ما الذي يجعل أحداث الربيع العربي عصية على التصنيف؟ فلا هي بالثورات الخالصة ولا بالتمردات الواضحة ولا بالانقلابات الجلية، بل إنها وبالأخص منها أحداث ليبيا واليمن وسوريا تكاد تكون خليطا هجينا من هذا وذاك، يظهر ذلك بوضوح أكبر في
الثورة الليبية التي تبدو مزيجا من ثورة وتمرد وانقلاب، فهي بالنسبة لعامة الليبيين وبسطائهم ثورة على أوضاع فاسدة وقاهرة عمّرت أكثر مما يحتملون، وهي بالنسبة للعسكريين والديبلوماسيين المنشقين عن القذافي تمرّد على النظام من لدن جزء لا يتجزأ منه، وهي بالنسبة للمعارضين المدعومين والمموَّلين من الغرب انقلاب عسكري ضخم ومتهور لا يحسب حسابا للمدنيين، تنفذه نيابة عنهم أذرع غربية ويستفيد من ‘الهبة الثورية الحقيقية’ لأكثرية الشعب الليبي في الداخل، فللأسف ليس كل من نصبوا أنفسهم قادة ‘الثورات’ هم بالمواصفات ونقاء الذمة التي تؤهلهم لتوجيهها الوجهة الأسلم والأقدر على تحقيق مكتسبات جوهرية، والأهم من ذلك الحفاظ عليها وتعزيزها، ولنا عبرة حية في مواصفات قادة التمرد-الانقلاب بليبيا والذي يجري كما أسلفت بموازاة مع ثورة شعبية لا يمكن أن تكون مزيفة، هؤلاء لا يختلفون البتة عن عرائس الدبابات المنصبين على أطلال العراق، لأنهم لا يمانعون بدخول ليبيا فاتحين ممتطين نفس دبابات الناتو، ليُنَصًّبوا هم أيضا على أطلال ليبيا، لكن ليس قبل أن يراق على جوانب ‘نصرهم’ الدمُ، الكثير من الدم، ‘المزيد من الدم’ كما صرح بالجزيرة أحد ثوار الخمسة نجوم الليبيين، واثقا منبسط الأسارير كما لو كان يتحدث عن حزمة حطب يجب إضافتها إلى الفرن ‘الثوري’ هو الذي لم يتجاوز عقده الثالث، وكأنه اختير قصدا ليضفي ذلك المظهر الشبابي على التمرد المدعوم من قوى مشبوهة في انتظار أن ينجز المهمة شباب لم يتعلموا كيف يرطنون بلغة شكسبير ولا كيف يجالسون علية الغرب والشرق بالفنادق المصنفة والاستديوهات المكيفة ليشاطروهم ‘قلقهم البالغ’ على ليبيا والليبيين. أولئك هم ‘ثوار الاحتياط’ ، ليس بمعنى الاحتياطيين وإنما بمعنى المحتاطين من رصاص الثورة الطائش، الذين يبدلون باستمرار أماكن إقامتهم بعواصم الغرب وغرف نومهم بأفخم الفنادق بما تتطلبه إقامتهم من أموال باهظة يفترض أنهم لا يملكونها لأنهم جميعهم إما في وضعية لاجئين ‘ بسطاء’ لدى دول تحارب الهجرة وتقنن اللجوء السياسي أو في وضعية منشقين ‘نزهاء’ لم يشاركوا القذافي وجماعته وليمتهم المسمومة من مقدرات الشعب الليبي لعقود، فمن أين لهم ما يغطي كل مصاريف ‘معارضتهم’ الفاخرة اللاسلكية؟ وما سر هذا الكرم المفاجئ والمساعدات المادية والديبلوماسية والمادية في ظرفية تضطر الغرب إلى تقليص ميزانياته وتحجيم مصاريف قادته وملوكه؟ وكيف لديبلوماسيين منهم من عمل بأروقة الأمم المتحدة وقياديين ‘ثوريين’ بارزين ‘يعرفون جيدا من هو ليفي’ أن يجهلوا أن الغرب لا ‘يساعد’ المعارضين لسواد عيونهم؟ وإذا لم يكونوا يمسكون زمام ثورتهم كما كتب أحدهم بالقدس العربي: ‘لسنا في وضعية من يختارون من يساعدهم ‘فلماذا يسمون أنفسهم ثوارا ويغضبون من مجرد تسميتهم بالمتمردين ؟
ومع أن العديد من السياسيين والمثقفين العرب كانوا لطفاء مع ‘القياديين الحاليين’ لما يحصل بليبيا، فإن ما يجدر أن يُصدح به هو أنهم انقلابيون بكل معنى الكلمة، صحيح أنهم انقلبوا ضد طاغية قل نظيره، لكنهم انقلابيون على كل حال، بل إنهم يشاركون في تنفيذ أحد أكبر الانقلابات في التاريخ سواء من حيث المدة الزمنية التي استغرقها وما زال أو من حيث تكاليفه البشرية والمادية وحتى العسكرية والاستراتيجية، فحكام ليبيا الجدد المرتقبون، وكما يعترفون هم أنفسهم، ليسوا في وضع يسمح لهم باختيار تحالفاتهم الراهنة أو المستقبلية، كما أن ليبيا ‘المهابة الجانب’ عسكريا وذات الوزن الاستراتيجي بالمنطقة لن يعود لها وجود بعد أن تفكك جيشها وصارت مقاره ومستودعات أسلحته مشرعة للعموم. لا أجادل طبعا في أنه لم يكن ممكنا تنفيذ انقلاب عسكري ‘تقليدي’ ضد القذافي على شاكلة انقلابات جمهوريات الموز والاستيلاء على ‘باب العزيزية’ ومقر الإذاعة والتلفزة إلى غيرها من العمليات الاعتيادية، لذلك كانت ليبيا بطولها وعرضها مسرحا لأحداث الانقلاب، وحلت قنوات العرب والعجم محل الإذاعة التي عادة ما يسيطر عليها الانقلابيون، وتحول البيان رقم واحد إلى مئات البيانات يبثها انقلابيون ‘حليقون وأنيقون بشكل!’، هؤلاء سبق أن أعلنوا نواياهم بالتحالف مع الشيطان بل أكثر منه مع ليفي ‘العرب’ للإطاحة بنظام القذافي، فقد سبق لأحدهم وهو عضو سابق في المحكمة الدولية أن صرح في برنامج الاتجاه المعاكس منذ سنة ونصف تقريبا أنه ‘لا يمانع أبدا في دخول ليبيا على ظهر دبابة غربية’، بما يعنيه ذلك من تقتيل بليبيا ودكّ لمعالمها ومنشآتها، وهاهو اليوم يوفي بنذيره المشؤوم كأحد أبرز قادة الدبابات ..عفوا كأحد أبرز قادة الثوار، وكنت أظنه مانِعتُه من أن يفعلَ شهامتُه العربية المفترضة أو انتسابُه إلى بلد عمر المختار، لكنه فعل هو وصحبه. عجبت يومها كثيرا من ذلك التصريح بالنوايا وكتبت مقالا بالقدس العربي بعنوان ‘يوم العجائب على قناة الجزيرة’ خلُصْتُ فيه إلى أن عهد المعارضين الشرفاء قد انتهى، لذلك لست اليوم أعجب إلا من صمت العالم والعرب خصوصا، على ما تحيكه تلك الشرذمة، سواء ممن حُضّروا جيدا لهذه اللحظة في العلن وتحت إشراف علني أيضا لأحد أعتى الصهاينة، أو ممن انقلبوا على القذافي قبل نهاية ‘مسرحيته’ التاريخية الدامية بقليل وقد كانت لبعضهم أدوار رئيسية في استمرارها عقودا ، فهل يمكن لكره القذافي أن يعمي أبصار الجميع بهذا الشكل عمن يتأكد لنا يوما عن يوم أنهم مرتهنون للغرب وأخطر وأضرّ من القذافي؟ يقول كاتب فلسطيني في هذا الصدد: ‘لا خلاف على أن التدخل الغربي في الثورة الليبية كان مشكلة كبيرة أزعجت الكثيرين، بل أدخلت الجماهير العربية فيما يشبه التناقض بين رفضها الحاسم للتدخلات الغربية وقناعتها بالعداء الأميركي والغربي للأمة، وبين عدائها للعقيد معمر القذافي وممارساته، وإيمانها بأنه رجل لم يعد يمُتُّ إلى العروبة أوالقومية بصلة، فاتصالاته الأخيرة مع الكيان الصهيوني دليل على ذلك، وقبل ذلك ما قدمه من مواقف سياسية وما بذله من ثروات بلاده من أجل الحفاظ على نظامه’.
شخصيا أرى أن من يقودون ‘الثورة’ حاليا على أعلى مستوى هم بالفعل أخطر من القذافي وأنهم سيكونون وبالا على الشعب الليبي، فعلاوة على ما سلف من مثالبهم، فهم أكثر ميلا إلى الارتهان للغرب والصهاينة عبر وسيطهم ليفي، كما أنهم على عكس معظم المعارضين العرب، لم يصنعوا لهم تاريخا نضاليا ولم يخوضوا أي شكل من أشكال مواجهة النظام قبل ثورة البسطاء، وقبل أن تستقدمهم طائرات الناتو وبوارجه، فلا أحد ممن خانوا القذافي سبق أن عارضه أو واجهه من الداخل، عندما كان يبدد ثروات الليبيين يمنة ويسرة لتدعيم نظامه، ولا حتى عندما سحق مئات الليبيين في تمرد سجن أبو سليم، وقد كانوا في مناصبهم العليا، ومنهم من كانوا على رأس الديبلوماسية الليبية أو ضمن قيادات الجيش أو بتمثيلية ليبيا بالأمم المتحدة وغيرهم كثر، ولا ‘معلّبو’ الخارج أنشأوا تنظيما سياسيا أو عسكريا للتصدي للقذافي بالداخل أو من الخارج، بل انتظروا جميعُهم أن يهب ثوار الداخل وأن تقلع طائرات أولياء النعمة، ليملؤوا الدنيا ‘معارضةً’ والأستوديوهاتِ صراخاً والمحافلَ عويلاً على مصير ليبيا والليبيين. ومع كل ما يشوب ‘ثورتهم’ المزعومة من ‘اللاثورية’، فأنا أنصح الليبيين العاديين، أصحاب الثورة الحقيقيين، أن يختاروهم حين تضع الحرب أوزارها، إن خُيِّرُوا بينهم وبين نظام القذافي، طبعا إذا لم يجدوا عنهم بديلا أنظف وأقوم.
عبد اللطيف البوزيدي – المغرب