لميس كاظم
قاد الشباب الاكاديمي، العاطل عن العمل، مظاهرات تشرين 2019. واجهت الحكومة المظاهرات بعنف وحشي وحولت ساحة التحرير إلى ساحة حرب غير متكافئة مع الشعب. هذه المواجهة استمرت عشرة أيام حيث استشهد 160 وجرح ستة ألاف شاب. فازدادت المظاهرات صلابة وشُدت العزيمة أكثر من قبل وأن لا مجال للتراجع. مع استئناف المظاهرات في 25/10أوغلت الحكومة بقمعها المفرط وصعد بالمقابل المتظاهرون نضالهم المطلبي العادل. هذه السيكولوجية الشبابية المتحدية، والوثابة، المقدامة، قلبت الطاولة على رأس الرئاسات الثلاث وأدخلتهم حالة الهلع الهستيري. وسعت بشتى السبل التفاوض مع المتظاهرين لكنها فشلت.
كان المشهد مبهجًا برغم مئات الشهداء وألاف الجرحى. اكتسبت المظاهرات تضامنًا شعبيًا واسعًا، لم يسبق له مثيل، ما عزز استمرارها نحو نصر مبين. وازداد بالمقابل السخط على الحكومة والأحزاب بجميع المدن المنتفضة. وتُعد هذه المظاهرات هي الأولى من نوعها وحجمها ومدة استمرارها في تأريخ العراق السياسي المعاصر.
هذه الاستمرارية تتطلب توفير احتياجات أساسية للمتظاهرين. هب البغداديون لتغطية جميع احتياجاتهم. كأنهم طوق نجاة كسر شوكة الحكومة وأشفى غليلهم منها.
تشكلت تنسيقيات وتوزعت المهام بحسب الاختصاصات. وهي أشبه بوزارات ميدانية:
وزارة الدفاع: تضم مجموعة المقتحمين الذين يستقبلون الرصاص الحي والقنابل السامة بصدورهم العارية. وقُسمت جمهورية ساحة التحرير الى سبع مناطق. كان أولها جبهة المواجهين للقوات الأمنية عند جسر الأئمة. والمطعم التركي، ونفق التحرير، شارع السعدون، ، نصب الحرية، ساحة الأئمة، وكراج باب الشرجي.
وزارة الداخلية: مسؤولة عن إخماد القنابل المسيلة للدموع في نفق ساحة التحرير. ومراقبة المندسين خشية دخول انتحاريين أو حاملي متفجرات أو مجاميع تثير الشغب.
وزارة النقل: اقتحمت سيارات التكتك خطوط المواجهة ونقلت القتلى والجرحى الى المخيمات الطبية وأصبحت سقوف السيارات دروعًا تحمي المتظاهرين من القناص. وتتنقل التكتك بين ساحات التحرير والطيران والخلاني.
وزارة الشؤون الأجتماعية والخدمات: مسؤولة عن التنظيف وتوفير الاحتياجات اللوجستية للمتظاهرين. وصبغ أرصفة الطريق، وتنظم المطابخ في الشوارع ونصب الحوانيت وأكشاك الأكل في حديقة الأئمة وكراج باب الشرقي وشارع السعدون. ونظفت نفق التحرير المجهور مذ سنوات.
وزارة الصحة: نصبت سبع خيمات طبية في شارع السعدون تضم طواقم طبية متطوعة لمعالجة الجرحى وتقديم إسعافات أولية للمتضررين بالغازات السامة المنبعثة من القنابل المسيلة للدموع، وإعداد تقارير عن أسباب استشهاد المتظاهرين وتحصي عدد القتلى والجرحى. وتتحرك فرق طبية ميدانية للمعالجة وتوزيع الكمامات وواقيات الرأس على المتظاهرين.
وزارة الاقتصاد: مسؤولة عن استلام وتصنيف وتخزين المواد التموينية وغيرها في كراج باب الشرجي.
وزارة الكهرباء: حلت مشكلة الكهرباء في بناية المطعم التركي وساحة التحرير.
وزارة الأتصالات: حلت مشكلة الأنترنت بساحة التحرير وتقوية الأرسال بجيل GW4. واطلقت إذاعة بث مباشر من ساحة التحرير تُعلن عن مطالب المتظاهرين وبياناتهم ونشاطاتهم.
وزارة الأسكان: نصبت خيمًا مسقفه ومجهزة بالأفرشة والأغطية في حديقة الأمة وساحة الطيران.
وزارة الثقافة: يتجمع الأدباء والفنانون والإعلاميون تحت نصب الحرية. وتنظم برامج تثقيفية وترفيهية.
وزارة الزراعة والبيئة: تهتم بعناية الأشجار والورود والحدائق في حديقة الأمة. وتدقيق صلاحية المواد الغذائية وتراقب الاختناقات وتوفير بيئة صحية
وزارة الأعلام: مسؤولة عن الشعارات المركزية، وخط اللافتات والجداريات على الحائط. وتشكيل ” كروب” في جميع قنوات التواصل الأجتماعي تعلن عن مطالبها. ورفضت اللقاء بالإعلاميين والرئاسات الثلاث.
وزارة الخارجية: اصبح المطعم التركي ” جبل أُحد” مكان مراقبة الأجهزة الأمنية وهو صلة الوصل مع المتظاهرين في ساحة التحرير. وأنشئت سفارات بجميع صفحات التواصل الأجتماعي تزوّد بالصور والفيديو من هناك.
وهكذا تحولت ساحة التحرير إلى جمهورية عراقية وطنية، تمثل كافة أطياف الشعب، تدار ذاتيًا وحلت مشاكل والكهرباء والنقل والصحة والخدمات والأنترنت في غضون عشرة أيام، في حين استمرت الحكومات 16 سنة بتعقيد المشاكل ولم تجد حلولًا جذرية. وتبقى الجمهورية منتفضة ضد الحكومة الطائفية المنعزلة في المنطقة الخضراء.
أهم سمات الحراك الشعبي:
كانت القيادة شبابية، واعية، شجاعة، منظمة، عالية اليقظة، ولم تظهر لديها نزعات قيادة الأنتفاضة أو الاستئثار بمنصب حكومي. كما كشفت خُدع الأحزاب فرفضت مشاركتها أو الحوار معها.
كانت حركة جماهيرية مطلبية ترفض حكم الطبقة السياسية برمتها مذ عام 2003 ولحد الآن.
أصبحت ساحة التحرير كعبة الثوار ومزار كافة المدن العراقية. كانت الشعارات الوطنية تجمعهم وعلم العراق يحزّمهم وأرض جمهورية ساحة التحرير رويت من دمائهم دفاعًا عن سيادتها. ونفذ الثوار مواجهات باسلة ضد القوات الأمنية الحكومية فاق حد التصور.
عمق انتمائهم للوطن بعد أن كرهوا سلطاته الثلاث وأصيبوا بالقنوط والإحباط. ولكن هذا الحراك بعث الأمل بالعراقيين. فهبوا للدفاع عن جمهورية ساحة التحرير، وعملوا كخلية نحلٍ متآخين. وسادت العدالة الأجتماعية وتحلى الجميع بروح المسؤولية والتعاون، ونكران الذات، والتفاني لتحقيق المطالب.
استقطب الحراك كافة فئات الشعب العراقي وعادت ألفتهم الاجتماعية الحميمية بعد أن شتتها الحكام والسياسيون. أسقطوا الولاء الحزبي، والسياسي، والديني، والعرقي. وقبروا الطائفية الأجتماعية البغيضة. وظهر جليًا أن المحاصصة الطائفية تنحسر فقط بالقيادات السياسية الحاكمة.
أستعاد الشعب العراقي خصب ثوريته، وعمقت وطنيته، وتلاحمت وحدته من جديد. واشتدت بالمقابل عُزلة الرئاسات الثلاث وأحزابها عن الشعب الذي كشف زيفهم وتعمق حقده عليهم. واتسعت هوة القطيعة بينهم وبين الشعب الذي سال دماء أبناءه برصاصهم وهدرت ثروتهم. ولن يقبلوا بمساومتهم إنما يبغون أسقاطهم وتقديمهم للمحاكمة لنيل القصاص العادل.
تأكد جميع الساسة أنهم يعيشون بعالم قديم ومختلف عن عالم الشبيبة المتجدد بالتواصل الاجتماعي والرقمي.
لدى الشبيبة طاقات وكفاءات قادرة على قيادة وإدارة دفة البلاد بالتعاون مع ذوي الخبرات الوطنية.
أديب واكاديمي