إذا نظرنا إلى المنطقة العربيّة من زاوية الأديان والمذاهب، أمكن القول إنّها تعيش تلاقي موجتين يكاد لا يجمع واحدتهما بالثانية الشيء الكثير، بل إنّ كلاًّ منهما تبدو بذاتها متفاوتة متعدّدة المستويات.
ولنتعارف على تسمية الأولى بالموجة الأميركيّة. وهذه لا تنحصر في ما يصدر عن إدارة
أوباما والإدارات التي سبقتها، إذ تتعدّاه إلى منتجات المجتمع الأميركيّ وتقنيّات الاتّصال المعولم ووسائطه. في هذه الخانة العريضة تندرج، فضلاً عن سياسات الإدارات، مناشدات حقوق الإنسان وأفكار المجتمع المدنيّ وحقوق النساء والأقليّات والحرّيّات الفرديّة والتعبيريّة ونزعات المتعويّة الشبابيّة والمغايرة الجنسيّة، وهذا جميعاً معطوف على التليفون المحمول والفايسبوك وتويتر.
في المقابل، هناك ظلامات شعبيّة وشعبويّة قرّر أصحابها أنّ الصبر غدا مستحيلاً. ولربّما ساهم في بلورة هذه الموجة سنيّاً أنّ الطاقة الشيعيّة صبّت، منذ الثورة الإيرانيّة في 1979، في وجهة أخرى. هكذا رأينا الشيعيّة السياسيّة تتماهى مع صورة باتت قديمة وغير مقنعة عن التناقضات المؤثّرة في المنطقة. وما بين تلك الثورة ومقاومة “حزب الله” في لبنان، بات من الصعب جدّاً البحث عن قواسم مشتركة بين الشيعيّة السياسيّة والغرب، لا سيّما الولايات المتّحدة. أي أنّ الأولى تكرّر ما حصل في العراق مع “ثورة العشرين” على نحو موسّع. آنذاك، وكانت الانتدابات ترسم العالم الجديد لحقبة ما بعد الحرب العالميّة الأولى، آثر الشيعة العزوف عن هذه العمليّة وتركها في أيدي العائلات التقليديّة السنيّة. وقد كرّس هذه الوجهة راهناً أنّ انتفاضة البحرين ذات اللون الشيعيّ لم تنضمّ إلى محفل الانتفاضات التي انتصرت وتنتصر، وهي كلّها ذات لون سنّيّ على نحو أو آخر.
فإذا جاز أنّ الموجة الثوريّة الشيعيّة تقادمت، جاز أيضاً أنّ الموجة الثوريّة السنّيّة تشبه، في صلتها بالغرب والغربيّة، حقبة الجهاد الأفغانيّ ضدّ الروس، إنّما من دون سلاح هذه المرّة. وعمليّات الناتو في ليبيا لا تنوب مناب الوجهة السلميّة، ثمّ الانتخابيّة، الطاغية على الحقبة برمّتها.
هذا لا يلغي أنّ القضيّة المحقّة الملوّنة في يومنا هذا بلون سنّيّ لا تزال مشوبة برجعيّة بدت جليّة في خطاب مصطفى عبد الجليل وفي المزاج الذي نمّت عنه نتائج الانتخابات التونسيّة. وهذا الملمح الرجعيّ يفاقمه، في حال سوريّة، إيثار الأقليّات في أكثريّتها تأييد النظام المستبدّ وإبداء التعاطف معه.
بلغة أخرى، تسير الانتفاضات اليوم تحت راية الحقّ من دون حداثة، وبعضُ الحداثة أن يتراجع اللون السنّيّ نفسه لتتقدّم ألوان الجماعات الأهليّة كلّها ومعها نطاق عريض من الأفكار والتصوّرات. وأغلب الظنّ أنّ انتقالاً كهذا لا يكفي التوسّط القَطريّ لإحداثه، ولا حتّى التوسّط التركيّ سياسةً ونموذجاً. ونعرف أنّ “الاعتدال العربيّ” سبق له أن كان وسيطاً بين المجاهدين الأفغان والدور الأميركيّ والغربيّ في أفغانستان، إلاّ أنّ ذلك لم يحل دون كارثيّة النتائج.
ما يضمن النجاح في الانتقال، إذا كان ثمّة من نجاح ومن انتقال، هو تفعيل اللقاء بين الموجتين وتوسيعه وإتاحة المجال واسعاً لاشتغال النماذج والأفكار ممّا لم نشهده في تلك الحرب الأفغانيّة. وربّما كان المحكّ الأبرز في هذا الباب تثبيت مبدأ الانتخاب وتداول السلطة بالتناوب، وإشعار غير المسلمين وغير السنّة بأنّ آراءهم ذات طاقة تقريريّة تؤخذ بالحسبان. وهذا سيكون بداية الانتقال من النظر إلى المنطقة كأديان وطوائف إلى مقاربتها كقوى اجتماعيّة وفكريّة تنشقّ بموجبها الأديان والطوائف نفسها.
نقلا عن جريدة الحياة