ثقافة الرحيل
______________
سلمان داود محمد
لم تكن ( ثقافة الهجرة ) السائدة الآن في راهننا العراقي من الثقافات الجديدة أو الطارئة على حياة البلاد ، فهناك سلسلة متواصلة حتى يومنا هذا من الهجرات وقد وحدتْها الأسباب والمبررات والمرامي وفرقتْها الأعداد ، أعداد المهاجرين الى أقاصي الأرض بحثاً عن ملاذات آمنة تخلصها من أهوال قامعة بلا حدود ، وليس أولها بالطبع هول الضغط السياسي المنتج من جهته للهول المعيشي الخالي من الطمأنينة المكانية والزمن الرغيد ، إذ كان عدد المهاجرين ابان السبعينيات مثلاً ينطلق من مبدأ الهروب من بطش سياسة حكم الحزب الواحد والفكر الواحد ، ومن ثم هجرة التسلل عبر الحدود نحو المغتربات في عقد الثمانينيات الموصول بحرب مفتوحة أكلت آمال وجثامين الأجيال كلها ، وما تبقى قد التهمته أنياب حصار التسعينيات والرحيل الى الـ هناك مجدداً وتواصلاً مع هجرة الألفية الثالثة الآن ، ولجردة حساب بسيطة لأعداد المهاجرين عبر العقود المذكورة آنفاً سنرى الأعداد في تزايد مهول يتناسب طردياً مع تزايد مخاطر الإرهاب البغيض والإحتقان السياسي المائل الى المنافع الشخصية على حساب الصالح الوطني والتشرذم الطائفي سيء الذكر ومفاسد لا حصر لها وجرائم منظمة بلا طائل أدت الى تفكيك البنى الإقتصادية والمجتمعية وكل ما تستند عليه أركان الدولة الحديثة من ممكنات قائمة وازدهار ممكن وأمان ، ولم تكن البنية الثقافية بمنأى عن هذا الأذى ، أذى مغادرة المتن الأم الى متون أخرى بكل ما تحملة فكرة الرحيل من قسوة وشجن ، فمن مضار الهجرة السبعينية هو تناقص المشهد الثقافي من المنتجين النوعيين للثقافة وظل الملتقي المرابط هنا يجتر أدبياتهم التي كانت ويتابع عن بعد بعيد أدبياتهم الجديدة التي لا جديد فيها سوى استذكار وقائع فائتة والحنين الى زمن مضى مع بعض الإستثناءات حتماً ، وهكذا الحال بالنسبة للهجرة الثمانينية ، أما في العقد التسعيني فقد شهد تحولاً لافتاً حيث اشتملت الهجرة على مساحة واسعة من منتجي الثقافة المؤثرين وعدد يثير القلق من المتلقين مع الإشارة الى الإشتثناءات دائماً ، الأمر الذي يجعلنا الآن مرعوبين بشكل مضاعف ونحن نشاهد ونتابع ونتقصى الأعداد الهائلة من المهاجرين في خضم هجرة الألفية الثالثة مما يشير هذا الأمر الى هجرة ( المبدعين والمتلقين مرة واحدة ) وغيابهم العابر للقارات بشكل مكثف وجريح ، وكأن المشهد هذا يشي بفكرة ( ترمّل ) الثقافة من جهة آبائها و ( ثاكليتها ) في بنيها من جهة التلقي … وهنا أتذكّر قول أحد وزاء دولة أجنبية كبرى وهو يتحدث عبر الشاشة بأريحية تامة وامتنان عظيم حين قال : ( إن بلادنا تفخر بكون عمال النظافة والمستخدمين لدينا هم من المثقفين ومن حملة الشهادات العليا من دولة صديقة ) ..
ويقصد في قوله العراق ومبدعيه العراقيين …
ما الحل إذن ، وكيف … ؟ ..
هذا سؤال مفتوح على مصراعيه .. كجرح ..
_________________________________