د.عامر صالح
تمر في الثامن من شباط الجاري الذكرى السابعة والخمسين لتنفيذ المؤامرة التي جرت في 1963، ضد النظام الوطني في العراق الذي كان على رأسه الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم, نفذ المؤامرة حزب البعث، وكان المخطط لها شركات النفط العالمية، عن طريق الأستخبارات المركزية الأمريكية. هذه الحقائق عرفها الجميع، وفضحها بشكل أو باخر كثيرون، سواء وافقوا أو لم يوافقوا على ما حصل من مجازر ومظالم في تلك الفترة, الملك حسين، مثلا، قال: أن محطة، (أمريكية) خاصة في قبرص، كانت ترشد حزب البعث، وقطعان الحرس القومي، على عناوين و أماكن تواجد الشيوعيون، من أجل القضاء عليهم. كما فضح جرائم البعثيين هذه، وفي وقتها، الصحفي المعروف المرحوم محمد حسنين هيكل، (وحتى بعدعشرات السنين، ولحد فترات زمنية قريبة من الآن)، وبين إن الجرائم يندى لها الجبين، وقد إضطر جمال عبد الناصر، (الذي أيد – أبتداء- جريمة البعثيين)، أن يندد علنا بجرائمهم، وأن يخبرهم أن يخففوا من جرائمهم.
لم يكن انقلاب 8 شباط انقلابا عسكريا اراد تغيير وجوة واحلال اخرى مكانها والعمل على بناء البلد بطريقة جديدة وبمنظور مغاير لقادة ثورة تموز . انما فجرالانقلابيون في صبيحة ذلك اليوم بركانا من الحقد الاسود والقتل الهمجي والاغتصاب الجماعي والتعذيب الوحشي وفتحت ابواب الملاعب والمدارس ودوائر الدولة كسجون ومعتقلات لعشرات الالوف من العراقيين الشرفاء ومن مختلف القوميات والطوائف وبقاسم مشترك بينهم هو حبهم للعراق وعدم قبولهم لتبعية البلد المذلة للاخرين . وبدأت منذ ساعات الانقلاب الاولى قطعان الحرس القومي ومجرمي المافيات الحزبية وبعض ضباط الجيش المغامرين الانتهازيين تجسيد نظرية الانقلابيين الفعلية والعملية بما يسمى بمصطلح ( المقابر الجماعية ) سيئ الصيت الذي أسسوا لة منذ ذلك التاريخ. وبدأت عملية ابادة منظمة ومعد لها مسبقا وبأطار رسمي اعلن عنة في دار الاذاعة والتلفزيون وهو القرار المشؤوم رقم ( 13 ) الذي دعا الى ابادة كل الوطنيين والعراقيين الشرفاء من قوى اليسار وغيره وبصورة صريحة ومباشرة لم يشهد العالم لة مثيل. اضافة لما افرزتة ايام حكمهم القصيرة من جرائم بحق الوطن ، منها ما تسبب في ضياع اراضي الوطن وتقليص خياراتة البحرية ، اضافة لهدر حقوقة النفطية بالغاء القانون رقم ( 80 ) ، ونشر ثقافة القتل والكراهية والارهاب ، والغى قانون رقم 188 لسنة 1959 الذي ينص على حقوق المراة ومساواتها بالرجل . لقد كان القطار الامريكي الذي جلبهم لسدة الحكم يخطوا بخطى مسرعة وخارج السكة التي يسير عليها فدمر وسحق وبطش كل من كان في طريقة فاهلك الحرث والنسل وجفت منابع الرافدين واحال ربيع العراق الى صحراء قاحلة.
أن الذكرى الفاجعة السابعة والخمسين لانقلاب 8 شباط الأسود تستحضر في ذاكرتنا كل أوجاع ومعاناة الوطن الجريح,من قتل وتعذيب وسبي وتهجير في الداخل والى الخارج,والذي جرى على الهوية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية,مستهدفا كل نماذج النبل ورموز الخلق الرفيع لأبناء شعبنا وحركته الوطنية من سياسيين وتكنوقراط وكفاءات علمية وقيادات اجتماعية, أنها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية,وليست جريمة ذات أبعاد قضائية فقط وفي حدود داخل البلد ومفاهيمه للجريمة, أن الجريمة الإنسانية “هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد الذين من دولتهم أو من غير دولتهم,بشكل منهجي وضمن خطة نلاحظها,والتميز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر,وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف”.فقد أودت هذه الجريمة بعشرات الآلاف من مواطنينا الأبرياء وبآلاف العائلات في غياهب السجون متعرضين فيه لشتى صنوف القتل والإرهاب والتعذيب والدفن وهم أحياء,والذين لم تسلم رفاتهم إلى اليوم إلى ذويهم وبدون قبور تزار.
لقد استهدفت هذه الجريمة كل قطاعات مجتمعنا بدون استثناء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال إيقاف عملية تقدمه الاقتصادي والاجتماعي وأرجعاه إلى الوراء, ولأن الشيوعيين العراقيين يستذكروها قبل غيرهم,لأنها ارتبطت برموزهم الوطنية وقيادتهم المخلصة للوطن أولا, إلا إن ما وقع من أثارها على شعبنا لاحقا وبفترات تاريخية جراء تسلط النظم الدكتاتورية المتعاقبة وما سببته من تشوهات في التركيبة الاجتماعية,وما ارتكبت من مجازر وحشية طالت كل الطوائف والأديان والقوميات والأعراق ضربت عمليات الاستقرار الاجتماعي في الصميم, وعلى الجميع تذكرها وأخذ الدروس والعبر منها,لأن ذلك يجنب “العراق الجديد ” مخاطر الانزلاق في حصر مفهوم الجريمة وضحاياها في فئة دون غيرها, فالجريمة كسلوك يجب إدانته على نطاق واسع بغض النظر عن الجهة التي وقع عليها فعل الأجرام,وعدم السماح بحصره بأطر ضيقة ومحدودة واستخدامه لأغراض نفعية خاصة,فالضحية هو شعبنا بكل مكوناته, وما ارتكبته لاحقا الديكتاتورية والفاشية من جرائم ضد شعبنا هو شاهد على ذلك.
وبقدر ما كان ” لنكسة ” الثامن من شباط من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة, إلا إنها شكلت مصدرا أساسيا من مصادر إعادة تشكيل كيان الفرد العراقي أو الجماعات المختلفة المنضوية تحت النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع,وفي كافة الأبعاد العقلية, والنفسية والوجدانية والسلوكية للأفراد والجماعات والأحزاب والثقافات الفرعية وعلى خلفية إزالة آثار الصدمة,فقد خلقت أولا لدى الحركة الوطنية دافعا قويا من رباطة الجأش المخضب بالأيمان ” لإعادة البناء ” تمثل في دافعية التعويض الهائلة في إعادة بناء الكيانات السياسية المعارضة للجبهة الفاشية,ولعل السرعة التي أعيد بها تنظيمات الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة عليه كانت من ” معجزاته ” والتي لا زالت راسخة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء, فقد نهض الحزب من جديد بعد إن تصور أعدائه أنها هذه نهايته لا محال.
أن جيلا من الأطفال والشباب ولد وترعرع في خضم أحداث صدمة شباط وما بعده, وقف متسائلا ومتأملا عن أسباب فقدان واستشهاد الأخوة والآباء والأمهات والأقارب, وقد كبر تفكيرهم على أعمارهم أضعافا باحثين عن الذنب الذي اقترفه أهلهم وذويهم لكي تحل بهم هكذا فاجعة…لأنهم لا يتوقعون جنسا ينتمي إلى الإنسانية أن يمارس هذه الممارسات في القتل والتشريد ودفن الأحياء,لقد خلقت حالة من الوعي المضاد لأسباب الكارثة في البحث عن بديل أنساني للخلاص من المحنة وهكذا انطلقت المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية والعمالية من جديد, وبزمن قياسي, إلى منابر للأعداد والتثقيف والتنظيم, لقد خاب ظن النظام الفاشي, فقد اتضحت مشاعر روح القوة والعزيمة والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم, لقد خلقت نتائج هذه الأحداث فرصا مواتية لبناء المهارات الفردية والتنظيمية لمواجهة جسامة الحدث وإيجاد أفضل وسائل التكيف مع آثار ” النكسة “.
لقد برز أعلام الحزب الشيوعي العراقي آنذاك بقدراته الهائلة الداخلية والخارجية لفضح النظام الفاشي عبر حملات التضامن مع شعبنا, وفرضت على النظام عزلة دولية خانقة, وقد رسخت مزيدا من ثقافة رفض القهر والظلم والذل, لقد اسقط الشيوعيون العراقيون المفهوم النفسي للسلطة التي لا تقهر, وبهذا أزيحت مفاهيم الاستسلام كمنتوج للصدمة عبر إشاعة مفاهيم العزة والانتصار والإيمان بقضية الشعب العراقي العادلة في الديمقراطية والتقدم والحرية.
يشهد العراق اليوم وبعد مرور سبعة وخمسين عاما على انقلاب شباط زمن أسود في كل تفاصيل حياته اليومية( رغم ما توفرت له من فرصة لتشكيل هياكل ديمقراطية) من طائفية سياسية أغلقت الطريق بوجه مستقبله واستقراره ونهضته المرتقبه, وتفكك اجتماعي واقتصادي أطال الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة, من تفكك للنسيج الأجتماعي وتشويه لتنوعه الديني والمذهبي والقومي وتشوه في الأخلاق العامة والوعي العام, ودمار شامل للبنية التحتية الأقتصادية وايقاف لعجلة التنمية الشاملة وما رافقها من فقر وجوع وبطالة وانعدام الخدمات العامة, وتفشي الفساد الأداري والمالي والعبث بالمال العام, واشاعة الجريمة بكل ابعادها, وأنتشار الأختطاف والقتل اليومي المجاني والتصفيات الجسدية على خلفية الاختلاف في الهوية السياسية والطائفية أو الأختلاف في الرأي, وتهديد السيادة الوطنية والتراب العراقي, وكان في داعش العراقية المتلبسة بقيم ثقافة البعث الساقط أسوء دليل على الجريمة والتحلل الخلقي وأنتهاك الأعراض والسيادة العراقية. إن ما يحصل اليوم هو امتداد مرضي لثقافة الأمس في الإقصاء.
واليوم أذ يمر العراق بأسوء ظروف انسانية تعيد فيه الى الذاكره احداث شباط المأساوية في قطع الطريق على التقدم والسلم الأجتماعي والاستقلال الوطني والاستقرار المجتمعي, فأن كل القوى الخيرة وصاحبة المصلحة في عراق معافى عليها القيام بدورها المخلص والنزيه في اعادة بناء العملية السياسية على أسس واضحة بعيدا عن النظام الطائفي والاثني البغيض, الذي زرعه الأحتلال الأمريكي في العراق ما بعد 2003 وتداخل مع الأجندة المشوهة للأسلام السياسي, وكان اليوم سببا رئيسيا في الخراب والقتل والفساد وانتهاك السيادة الوطنية والذي أودى بمجتمع بكامله في دوامة الصراع والهلاك والانقراض المتواصل للدولة ومؤسساتها على طريق الأضمحلال الشامل. إن بقاء الحال على ما هو عليه سوف يجعل العراقيين كل ايامهم ثامن من شباط, حيث القتل اليومي بدون مناسبة تذكر, إلا لأنهم ينادون بوطن آمن بعيدا عن الصراعات الأقليمية والدولية وبناء دولة المواطنة.