٌ وسلوك ومن ثم معيارٌ يتم بهِ تقييم تلك الأداءات والسلوكيات والممارسات في جميع مفاصل الحياة ، وذلك على فرض إنّ الإدارات والأنظمة المسؤولة فعلا تنوي إقامة العدل وتوفير السعادة للرعية .
ما من شك أن الموازين والمعايير تختلف
تبعا لأختلاف الأسس والمفاهيم بين شعب وآخر ومرحلة تاريخية وأخرى ، ولكن يبقى التحرّك نحو ثابت معيّن وهدف محدّد ينشدهُ الضمير والذوق الإنساني دائما ؛ هو العدل لاغيره .
ولا يتسنى لمفهوم العدل والسلام أن يتحقق بعيدا عن التفاوض مع الجماهير لأنتخاب نوع النظام والسياسات الكفيلة برفع الظلم والحيف عن كاهل المجتمع .
ولاريب أن الأقتصاد من أهم المقومات الرئيسة والسياسات الفاعلة في عملية الأستقرار والثبات بالنسبة للدولة والشعب .
إنّ لتطور الحياة الأقتصادية والمعيشية وصيرورتها وأختلافاتها التي جاءت عبر مراحل وأشواط عديدة في حياة الإنسان ، كان نتيجة ً لألوان متعددة من التداعيات الفكرية والآفاق السياسية والصراعات الطبقية والمذهبية .
وعادة ما يمثـل المذهب الأقتصادي الرؤية الخاصة لنظام الحكم السياسي أو طائفة معيّنة من الطبقات الأرستقراطية Aristocracy المنتفعة ، وكثيرا ما يصطدم مزاج هذا الفكر في تلك الحالة مع مصالح الشعوب .
ويتضح أن الطبقات البرجوازية Bourgeoisie والنــُظم الرأسمالية المنتجة لتلك الرؤى الأقتصادية قد أقصت تماما الجانب الإنساني والخـُلقي عن العملية الأقتصادية برمتها ، حيث جعلت من المادة مشروع الحياة أما الإنسان ليس أكثر من وسيلة لتنمية الطاقات ،
لذلك أطلق النظام الرأسمالي حرية التملك والأستهلاك ، متخذا من شعارهِ المعروف (( دعهُ يعمل دعهُ يمر )) قانونا ومذهبا أقتصاديا لهُ بخلاف النــُظم الأشتراكية والإسلامية التي فرضت الوصاية والتدخل في جميع مراحل الإنتاج .
وعلى الرغم من الأختلاف في وجهات النظر وآليات التطبيق وأدوات البحث بين الفكر الأقتصادي الماركسي والإسلامي ، إلا أن المذهبين أتفقا ضمنا على عدم أطلاق الحرية الفردية في الحياة الأقتصادية .
كما وأن التجارب التاريخية والنتائج العملية أثبتت إنّ نظام الأقتصاد الرأسمالي هو الأكثر قسوة في أبتزاز البروليتاريا proletarian والأكثر خشونة في أنتهاك حقوق الشغيلة والطبقات الكادحة ، بل الأكثر بشاعة في تجويع الدول وإذلالها وأستعبادها مذ عرفت البشرية الرق في التاريخ وحتى هذهِ اللحظة .
وبالتأكيد أن ذلك يعود إلى المرجعية الأخلاقية والمحصّــلة الفكرية التي ينتمي إليها النظام في نظرتهِ التجريدية لمفهوم الحياة والكون وقيمة الإنسان .
ولأجل ذلك يقع الميتافيزيقيون metaphysics والمادييون على طرفي نقيض من قضية تزاحم الأخلاق مع الأقتصاد .
يقول المهاتما غاندي أن التجارة بلا أخلاق لاشك أنها تدمــّر الإنسان .
ويرى الفيلسوف العراقي محمد باقر الصدر ، ضرورة عرض جميع مباديء الأقتصاد على معيار الفضيلة والأخلاق ولابد من وجوب تحقيق العدالة في جميع مراحل الإنتاج ، ثم يؤكد على ضرورة تدخل الدولة في الحياة الأقتصادية لملء الفراغ الذي تركهُ التشريع الأقتصادي من أجل الحفاظ على التوازن الأجتماعي في ظل التطورات والتعقيدات .
لاشك أن الإنسان قد سعى منذ بداية تعرّفه إلى الطبيعة إلى إخضاعها لسد أحتياجاتهِ اللا متناهية متوسلا بمعارفهِ البسيطة ووسائل إنتاجه البدائية .
ومع تطوّر حركة العلم والأكتشاف ورقي الوسائل التقليدية وأتساع الطموح وأختلاف المصالح تعقدت العلاقة الفطرية بين الطبيعة والإنسان فتعقدت معها القوانين والأنظمة الأجتماعية التي يتم بواسطتها رسم الحدود والظوابط بين الأفراد .
من المؤكد أن تلك الأحداث المليئة بالدرن قد تركت بصماتها الملوّثة وآثارها السيئة على المستوى الفكري والخلقي حيث تمخضت عن إفراز صور ونتائج أجتماعية تمثـلت بأنواع من الرق والعبودية والقـِن والإقطاع .
لذا يعتقد الفيلسوف والسياسي الألماني كارل ماركس ، أن القيم الأخلاقية وليدة الظروف الأقتصادية .
في حين يرى المفكر الإسلامي محمد باقر الصدر ، أن المعاملات والظواهر الأقتصادية هي نتاج مجموعة القيم والمثـل التي يؤمن بها أصحابها وينتمي إليها أتباعها سواء كانت على صعيد فرد أو مجتمع أو نظام دولة .
لسنا في صدد مرجعية ولادة الأخلاق ونشأتها ، ولكن ما يجدر بالذكر ، أن سبب التنازع حول الثروة وحقوق الملكية وتزاحم الأنانيات المتناقضة في ظل غياب الوازع الأخلاقي والرقيب القانوني والشرعي ، أثمر لنا مجموعة من المتناقضات الأجتماعية والتفاوتات الطبقية على حساب إذلال المجموع وتقديس الفرد .
ولتلك الأسباب المرتبطة بمعلولاتها العلمية ومدلولاتها المنطقية ، يرى المشرّع الإسلامي من وجهة نظرهِ ، حتمية صب العمليات الأقتصادية في قالب الدين والإنسانية لضمان حق الفرد والجماعة والمصلحة العامة ، بدءا ًمن طرق تحصيل الثروات وسبل تنميتها إلى حدود حق الملكية والتملك مرورا بمراحل الإنتاج والتوزيع والأستهلاك ونظام الأجر والأرباح والقيمة التبادلية للسلع والمنتجات وأنتهاءً بالسياسات المالية والنقدية وقانون المتاجرة وأصولها من بيع وشراء وقرض وفوائد وعائدات … الخ
العــُهر السياسي
صراع الفقر ، صراع مع الطبيعة … مع التسلط … مع الأفكار والنظريات المشؤومة … مع النــُظم والقوانين .
صراع مدفوع الثمن مقدما ، ضحيتهُ الفقراء والمساكين .
صراع ، يقضي تحت وطأتهِ الملايين من الأطفال والنساء والشيوخ .
في عصر الحضارة وغزو الفضاء ، عصر أحتضار الرحمة والقيم ،
كل يوم يطرق باب الطفولة شبح الموت والفقر والمرض .
وفي عصر الحريات والديموقراطيات ، يعاني نصف العالم من التخمة ونصفهُ الآخر يعاني من فقر الدم Anemia وآلام الجوع والبطالة والعُري والجهل والتشرّد ، حتى صيّرت الأماكن الفقيرة والمعدمة مسرح للجريمة المنظمة وحاضنة لممارسات العنف والإرهاب والمتاجرة بالمخدرات وبيع الأجساد .
وانعكست تلك السياسة الأقتصادية بشكل واضح حتى على شعوب الدول ذات الأقتصاد المتين أيضا ، إذ لم تسلم هي الأخرى من مشاكل أجتماعية بسبب التمايز الطبقي .
ففي الدول الأوربية المتقدمة يقدر عدد البطالة بنحو ستين أو سبعين مليون إنسان ، ناهيك عن أرتفاع معدل الجريمة إلى حد أرهق كاهل القضاء خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية .
أما في الدول النامية والشعوب الفقيرة مثل القرن الأفريقي فهؤلاء حلــّت عليهم لعنة الطبيعة كما تزعم بعض النظريات ، فهي المسؤولة عن إفقارهم لأنها لم تجد عليهم بنوع من الرزق ومصيرهم الموت طبقا لقانون الأنتخاب الطبيعي ، فالبقاء للأصلح والأقوى وللأحسن والأغنى
البقاء لمن يتمتع بالوسائل والنفوذ ولمن يجيد فن الأفتراس في قانون الحرب وشريعة الغاب .
يقول مالتوس أحد كتاب القرن التاسع عشر (( ليس للذي يولد في عالم قد تم أمتلاكه حق في الغذاء إذا ماتعذر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله ، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم لوجوده إذ ليس لهُ في خوان الطبيعة مكان ، والطبيعة تأمره بالرحيل ولا تتوانى عن تنفيذ أمرها )) .
نعم ، هكذا كان يعتقد فيلسوف التشاؤم الإنجليزي والمحامي الأكبر للمذهب الفردي توماس مالتوس وهكذا كانت تملي عليه أخلاقه في نظريته المشهورة حول الأنفجار السكاني ، (( من لم يجد له عملا في المجتمع سوف لن يجد لهُ نصيبا من الغذاء ، فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة حيث لاصحن له بين الصحون وأنّ الطبيعة تأمرهُ بمغادرة الزمن )) .
أخلاقيات العصر الروماني والعصر الجاهلي والعصور المظلمة الوسطى لازالت تعيش في عقلية سياسيي القرن الواحد والعشرين بفارق بسيط جدا ، هو أننا أعددنا لوائح لحقوق الإنسان لتزيين رفوف المكتبات في المؤسسات الدولية لحقوق البشر فحسب .
أحد عشر مليون إنسان الآن بحاجة إلى المساعدة في كل من الصومال وكينيا وجيبوتي حسب التقارير التي أشارت إليها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (( فاو Fao ))
ثلاثون ألف طفل يوميا يموتون جوعا في الهند وفق تصريح راجيف ديكار ، عميد كلية العلوم والصحة .
50% من مسلمي مالاوي الواقعة في جنوب شرق القارة الأفريقية يعانون من الفقر والجهل .
مليار وستمائة مليون بشر في العالم يعيشون في حالة فقر متردي بين دولار ودولارين يوميا .
ماذا قدمت الدول الرأسمالية المتقدمة لتلك الشعوب التي أصفرت وجوهها من الجوع ؟؟
كل ما قدمته هو 10 مليار دولار على حد قول قدرية الخضر أستاذة الأقتصاد في الجامعة الأميركية ، أي ما يعادل نفقات أوربا على الآيس كريم ice – creem خلال سنة واحدة .
حرية الفرد في الملكية والأستثمار وإستحصال الثروة هي حجر الأساس الأسود التي تبتني عليها أفكار الرأسمالية ، وقد ذهب إليها مؤسسو علم الاقتصاد الرأسمالي كالفيزيوقراطيين Physoicrats وآدم سميث ومالتوس وريكاردو وأضرابهم .
إن نظام الأقتصاد الرأسمالي لما قضى بإطلاق حرية الفرد في الكسب وإباحة جميع الوسائل لأستحصال الثروة ، فسح المجال أمام الرأسماليين لأتخاذ كل السبل غير الشرعية للأستيلاء على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها الاقتصادية والتآمر على مصالحها ، وقد اعترف بذلك آدم سميث كاهن الرأسمالية الأعظم بقوله (( قلما يجمع التجار وأهل الحرف والصناعات مجلس من المجالس إلا وانتهى بمؤامرة منهم على مصلحة الجمهور أو قرار لرفع أسعار البضائع ، حتى لا تكاد تخلو المناسبات التي يتسنى لهم الاجتماع فيها ، من اقتراف مثل تلك الجرائم البشعة )) .
القانون والنظرية التي تقف ورائها أفكار شريرة هدامة ليست جديرة بالأحترام .
والمشكلة التي نواجهها الآن هي مشكلة تجريد النظرية عن الأسس الأخلاقية وعدم الأكتراث لما يصيب المجتمع من آثار أجتماعية تخلفها النظريات والسياسات المتبعة .
قد بات جليا أن القضية أصبحت ذات دوافع سياسية أكثر مما هي مشكلة أقتصادية تعجز العقول عن أيجاد الحل الأنسب لها .
لابد من مراجعة وتغيير جذري للخارطة السياسية والقانونية والأخلاقية ولابد من الرجوع إلى الفطرة النزيهة Primitivism .
القانون ، لاشك يعجز بمفرده أن يحقق أجواء العدالة الأجتماعية حتى لو كان عادلا ، ما لم تقف الفضيلة إلى جانبهِ لتعزيز العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الثري والفقير وبين القوي والضعيف ، ولابد من وضع لمسات الدولة التي تمثل الأم بالنسبة للشعب ، في كل مرافق الحياة لا سيّما في الحياة الأقتصادية للفرد والمجتمع .
الفوارق الطبقية على أساس الثروة والدخل لايمكن أنكارها أو أزالتها إذ هي سنة كونية ومنطقية تتكون بأختلاف المواهب والإبداعات الفردية ونتيجة الفوارق الطبيعية والفيزيولوجية Physiology .
بطبيعة الحال لايمكن أن نساوي بين أجر لوحة رسام موهوب وآخر غير موهوب أو نساوي راتب الطبيب بمرتب عامل الخدمة ولا يصح أن نساوي قيمة أنتاج عامل ماهر بعامل نصف ماهر .
ولكن ليس من العدل أن نحصر ملكية وسائل الإنتاج والمشاريع الحيوية بيد طبقة معينة فيقع الفقير تحت رحمة العرض والطلب والتنافس بين الشركات الأحتكارية .
طالما أن حق الملكية الفردية قد فرضت وجودها شرعا ومنطقا وأن التفاوت الطبقي لابد منهُ . على الأقتصاديين والسياسيين إذا ً أن يؤمنوا بقانون يكفل حق الجميع من الأعتداء والغبن في جميع المراحل الأقتصادية .
المجتمع الأشتراكي عندما وجد نفسهُ مضطرا للأعتراف بالملكية الخاصة لم يتردد في معالجة الموضوع ولكن بشروط وقيود أيضا تتفق ورؤيته الخاصة .
حيث عمد إلى تشريع المادة السابعة من الدستور السوفياتي والتي تنص على :
(( أن لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية بالإضافة إلى دخلها الأساسي الذي يأتيها من أقتصاد المزرعة ، قطعة أرض خاصة بها ملحقة بمحل السكن ولها في الأرض أقتصاد أضافي ومنزل للسكن وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة كملكية خاصة )) .
كذلك أجازت المادة التاسعة من الدستور ، للفلاحين الفرديين وأرباب الحرف أمتلاك مشاريع
أقتصادية صغيرة .
خلاصة القول إنّ النظرية أو السياسة الأقتصادية ، تعد تافهة لا قيمة لها idleغير جديرة بالترحيب والتقديس في حال أنها تؤدي إلى مظالم أجتماعية وأنتهاكات إنسانية .
وأن لسياسة التجويع والتلويح برغيف الخبز التي تمارسها الطبقات الثرية والأحزاب الأوليغارشية Oligarchy ذات الطابع الأستبدادي والحكومات الدكتاتورية Dictatorship ضد شعوبها ، بالإضافة إلى السياسات الدولية التي تنتهجها الدول المتقدمة ضد الدول الفقيرة سواء كانت عن طريق الحرب أو السلم ، تندرج تحت أطار العهر السياسي والإرهاب الأقتصادي .
ياس خضير محمد الشمخاوي
رئيس منظمة حوار الديانات
Yas_alshamkhawi@yahoo.com