شراع سفينة التظاهرات..ورياح التغيير
Iraqi Demonstrations Demands and Wind of Chang
أ.د.قاسم حسين صالح
لم يشهد العراق منذ عقود من الزمن تظاهرات كالتي شهدها في جمعة السابع من آب 2015،ليس في حجمها فقط الذي يقاس بحجم معاناة واوجاع اهلها،بل وبسلوكها السلمي الحضاري وتعاطف القوى الأمنية التي كانت توزع الماء البارد على المتظاهرين.فلقد تحول الاستياء الجماهيري الى غضب عارم بسبب سرقة مليارات الدولارات عبر مافيات لقادة سياسيين وشركات وهمية وتردي الخدمات وصبر الشعب المفجوع والمخدوع بحكام يدعون الدين..كان يمكن ان يستمروا لولا رفع المرجعية الموقرة حصانتها عنهم ودعوتها الصريحة الى السيد رئيس الوزراء الى ان يكون اكثر جرأة وشجاعة.
منذ ثلاثة عشر سنة صار في العراق عالمان:ما يشبه الجنة..بمساحة 10 كيلومتر مربع لمليون ،والجحيم بعينه لثلاثين مليون عراقي!..في نظام وصف بانه ديمقراطي كان في حقيقته خرافة..والخرافة تعني الاعتقاد بشيء غير موجود فعلا،او حين يكون التفسير لظاهرة معينة مخالفا للمنطق.فالمبدأ الأساس الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي هو (العدالة الاجتماعية) التي حققتها كل الأنظمة الديمقراطية في العالم بهذا القدر او ذاك..الا في العراق، فان حكومات النظام الديمقراطي وبرلماناته نهبت ثروات الوطن بفساد خفي ومشرعن لم يحصل مثله في تاريخ العراق والمنطقة والعالم.وما حصل لا يستوعبه عقل ولا يهضمه منطق..الا بأن تعدّ ما يحصل في العراق الديمقراطي مجموعة خرافات، اليك اولها:
ان عدد موظفي المنطقة الخضراء (28) الف موظفا يتقاضون،عدا الرواتب،(574) مليار دينارا..مخصصات خطورة..مع انهم محصّنون بالكونكريت والحمايات،وان الذي يستحقها هو المواطن العادي الذي يمشي الموت البشع معه في الشارع.
والثانية،ان في العراق (الديمقراطي) برلمان يتمتع بامتيازات خيالية لا يتمتع بنصفها اي برلمان في العالم..بينها ان عدد الحمايات لأعضاء البرلمان يبلغ (14800)منتسبا يتقاضون (156) مليار دينارا ،ولديه(550) سيارة يصرف على تكاليف تشغيلها ملياري دينارا سنويا.
والثالثة،ان مخصصات رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء..بالترليونات،والترليون الواحد..ضع أمامه 12 صفرا!.
والرابعة والخامسة والسادسة،ان ما يصرف على ايفادات (ترفيهية) بالمليارات ايضا..لدرجة ان هنالك مسؤولين يقضون (25) يوما في الشهر خارج العراق في فندق خمس نجوم مدفوعة نفقات طعامه وشرابه وفوقها (600) دولارا في اليوم،وان مجلس الوزراء صرف في عام واحد اربعه ترليون دينارا(ضع امامها 12 صفرا!) لا يعرف احد كيف صرفت بحسب تصريح اللجنة المالية في البرلمان،وان الحملات الانتخابية الكبيرة انفقت من المال العام.
والسابعة،هنالك (824) مشروعا وهميا في محافظة واحدة فقط هي البصرة!،واربعة آلاف موظف وهمي (فضائي) في محافظة ديالى فقط..ما يعني ان المشاريع الوهمية في العراق تتعدى عشرة الاف مشروعا،والفضائيين (الوهميين) بمئات الآلاف!.
والثامنة، كنا نعرف ان هنالك مسؤلين كبار اختلسوا وسرقوا ملايين الدولارات ،لكننا ما كنا ندري ان بين هؤلاء اللصوص ثلاثة وزراء وتسعة مدراء عامين و779 من افراد عائلات واقارب مسؤولين في الحكومة والبرلمان (الديمقراطيين!) نهبوا عشرين مليار دولارا..لو استرجعت منهم لما بقي في العراق خمسة ملايين آدمي يعيشون تحت خط الفقر.
والتاسعة،ان أقل مسؤول في الرئاسات الثلاث يمتلك (350) حارسا، ورئيس حزب سياسي يمتلك وحده (1200) حارسا ،وأحد المسؤولين لديه (200) سيارة. وان رئيس الجمهورية الذي يفترض فيه ان يكون القدوة قام بتعيين ابنته مستشارة له،وفعل نفس ما فعله رئيس الوزراء السابق الذي انتقده بشدة يوم عيّن ابنه مديرا لمكتبه.
والعاشرة،ان نوابا تحولوا الى دلالين لبيع المقاولات!!
ما يميز الشخصية العراقية هو ان الاحداث الكارثية عبر 35 سنة منحتها القدرة على التحمل..بمعنى قريب من قولنا (صبر ايوب).وفي الواقع: علينا ان نشكر الشمس التي خصت العراق بحرارة لا يطيقها الحمار ،وانعدام الكهرباء..فهما اللذان قدحا ما كانت تحتاجه الشخصية العراقية..لتنفجر!..وكان انفجارا اصاب السلطة بالذهول..فبه تغيرت المعادلة السيكولوجية من استعلاء السلطة على الناس وعدم الاكتراث بمتطلبات حياتهم،وقمع تظاهراتهم في شباط 2011 بأمر (مناضلهم) الذي اعتلى سطح البناية المطلة على ساحة التحرير..الى الخوف منهم وتسابق من كانوا هم سبب الكارثة الى الاستجابة لمطالبهم..بنفس وقاحة فسادهم الذي صيروه شطارة بعد ان كان يعد خزيا في قيم العراقيين.
ثمة امران يمنحان المواطن العراقي تفاؤلا هما:توكيد المرجعية على بناء دولة مؤسسات مدنية وديمقراطية،وتوكيد رئيس الوزراء حيدر العبادي في استقباله للسيد فخري كريم رئيس مؤسسة المدى على “جدية التوجه في تطبيق اصلاحات تطال كل الميادين التي تعرقل بناء دولة وطنية ديمقراطية تمثل الارادة الوطنية واجراء تحولٍ يفضي الى استكمال بناء دولة المؤسسات والحريات والقانون وحقوق الانسان“.
ان رياح التغيير قد هبت..وسفينة التظاهرات ابحرت،لكن احتمالات الطقس السياسي لا يمكن التنبؤ بها.فقادة الكتل السياسية مصابون بالبرانويا التي تدفعهم قسرا الى استهداف الآخر،والعقل السياسي العراقي ادمن على انتاج الأزمات والتسويف والتزييف،وحتى في الوسط الشعبي..هنالك من اختزل هذا الحدث الأكبر بأوامر المرجعية واستجابة الحكومة لأوامرها..ما يعني عدم وجود ضمانة لوصول سفينة التظاهرات الى بر الامان ما لم يكن لشراعها قادة بعقل جمعي يمثل المتظاهرين بشرائحهم الثقافية والاكاديمية والاجتماعية ،يشترط على من يكون فيه ان لا يقبل بأي منصب او مسؤولية تعرضه عليه الحكومة او البرلمان طيلة فترة التفاوض والى ان يتم البدء بتطبيق مبدأ من اين لك هذا، وفتح ملفات الفساد من عام 2003 .فاذا كان قد اتهم علنا بالفساد من اوصله الى نيابة رئاسة الوزراء صاحب عمامة محترمة ،فمن يضمن علمانيا يفوضه المتظاهرون ان يكون نزيها في زمن صار فيه الفساد شطارة؟!