حين تموت الانسانية
جوتيار تمر
كوردستان 5/9/2015
حين نذكر الانسانية ربما لن تجد اختلافاً واضحاً بين الرؤية التي قد يتبناها شخص ما حول ماهيتها، لكن مع ذلك يبقى دائما في الواقع بعض الاشكاليات التي تتضح من خلال البيئة والاجتماع والدين والفكر والسياسية وجملة امور اخرى تظهر اثارها على المستوى الادراكي للفرد في اغلب اصقاع الخراب المسمى الارض.. ولكن الثابت في المفهوم ربما سيبقى هو ان الانسانية تعني ان تبتعد عن كل ما يؤذي الاخرين باي شكل من الاشكال..وان تتقبله وتحترمه..وان تقدم له يد العون حين الفاقة ” الحاجة”، ناهيك عن بعض المتفقات الاخرى التي قد تتلائم مع واقع كل فرد حسب بيئته ونشأته وديانته وفكره وانتمائه.. وعلى الرغم من انه قلما ستجد من يعارض هذه المفاهيم حول الانسانية وذلك لبساطتها ووضوحها وعدم وجود اي تعقيدات فيها، ولانها لاتحمل ايضاً على اية مفاهيم فلسفية خاصة، فهي تلامس العياني الحياتي اليومي للانسان..لكن الغريب في الامر ان الواقع العياني نفسه والاحداث تؤكد بان الانسان لايعيش حتى جزء بسيط من هذه المفاهيم التي هو نفسه يبادر في قولها واظهارها.
لقد برزت في الاحداث الاخيرة التي عصفت بالشرق الاوسط عموما وبنا نحن الكورد خصوصاً القيمة الحقيقية للفكر الانساني واعطته مجالاً واسعاً كي يحقق ذاته.. ويتمكن من تخطي القولية الى الفعلية الحتمية.. فكل الظروف كانت ولم تزل متاحة من اجل ان يحقق الفكر الانساني غايته الاسمى وهو الابقاء على الانسان انساناً مترفعاً على الواقع ومتحدياً لكل موجبات المذلة والمهانة.. ولعل كل من سوريا والعراق وكوردستان نماذج واضحة ومتاحة كي يقوم الفكر الانساني بتفعيل نفسه وتحقيق اهدافه المعلنة او حتى تلك المفاهيم البسيطة التي سبق وان ذكرناها والتي تلامس الواقع العياني الحياتي اليومي الانساني في هذه المناطق.
لكن مما يؤخذ عليه.. ان الفكر الانساني لم يرتقي الى المستوى المطلوب كونه فكراً انسانياً يُقدِم الفعل على القول.. فالتصريحات والمؤتمرات والاجتماعات والندوات من اصحاب الفكر الانساني.. وممن يرون بانهم يمثلون هذا التيار على المستوى العالمي بالاخص في اوروبا فاقت الفعل في الواقع وبقيت معتمدة على القول الاعلامي، وهنا لسنا ننكر ماقامت به اوروبا من حيث ايواء الالاف من الاسر والشباب المنكوبين وتقديم المساعدات لهم سواء هنا حيث المناطق المنكوبة او استقبالهم في دولهم واعطاء الكثيرين منهم حق الاقامة واللجوء- هذا ما لن يستطيع احد انكاره-، ولكن مع ذلك فان الواقع حين يقرأ بعين ماورائية سيجد بأن اوروبا مازلت تبحث عن ذاتها فيما يخص ادعائها للفكر الانساني وتبنيها له..ولعلي ابرهن على مقولتي هذه ببعض الامور التي يمكن للقارئ من خلالها الحكم على ما اكتبه.
المصالح الاوروبية الامريكية ازلية في المنطقة..بدأت قبل قرون وهي مستمرة.. ولااعتقد بانها ستنتهي طالما هذه الدول هي المتسيدة اخلاقياً و(انسانياً) وفكرياً وسياسياً واقتصادياً وفي اغلب الجوانب الحياتية ان لم نقل كلها.. وهذا ان انكره شخص فانه بلاشك سيقولها من باب (كان او كنا…) وهذه مقولات عفى عليها الزمن واصبحت غير ملزمة او غير متاحة فعلياً وواقعياً.. ولاشيء الان يبنى على ماكان وكنا عليه.. انما الواقع يحدثنا عن ما نفعله وما نجنيه من فعلنا.. اي ما نقدمه ونحصده.. وهذا واضح للعيان بان اوروبا تقدم وتحصد.. ونحن نتلقى فقط ولانتحرك.. وحتى اعلامياً فنحن مجرد ادوات عاطلة عن العمل قياساً باعلامهم.. ولننظر الى الحدث الابرز في الايام الاخيرة حيث صورة الطفل الكوردي “ئالان” من كوباني التي حركت العالم اجمعه اعلامياً.. ولن اقول هزت ضمير العالم لان لاشيء يهز ضمير العالم الا تحقيق رغباتهم ومصالحهم.. لكن لنقارن اعلامهم باعلام الشرق الاوسطي، حيث ابرزت وسائل الاعلام الاوروبي صورة وزيرة وهي تبكي على الطفل، ومستشارة وهي تصرح باننا سنعلم اطفالنا بان مكة كانت اقرب لهم ولكنهم لجأوا الينا، والرأي العام الامريكي يصرخ والاوروبي افتحوا الابواب لهم.. ولكن الاعلام الشرق الاوسطي ملتزم بمقولات مقننة لديها ومعتمدة منذ عقود..نشجب و نندد بمن تسبب في هذا الفعل الاجرامي، وسنكافح من اجل رفع الظلم عن هولاء الابرياء، واجمالا ليس هناك اي تحرك.. وكما قرأت في احدى التعليقات على ما قالته المستشارة الالمانية.. بان مكة واصحاب البترول فتحوا ابوابهم لهم لكنهم اشترطوا بان يبقى الرجال في دولهم يقاتلوا الظلم،و فقط ان مكة ودول البترول وغيرها في المنطقة بامكانهم ان يستقبلوا الصبايا القاصرات والشابات ليتخذوا منهن سبايا.. فاية لعنة هذه التي صبت على هولاء كي يستغلوا اوجاع الاخرين لاغراضهم.. استثني الاردن من العرب التي استقبلت مثلاً اللاجئين السوريين.. وكوردستان وتركيا من غير العرب حيث استقبلوا اللاجئين.. فان اية جهة اخرى لم تتحرك بل اغلبها بالاخص الخليجية هي متهمة من قبل هولاء بانها تمد الارهاب بالعناصر والاموال.
وحين اقف على مقالات واتابع ندوات ومؤتمرات وجلسات تعقد للبحث في امور سوريا والعراق مثلا.. اعرف مسبقاً ما سينتهي اليه الامر.. نندد وسنقدم كل العون..هذا قولاً والفعل مؤجل الى اجل غير مسمى.. وفي واقعنا الكوردستاني تعلمنا بأن لانهتم باقاويل هولاء بالاخص حكام العرب( لاشعوبها) حيث لااحد منهم يقدم الفعل الحقيقي وحتى لااكون ناكرا للجميل فان الامارات العربية قدمت الكثير من العون والمساعدات للمنكوبين الكورد في هذه الازمة الاخيرة.. اما الاخرين فلااظن بان احد سيفكر حتى في الامر خارج اطار الاعلام المندد.. انهم لايقدمون المساعدات الا حين تحقق مصالحهم للعرب المنكوبين( فلسطين مثلا) انفسهم وامام اعينهم في كل مكان.. فكيف سيقدمونها للكورد.
وفي استحضار سريع للاحداث التي عصفت بالمنطقة وبالكورد خلال العقود الماضية سواء مأساة حلبجة حيث القاء الاسلحة الكيماوية عام 1988، وكذلك عمليات الانفال التي اطلقتها الحكومة البائدة في نفس العام 1988، وفي الهجرة الملونية عام 1990، وفي الاحداث التي رافقت سقوط النظام المقبور 2003، وما بعد السقوط.. والاحداث الاخيرة المتمثلة بداعش والخليفة النكاحي السامرائي الداعشي.. كل هذه دلائل وبراهين على ان الفكر الانساني مدفون تحت رمال الصحراء في الشرق الاوسط، ولايخرج الا حين تحقق لاصحابها مصالحها.
وهذا بلاشك لايعني انني بصدد ابداء مقارنة مع الغرب الاوروبي والامريكي لكني بصدد فقط التذكير لان الغرب بكل اطيافه ايضا لايقدم على فعل دون تحقيق غاية سواء آنية او مستقبلية، فالغرب الذي يشاهد الاحداث ويترقبها ومن ثم يشارك في تحالفات لم يقدم على فعل مجدي ومؤثر في الاحداث التي عصفت بالكورد وبالمنطقة في الاونة الاخيرة الا من خلال الغارات الجوية لطائراتها الحربية ولست انكر فعاليتها لكني لااشعر بجديتها في انهاء الازمة والقضاء على داعش بؤرة الارهاب الحالية في المنطقة، فهولاء حين ارادوا اسقاط المقبور البائد بعد احداث الكويت سخروا جزء من قواتهم واستطاعوا في غضون ايام طرق ابواب بغداد.. ولو رجعنا الى اسباب تشكيل التحالف فضلا عن اجتياح قوات المقبور للكويت فانه اتهم بامتلال الاسلحة الكيماوية.. وكذلك اتهم بارتكابه جرائم حرب ضد الانسانية والابادة الجماعية.. ولو نظرنا الى الواقع الان وما يفعله الخليفة النكاحي الداعشي لااعتقد بان الامر مختلف كثيراً، فهذا الاخير اجتاح المدن والدول في كوردستان والعراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر واليمن.. ومن ثم التقارير تؤكد استخدامهم للاسلحة الكيماوية ضد البيشمركة في كوردستان سواء في القسم السوري او العراقي وكذلك في مناطق اخرى من سوريا.. فضلاً عن اعمال الابادة الجماعية التي مارسها ضد الكورد الايزيديين في كوردستان الجنوبية في شنكال بالذات والقرى المتاخمة لها وسبي النساء وبيع القاصرات واغتصابهن، وكذلك في كوباني والقرى التابعة لها، ونضيف الى كل ذلك اتباع اساليب قمعية لاتستهدف الفرد وحده انما تخلف اثاراً نفسية سيئة في نفوس السامعين والمشاهدين لمنشوراتهم لاسيما فيما يتعلق بقطع الرؤوس واغراق الاسرى وحرقهم وكذلك شوي البعض وهم احياء.. كل هذا اعتقد بانه كفيل بان يتحرك الغرب الاوروبي والامريكي بتسخير جزء من قواتهم لدحر اصحاب هذا الفكر الهمجي اللاانساني، ولكن الغريب في الامر بان الغرب نفسه يلوح بان الامر سيطول وهذه المعاناة ستطول وان الشعوب التي تعاني عليها ان تتحرك ذاتيا لقمع هذا الفكر وهي ستساند.. ولايخفى على احد بأن اللعبة مشكوفة وانها مجرد مسرحية اخرى تضاف الى المسرحيات التي قدمت في المنطقة بكل انواعها.. الملحمية والغنائية والتعبيرية ….الخ، فالغرب انسانيته لايتحرك الا لتحقيق مصالحه في المنطقة، وطالما مصالحه غير مهددة كلياً فان الامر لايعنيهم كثيراً الا اعلامياً للحفاظ على ماء الوجه الانساني… مع العلم بان الانسانية بفهومها البسيط يستدعي من الجميع التكاتف للحد من انتشار هذا الوباء الداعشي سواء في مناطق كوردستان او الدول المصابة بهذا الفايروس.