مارست الإدارة الأمريكية الضغوط الشديدة على حكومة المالكي لإعادة عناصر بارزة من الوجوه البعثية إلى الواجهة من جديد، وكان في مقدمة نلك الضغوط إلغاء قانون اجتثاث البعث، وإحلال ما يسمى بقانون المساءلة والعدالة بغية عزل من مارس القتل والجريمة المنظمة تحت سلطة نظام صدام الفاشي
عن بقية البعثيين غير المتورطين بتلك الجرائم، وطرح مشروع المصالحة، ودمجهم في المجتمع من جديد، وعدم حرمانهم من وظائفهم وحقوقهم كمواطنين عراقيين.
وتركزت الجهود الأمريكية على إعادة العديد من عناصر الأجهزة الأمنية التي نكلت أبشع تنكيل بكل العناصر الوطنية المعارضة للدكتاتورية، وإعادة رموز كبيرة من ضباط الجيش في عهد صدام إلى الخدمة من جديد، كما سبق أن أعيد إلى الواجهة العديد من العناصر المحسوبة على حزب البعث في السلطتين التنفيذية والتشريعية في الوقت الذي يمارس العديد منهم قيادة النشاطات الإرهابية في البلاد
فلماذا جرى ويجري كل هذا النكوص عن آمال وأحلام الشعب العراقي في التخلص النهائي من نظام صدام الدكتاتوري وحزبه الفاشي، وإقامة نظام ديمقراطي جديد يحترم حقوق وحريات الإنسان العراقي ويصون كرامته؟
ولماذا تجري الاستهانة بتضحيات الشعب خلال العقود الأربعة الماضية من أجل التحرر من سلطة الطغيان البعثي الفاشي، ويجري العمل على عودة عقارب الساعة إلى الوراء، ليس فقط وكأن شيئاً لم يكن، بل لقد تجاوز التدهور الحاصل في البلاد أمنياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وخدماتياً، بمراحل كبيرة عما كانت عليه في السابق، وأدى بالتالي هذا التدهور إلى تحويل حياة المواطن العراقي إلى جحيم حقيقي لا يطاق، حيث يدفع الشعب كل يوم فاتورة الحرب الأمريكية على العراق المتمثلة بدماء وأرواح المئات من المواطنين الأبرياء، وحيث جرى تهجير الملايين من العراقيين للنجاة من طغيان قوى الإرهاب البعثي وأعوانهم من عناصر القاعدة، من جهة، وطغيان قوى الإسلام السياسي الطائفي عبر ميليشياتها المتعددة من جهة أخرى؟
فعلى مَنْ تقع مسؤولية هذا النكوص عن طموحات الشعب العراقي والعودة به إلى ذلك العهد المظلم، بل إلى عهد أشد ظلاماً؟
ليس من العسير على كل باحث حصيف يتتبع مجريات الأحداث في العراق أن يتوصل إلى المسؤولين عن هذه الحالة المأساوية، وإلى هذا التحول في مسيرة بناء العراق الديمقراطي الجديد!!، وباعتقادي أن تلك المسؤولية يشترك فيها أطراف ثلاثة:
1 ـ إقدام الإدارة الأمريكية على أقامة نظام حكم طائفي في البلاد، وفسح المجال واسعاً لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي بتشكيل المليشيات العسكرية المسلحة لدى كلا الطائفتين الشيعية والسنية، وتسليم السلطة لأحزاب الإسلام الطائفي الشيعية بالتحالف مع الأحزاب القومية الكردية، ومحاولة الحاكم المدني الأمريكي بريمر إبعاد أبناء الطائفة السنية عن مراكز السلطة، وكان ذلك الإجراء عاملاً حاسماً في تشجيع العناصر السنية المرتبطة بالنظام الصدامي على امتشاق السلاح والغوص في العمليات الإرهابية الوحشية البشعة.
2 ـ استئثار أحزاب الإسلام الطائفي الشيعية بالسلطة بدءاً من مجلس الحكم وانتهاء بالحكومات التي تشكلت فيما بعد، وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت بصورة متعجلة دون تهيئة الظروف المؤآتية لها، حيث رزح الشعب العراقي خلال أربعة عقود لطغيان نظام قمعي متوحش حرم الشعب خلاله من أي من الحقوق الديمقراطية، وفُرض عليه نمطاً واحداً من التفكير القومي الفاشي المعادي لسائر الحقوق والحريات الديمقراطية، وزاد في الطين بله زج نظام صدام البلاد بحروبه الإجرامية الكبرى المعروفة لدى الجميع، وبالحروب الداخلية ضد الشعب الكردي في كردستان العراق، وضد عموم الشعب العراقي أبان انتفاضة آذار 1991، وتسببه في فرض الحصار الجائر على الشعب العراقي لثلاثة عشر عاماً عجافا، شديدة القسوة بحيث تعتبر بمقاييس الحروب أشنعها، وأشدها تأثيراً في تخريب البنية الاجتماعية، فقد أوصلت الشعب العراقي إلى حالة من اليأس الشديد للخروج من تلك المحنة إلا بالتوجه نحو التدين وطلب العون من الله!.
واستغلت الأحزاب الطائفية الشيعية هذا التوجه الديني لدى أبناء الشعب لتستخدمه سلاحاً فعالاً في حملتها الانتخابية، واستخدمت كذلك التخلف والنكوص الذي حل بالمجتمع العراقي خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق لإقناع المواطنين البسطاء بلزوم التصويت لأحزابها كي تنال رضا الله، والأئمة، وتنال الجنة ولذاتها التي يحلمون بها!.
كما أن الكثير من المواطنين أبناء الطائفة الشيعية قد صوتوا لتلك الأحزاب بعد الذي نالهم من طغيان نظام صدام وحزبه الفاشي الذي أجبر الكثيرين منهم على الانضمام لحزب البعث فيما سبق، فكان تصويتهم للطائفة، ولم يصوتوا على برامج حزبية معينة.
وها هي الجماهير الشعبية بدأت تتفتح أذهانها، وتدرك خطأ خياراتها الانتخابية بعد الذي حل بالبلاد على أيدي هذه السلطة وأحزابها الطائفية وميليشياتها الظلامية المتوحشة، وحاولت ممارسة حقوقها التي نص عليها الدستور، ومن ضمنها حقها في التظاهر والاحتجاج على ممارسات السلطة، وتجاهلها لمصالح الشعب والوطن، وتجاهل الظروف المعاشية الصعبة، وفقدان الخدمات الأساسية.
لقد أدركت جماهير الشعب العراقي أن هذه السلطة لا يهمها من أمر الشعب وانتشاله من وضعه المزري اقتصادياً واجتماعيا وصحياً وخدماتياً، فهي غارقة في الفساد المالي والإداري بشكل رهيب، حيث عشرات المليارات من الدولارات التي كان من الممكن أن تحقق نقلة نوعية في حياة الشعب لو كانت في أيدي أمينة، قد اختفت على أيدي الفاسدين الممسكين بالسلطة
لقد راعني وأنا أصغي يوم أمس إلى حديث السيد المالكي، وهو يعلن أن أكثر من أربعين مليار دولار قد اختفت، ويقول أنه قد قدم إلى هيئة النزاهة وثائق تتعلق بالفساد المالي مراراً وتكراراً لكنها تعود إليه من جديد دون أي إجراء ضد الفاسدين، وأنا هنا أود أن أقول للسيد المالكي إذا كنت رئيساً للوزراء، والقائد العام للقوات المسلحة، ووزيراً للدفاع، ووزيراً للداخلية، ووزيراً الأمن الوطني، والمشرف على جهاز المخابرات، ولا تستطيع أن تفعل شيئا لمعالجة الفساد، والضرب على أيدي الفاسدين!!، فماذا يستطيع الإنسان العراقي البسيط الذي لا حول له ولا قوة أن يفعل؟
ثم إلا يعني هذا الوضع أن العراق قد بات يواجه خطراً جسيماً يهدد مستقبله ومصيره على أيدي هذه السلطة الغارقة في الفساد حتى ذقونها
ومما زاد في تعقيد الوضع السياسي والأمني في البلاد لجوء ميلشيات الأحزاب الطائفية الشيعية، وعناصر المخابرات الإيرانية إلى الاقتصاص من العناصر البعثية خارج القانون والمحاكم، وشنت هذه المليشيات حملات اغتيالات واسعة ضد الضباط والطيارين منهم بوجه خاص، وعلماء العراق وكوادره العلمية، والعناصر البعثية المعروفة بوجه عام، مما دفع بالجانب الثاني المتمثل بعناصر حزب البعث، وقوى الإسلام الطائفي السنية استغلال هذا الفعل بردة فعل معاكسة، حيث مارسوا، وما زالوا يمارسون عمليات الاغتيالات والسيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة لإيقاع أكبر ما يمكن من الخسائر البشرية في صفوف المواطنين الأبرياء، وتدمير أقصى ما يمكن من الممتلكات العامة والشخصية، والحيلولة دون أي إمكانية لإعادة بناء العراق من جديد، وإجبار السلطة على تخصيص معظم الدخل الوطني لمكافحة العمليات الإرهابية، مما يحول في نهاية الأمر دون إعادة بناء العراق، ويؤدي إلى تدهور الوضع المعيشي للشعب
ومن جانب آخر كان التغلغل الإيراني في العراق، والعلاقات الوثيقة التي تربط أحزاب الإسلام السياسي الشيعية بحكام طهران، وبالخصوص كون المليشيات التابعة لهذه الأحزاب على ارتباط وثيق بالنظام الإيراني تسليحاً وتمويلاً وتدريباً، وتمادي هذه المليشيات في أعمال القتل والاغتيالات، دفعت الإدارة الأمريكية إلى التفكير في المخاطر التي يمكن أن تلحق بمصالحها في المنطقة جراء الهيمنة الإيرانية على العراق، فبادرت إلى السعي لخلق نوع من التوازن بين قوى الإسلام الطائفي الشيعية والقوى البعثية والطائفية السنية، وبدأت تمارس الضغوطات الشديدة على حكومة المالكي لإعادة البعثيين إلى الواجهة من جديد في مختلف مرافق الدولة بدءً من الحكومة والبرلمان والجيش والأجهزة الأمنية وسائر مرافق الدولة الأخرى
واليوم وبعد أن تصاعدت الأخطار المحدقة بالعراق، وتصاعد نشاط قوى النظام الصدامي المدحور، لجأت حكومة المالكي إلى أقصر الطرق في صراعها مع هذه القوى من خلال القيام بحملة اعتقالات عشوائية واسعة لمئات من الضباط الذين كانوا في الخدمة على عهد صدام بدل أن تلجأ إلى معالجة الأزمة الخانقة في البلاد بالحكمة، واستناداً للقانون، والالتزام بحقوق الإنسان، مما استغل هذه الوضع من قبل أزلام النظام الصدامي الممسكين بمجلس محافظة صلاح الدين، ليعلنوا محافظة صلاح الدين دولة لهم باسم الفيدرالية!!، مما أدى إلى تصاعد المخاطر المحدقة بالعراق.
3 ـ الأخطاء الناجمة عن خيارات الأحزاب القومية الكردية للتحالف مع أحزاب الإسلام الطائفي الشيعي، بدافع إسناد وتأييد فيدرالية كردستان المتفق عليها من جانب القوى السياسية، سعياً وراء إيجاد حل عادل ودائمي للقضية الكردية، فالحكيم كما هو معروف لدى الجميع يسعى حثيثاً لتشكيل ما دعاه بفيدرالية الوسط والجنوب، والتوجه نحو أقامة دويلات طائفية في العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعى للتحالف مع الأحزاب القومية الكردية.
وهكذا قام التحالف المصلحي بين الطرفين، وتخلت الأحزاب القومية الكردية عن حلفائها الحقيقيين المؤمنين حقاً وصدقاً بحقوق الشعب الكردي، وإقامة الفيدرالية في كردستان على أساس الحفاظ على وحدة الشعب والوطن العراقي، وفي يقيني أن هذا التحالف ليس سوى تحالف وقتي لا يلبث أن ينقلب أصحابه على الشعب الكردي
إن من المؤسف حقاً أن أقول أن الأحزاب القومية الكردية لم تتعلم الدرس من تحالفها السابق مع البعثيين والقوميين الذين تآمروا على ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم، وباركوا انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ضناً منهم أن البعثيين هم أكثر ديمقراطية وإيماناً بحقوق الشعب الكردي من قاسم، لكن أولئك القوميين العنصريين لم يمهلوا الشعب الكردي وقواه السياسية سوى أقل من أربعة اشهر ليشنوا حملة تنكيل شعواء بالشعب الكردي ، ويحرقوا الحرث ويقتلوا النسل.
إن سياسة حرق المراحل، وخلق جو من التعصب القومي لا يخدم القضية الكردية بل يزيدها تعقيدأ، هذا بالإضافة إلى خلق رد فعل معاكس لدى العناصر القومية المتطرفة في الجانب الآخر، والذين يستغلون هذه الأخطاء لخلق جبهة معادية للشعب الكردي بين صفوف المواطنين البسطاء
إن الحرص على الأخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى هي حجر الزاوية في تحقيق أماني الشعب الكردي وسائر القوميات العراقية الأخرى، وإن السبيل إلى تحقيق آمال وطموحات الشعب الكردي مرتبط كل الارتباط بتحقيق طموحات إخوتهم أبناء الشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه وقومياته وأديانه هو الديمقراطية، ولا سبيل غير الديمقراطية التي تستطيع بها مكونات شعبنا تأمين كافة الحقوق والحريات العامة والخاصة، وتُؤمنْ الحياة الرغيدة لمجموع الشعب عندما يحل الأمن والسلام في ربوع العراق، ويجري التنافس الديمقراطي الحر بين قواه السياسية على أساس احترام الرأي والرأي الآخر، وإبعاد الدين عن الشؤون السياسية، وفصله عن الدولة، فزج الدين في السياسة قد افسد الدين والسياسة معاً، ولا سبيل للخروج من المحنة التي تعصف بالعراق وشعبه إلا بنبذ الطائفية والتعصب القومي، والإيمان الحقيقي بالوطنية العراقية، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وقيام حياة حزبية لا مكان فيها للتطرف الديني والطائفي والعنصري، من خلال إعادة النظر الجذرية في الدستور، وإعادة النظر في قانون الانتخابات الحالي، وسن قانون جديد للأحزاب يؤكد على مبدأ الديمقراطية، وحل البرلمان الحالي، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة تتسم بالشفافية والديمقراطية، ومنع استخدام الدين والطائفة لتحقيق أهداف سياسية، وقيام حكومة علمانية بعيداً عن المحاصصة الطائفة من أجل إنجاز التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات دون استثناء أو تمييز.