دولة عبود !
ـ أسماء محمد مصطفى
يتداول بعض العراقيين نكتة مفادها ( أنّ عبوداً تطوع في الجيش العراقي . وفي ساحة التدريب سأله الضابط عن سبب وجوده هناك ، أجابه عبود بأنه جاء للدفاع عن وطنه . فعلق الضابط متسائلا : عفية بالسبع ، زين عبود إذا إجاك العدو شتسويله ؟ أجاب : سيدي أحط طلقة براسه وأقتله . أطراه الضابط قائلا : عفية يابطل ، زين عبود إذا أجوك خمسة وأنت عندك بس خمس طلقات ، شتسوي ؟ قال : سيدي أرميهم صلي وأقتلهم . قال الضابط : عبود أنت صدك بطل ابن بطل .. زين إذا إجوك عشرة شتسوي ؟ أجاب : سيدي أشمر رمانة وأقتلهم قتل . قال : عبود عاشت ايدك يابطل .. زين إذا إجوك خمسة وعشرين واحد شتسوي ؟ أجاب : سيدي أرمي رمانتين وأقتل عشرين ، وأرمي خمسة صلي . قال الضابط : عبود أنت شجاعتك ماتوصَف . زين وإذا إجوك سبعين واحد وأربع دبابات وطيارتين شتسوي ؟ قال : سيدي أحط طلقة براسي وأنعل هيج جيش مابي بس عبود )..
عبود الآن ، موظف او كاسب بسيط يعمل تحت أشعة الشمس الحارقة ، ومثقل بأعباء الحياة المعاشية الصعبة والغلاء ، وجيبه يترنح بين أسعار الغذاء وأجور الكهرباء وقوائمها الوطنية وغير الوطنية وقوائم الماء وبدلات الإيجار وأجور تعليم أولاده ومتطلباتهم وأجور علاجه وعلاج أفراد عائلته في رحلتهم مع جملة من الأمراض التي تعود الى أسباب كثيرة تتعلق بالتلوث البيئي والغذاء غير الصحي والقهر والحرمان والكبت والانسحاق المتوارث جيلا بعد جيل .
عبود ، فقد من عائلته وأصدقائه الكثيرين في الحروب والانفجارات والاغتيالات والاختطافات والتهجيرات والأمراض الطائفية ، بعضهم غادر البلد هربا من اليأس او التهديدات ، وبعضهم ابتلي بالأمراض المستعصية او المكلفة في علاجها .
عبود فقد أيضا من صحته وسنوات حياته الكثير في الحروب والحصارات ودوامات الفقر والقلق والركض وراء لقمة العيش إذ عمل موظفا او عاملاً بأجر او عتالاً او صاحب (جنبر) حتى احترقت بشرته كما شأن أحلامه ، وماعاد له مايكفي من الوقت ليلتقط أنفاسه .. او يحلم بالمزيد ..
عبود ، اعتاد الذهاب الى عمله عبر شوارع مثقلة بالزحام ومفخخة بالعبوات ، وهو يعمل في ظل ظروف عمل صعبة لاسيما في الصيف حيث يموت حراً حين تنقطع الكهرباء ، وحتى حين تتوفر الكهرباء ولايتوفر له سوى مروحة تجذب له هواء ً حاراً يفقده المقدرة على التركيز والتفكير .
عبود اليوم ، رزقه البسيط يلاحقه أكثر من أربعين حراميا ممن غادروا جرار كهرمانة .. لأنّه وعلى مايعتقد سبب أزمة البلاد المالية !! وكأنه هو من باع نفط البلد وحوله الى أرصدة في بنوك الخارج ، او كأنّه هو من عمل مشاريع ومقاولات وهمية وسرق المال العام .
عبود الذي تعرض للسرقة مرات ومرات من أولي الأمر ، امتعض حين زادوا من الاستقطاع التقاعدي حتى قبل أن يزيد راتبه ، فزيادة الاستقطاع التقاعدي كانت مرتبطة بزيادة الراتب ، لكن عبود لم يتسلم الزيادة ومع ذلك دفع للدولة الاستقطاع ..
عبود المحاصَر في كل شيء ، فقد أعصابه مرة أخرى ، حين لاحقته الدولة بزيادة ضريبية على راتبه ، فارضة الضرائب على السلع والخدمات بشكل أو آخر، حتى شعر أنّ حياته قد تفرَض عليها ضرائب دعماً للموازنة العامة !!
عبود ، تذمر حين سمع تصريحات بعض أعضاء البرلمان .. هذا نائب يطالب باستقطاع نسبة معينة من راتب عبود تحت باب “الإدخار الإجباري” ، وتلك نائبة تطالب باستقطاع نسبة أخرى من راتب عبود سداً لعجز الميزانية .
عبود ، الذي لايهتم المسؤولون بحقوقه وواجباتهم نحوه أدرك أنّ التقشف فرض عليه وحده وأنّ راتبه هو منقذ خزينة البلد ، وإلاّ لماذا يُستهدَف ، كأنّه هو المسؤول عن إفلاس الخزينة ، وليس المسؤولون والبرلمانيون الذين يتمتعون بالرواتب الفاحشة والامتيازات ويعدّون عبئاً على الدولة والميزانية والشعب حتى باتوا يشكلون حلقة زائدة تثقل الموازنة العامة في ظل الفساد ، وفي خضم سيل الخراب الذي بلغ الزبى .
عبود صبر كثيراً على الظالمين الجشعين واستهتارهم بحريته وإنسانيته وحقه في الحياة ، لكنه خاف أن يفقد عقله او يضطر لإطلاق رصاصة على رأسه ، في ظل واقع يفرض عليه أن يدفع من كرامته وجيبه المزيد ليتنعم الفاسدون بخيرات بلده ، بينما هو مهدد بفقدان مسكنه وحياته . ولأنّ المسألة عنده ليست مسألة محاصرة رزق وإهمال خدمات فقط ، بل مساس بحياة وكرامة وحريات وخيارات ، ركض على غير هدى باحثاً عن منفذ لخلاص وتفكير بماعليه أن يفعل ، حتى وجد نفسه في ساحة كهرمانة ، حيث طرأت في ذهنه فكرتان ، الأولى أن يسكن مجاناً في إحدى الجرار الأربعين التي خرج منها اللصوص مسبقاً وتوزعوا بين العراق ، والثانية أن يكسر الجرار تخلصاً من رمز اللصوصية كبداية ، لكن عبود وجد الجرار قد سرقت هي الأخرى وكهرمانة تصب الزيت في الشارع ..
على الزيت سار عبود ، الى ساحة التحرير .. وهناك ، حيث نصب الحرية ، رفع لافتة خطّ عليها : (دولة مابيها بس عبود ، خل عبود يحكمها) ..