حيدر العبادي
هاوي..بس ما ناوي
أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
اظن ان السيد العبادي هو العراقي الوحيد الذي لا ينام لياليه كالآخرين بعد جمعة تظاهرات العراقيين التاريخية في السابع من آب،وتقديمه حزمة اصلاحاته في التاسع منه،وما تلاهما من احداث درامية.ومع ان لديه مستشارين،فانه حين يأوي الى فراشه ويضع رأسه على الوسادة،تزدحم برأسه الأفكار وتؤرقه القرارات التي سيتخذها يوم غد واحتمالات تداعياتها.والحق معه..فأي مسؤول دولة بظروفه المعقدة سيعيش الحالة نفسها.
ان اغلبية العراقيين ما تزال تفترض حسن النية فيه وانه صادق فيما يقول..لكن الرجل في اكثر من محنة،ويمشي في طريق كله الغام.وما يعنينا هنا..قضيتان لهما بعدان سيكولوجيان،هما نوعية القرارات التي يتخذها وعلاقتها بمطالب مواطن موجوع مفجوع، وصراع الاضداد في كيفية تعامله بالشكل الذي لا يلحق ضررا به وبحزبه..ويحقق في الوقت نفسه رضا الناس او سكوتهم في الأقل.
يعني القرار اختيار بديل من مجموعة بدائل مطروحة لحل مشكلة او معالجة ازمة،ويعد اصعب مهمة تحدد نجاح القائد او فشله.والقرار الناجح هو الذي يقوم على الدراسة وامكانية التطبيق الواقعي وحساب السلبيات المحتملة والايجابيات المتوقعة من تطبيقه،وهذا يحتاج الى وجود مستشارين من ذوي الخبرة ومستقلين سياسيا.غير ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت الحاكم في الزمن الدكتاتوري ان يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه،وعودته في الزمن الديمقراطي ان يحيط نفسه باعضاء من حزبه يحملون نفس الأفكار،فيما المستشار ينبغي ان يكون مستقلا سياسيا واكثر خبرة من القائد في الموضوع المتخصص فيه.
وتتحدد سيكولوجيا اتخاذ القرارات بثلاث آليات هي:
الأولى:البدء بالقرارات الأصعب نزولا الى القرارات الأسهل،
الثانية:البدء بالقرارات الاسهل صعودا الى القرارات الأصعب،
والثالثة:تنفيذ القرارات الاسهل والتوقف عن تنفيذ الاصعب.
ان القائد الذي يعتمد الآلية الأولى يتمتع بشخصية الواثق من نفسه ان اعتمد على جمهور واسع يمثل المجتمع لا على المغامرة،فيما تمتاز شخصية الذي يعتمد الثانية بالحكمة والتأني والعقلانية ،وبعكسهما..تتصف شخصية من يعتمد الثالثة بالتردد.
وطبيعي ان متخذ القرار السياسي يضع اولا سلامته والجهة السياسية التي تسنده.وواضح ان شخصية السيد العبادي اعتمدت لحد الان الالية الثانية،اذ بدأ بتنفيذ القرارات التي لا تلحق به وبحزبه الأذى او الضرر..ما يعني انه يعتمد الحكمة والعقلانية والواقعية.وبما أنه تجنب الآلية التي تريدها الجماهير بأن يبدأ بالقرارات الصعبة،فان الارجح انه سيمارس الالية الثالثة،وذلك في الاستمرار بتنفيذ القرارات الأسهل والتوقف عن تنفيذ القرارات الأصعب..يؤيد هذا ان ما اتخذه من قرارات تتعلق كلها بالترشيق واعادة هيكلة الدولة وليس لها علاقة مباشرة بتحقيق مطالب المتظاهرين..ما يعني انه سيتحول في النهاية الى شخصية مترددة من وجهة نظر المتظاهرين..يؤيد ذلك اننا اجرينا استطلاعا عبر الانترنت في آب الماضي تبين منه ان ربع المستجيبين فقط توقعوا ان العبادي سينجح فيما الغالبية افادوا بأنه (ليس بيده شيء للتغيير ،يريد ان يغير ولكن مافيات الفساد اقوى منه،ان لم يعلن استقالته من حزبه ويعلن عن العمل لتاسيس دولة مدنية تعتمد المواطنة والكفاءة والنزاهة فسيفشل…).
وسيكولوجيا،هنالك اربعة انواع من الصراع يمر بها من يعيش حالة السيد العبادي نوجزها بالآتي:
صراع الاقدام- الاقدام: ينشأ بين هدفين ايجابيين غير متفقين مع بعضهما وعلى الفرد ان يختار احدهما، ويعد من اسهل انواع الصراع.
صراع الاقدام – الاحجام:ينشأ بوجود مشكلة فيها جوانب سلبية وجوانب ايجابية في الوقت نفسه،يتطلب حلها قدرة القائد على تحمل الجوانب السلبية..ويعد من اشد انواع الصراع ارهاقا لصاحبه لأن الجوانب السلبية والايجابية مترابطة..متشابكة ،واذا استمر لمدة طويلة دون حل فانه يقود الى القلق والتوتر .
صراع الاحجام- الاحجام:ينشأ بين هدفين متناقضين ،مقيمين سلبيا ولا مفر من اختيار احدهما ،ينتهي في الغالب باختيار الموقف الأقل ازعاجا،او اعتماد آلية التأجيل والمماطلة.
صراع الاقدام – الاحجام المزدوج:ويسمى ايضا صراع الميول المتناقضة المضاعف..يجمع بين اشكال الصراع الثلاثة باضافة قوة الى احد جانبي الصراع تعزز من امكانية الاقدام على احدهما وتقلل من الاحجام عن الآخر او العكس.
ان واقع حال الأزمة في العراق ومطالب المتظاهرين وتوجيهات المرجعية من جهة،والمافيات السياسية والوضع الأمني من جهة أخرى فرضت على السيد العبادي ان يعيش حالة تناقض الاضداد في حل الصراعات..أشدها عليه هو صراع الأقدام – الاحجام..وتحديدا في اخطر واقبح ظاهرة ما حصلت في تاريخ العراق والمنطقة ايضا..الفساد .فقد افاد السيد عادل عبد المهدي عبر فضائية الحرة عراق أن موازنات العراق منذ عام 2003 بلغت 850 مليار دولارا تبدد معظمها في الفساد..والرقم بالدينار العراقي هو (1062) وامامها (11) صفرا !..عدا الموازانات الاضافية.ومع ان استرداد هذه المبالغ من الفاسدين تكفي لأن تكون حصة الفرد العراقي منها خمسين مليون دينارا،والفائض يكفي لانشاء مصانع توظف عاطلين من خريجي الجامعات..فان السيد العبادي استخدم في معالجتها اسلوب الاحجام – الاحجام واعتماد آلية التأجيل والترحيل.
وللرجل اسبابه، فان بين الفاسدين من هم اعضاء واصدقاء في حزبه..تذكرنا بمقولة السيد المالكي (لدي ملفات فساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها)،فضلا عن انه محاط بمافيات يدرك انه لو مضى في تحقيق حزم اصلاحاته فانها ستستهدفه،مع انه اعلن عزمه على المضي في تحقيق اصلاحاته حتى لو كلفه الأمر حياته.
ان العامل السيكولوجي المهم الذي يحدد علاقة السيد حيدر العبادي بالناس هو الثقة.غير ان هذه الثقة تتهددها الآن حالة صراع الضد وضده النوعي التي يعيشها الرجل بين:المتظاهرين،المرجعية،القوى السياسية،الضغوط الخارجية،التحالف الوطني،وحزب الدعوة..ستفرض عليه بحتمية سيكولوجية خفض الصراع بأن ينحاز اما الى جموع العراقيين او الى حزبه وتحييد القوى السياسية بعدم المساس بمصالحها الاساسية،وتلك هي الحالة السيكولوجية المأزقية التي يعيشها الآن السيد حيدر العبادي..واصعبها عليه..موازنة بين الأضداد..بما اصطلح عليه (المصالحة الوطنية)يراهن فيها على الزمن مع انها تبدو له مستحيلة.
ان قراءتنا السيكولوجية للسيد حيدر العبادي هي انه لم يستثمر فرصة تاريخية تجعل منه رجل دولة وبطلا شعبيا.ولأنه اضاعها، فانه سيعود الى سابق وضعه..بعد ان اوصل الناس الى قناعة بأنه (هاوي..ولكن ما ناوي).