بين التشبث بالماضي والتشبث بالمستقبل
د. اسعد الاماره*
عندما يكون الحاضر مؤلمًا، يبحث الناس عن متنفس أما بالعودة للماضي الجميل، هروبًا من “الحاضر” أو يكون جهاد النفس منصبًا في إيجاد منفذ نحو المستقبل، وهو بالهروب من الحاضر المؤلم، وهو تشبث قد يدفع البعض حياتهم من أجله، وهي سنة من سنن التطور، التطور المرن!! فالإنسان يبحث عن التكيف ولكن ليس مع الأزمات والضغوط والصدمات اليومية، يبحث عن التغيير لانه يحمل الابداع والثورة في مقابل استقراره ومحافظته على تكيفه وتوازنه.. أنه الممكن في مقابل الواقع” المتاح” والمستقبل في مقابل الحاضر النابع من الماضي، فإن ركن واستسلم للحاضر المؤلم وعاش يجتر الماضي، تكون المعادلة مَّرضية غير سوية، تقترب من التفكير الذهاني، لانه يعيش الحاضر من خلال الماضي، وحينها يلجأ إلى ميكانزم – آلية النكوص – الإرتداد دون أن يدري، وهي مرحلة الماضي الجميل.. إنها مرحلة بها من اللذة أكثر من الحاضر المؤلم، رغم إن كل وجود الإنسان قائم على مبدأ اللذة والألم، ولكن ليس بشكل مستمر.
نعيش اليوم في مجتمع سريع التحول والتغيير لا في القيم المحلية السائدة فحسب، أو عالم الأليكترونيات ” العالم الإفتراضي” والمجتمعات التي تسودها بخليطها غير المتجانس، بل في الواقع المعاش وما يضمه من تدهور واضح تماما وسريع في جميع مناحي الحياة، فالإنسان الحديث يعيش في صورة مصطنعه، وثقافتنا تغمر الفرد بالهموم والطموحات غير الواقعية مقرونة بالهياج والتنافس المحموم، والإنهاك والضجة وحشو جنوني للدماغ بكثير من المثيرات غير الهادفه، مما تجعله يبحث عن مخرج لما يدور في دماغه من أفكار تتحول بمرور الوقت إلى أوهام، وعندما تتطور الحالة تتحول إلى هذاءات شبه مرضيه، فمن منا لم يشاهد صورة رجل وقور يتحدث مع نفسه في الشارع! من منا لم يصادف شخصا وهو في أوج عظمة التوتر بدون أي حوار أو مثير أو نقاش، لكنه يكاد ينفجر وهو يمشي وربما يتحدث بصوت مسموع مع نفسه ..إنها حياة صاخبة وسريعة في التحولات والتغيرات، نحن إذن أزاء مجتمعات طالها التدهور بالتغيير القسري، فها نحن نلهث وراء أحداث يتسارع إيقاعها على نحو تعجز معه عقولنا عن المتابعة وعن الفهم والتفسير، وهي قد أنقضت علينا على غير ما توقع أو أنتظار، وبالأخص أحداث العقد الأخير أو السنوات القليلة الماضية، وأعني بهذه الاحداث في المقام الأول ما عصف بالأنظمة الدكتاتورية الشمولية في العالم العربي أو بدول جوار العالم العربي التي باتت فاعل قوي في سياسة بعض الدول العربية، لا من حيث التدخل المباشر فحسب، بل في رسم سياسة المنطقة بإسرها، وتحديد مصير شعوبها، فالتشريد والتهجير والنزوح لسكان المدن والقرى والقصبات هو السائد الآن في هذه المجتمعات، لا يعلم الناس ماذا سيحل بهم بعد هذا التغيير القسري؟ وما ستؤول إليه أحوالهم بعد كل ذلك، هل هو شكل جديد شامل وكامل من أشكال الحياة والوجود والفكر والعقيدة والشريعة؟ هذا الشكل تتعدد صوره وتتباين اجتهاداته لكنها جميعًا تنويعات على نفس اللحن، أو قل الحلم والأمل، حلم العدل، حلم إزاحة الخوف من صدور الناس، حلم الفقراء والمظلومين، وهو حلم الإنسان منذ عرف الحرية والعمل والحياة الاجتماعية المستقرة، إلا إنه لم يحققها بفعل هذه العواصف الأعاصير التي تعصف بالمجتمعات لإجبار الناس على قبول التغيير القسري، فيكون أزاء ذلك هاجس الإنسان في الحلم بحياة أفضل بها من الآمان أكثر من الخوف، وبها من الاستقرار أكثر من الإنتقال والتهجير، فيكون حينئذ التشبث بالماضي هروبًا من الحاضر المؤلم وبحثًا عن الاستقرار المفقود في البيئة التي يعيش فيها الفرد، فهنا يكون الصراع بين حاضر مؤلم ، وماض سعيد نسبيًا ومستقبل غير معروف مبهم!! هنا يكون الاحباط هو السلوك السائد، بالتأكيد يصاحب الاحباط التوتر والضيق والغضب والقلق وتشتت الانتباه وهذه كلها عوامل تؤثر على توافق الشخص والتي قد تتحول من حالة الصحة النفسية إلى حالة الاضطراب النفسي.
نحن والبعض منا يكون أقرب في تعامله للسلوك العصابي، وهو التشبث بقشة يحاول بها أن تنقله من حالة الذعر الداخلي إلى البحث عن حالة الاتزان، ولكن هل يستطيع أن يحقق الاتزان باللجوء لإساليب الحيل الدفاعية” ميكانزمات – آليات” الدفاع؟ وهل تتفاوت التأثيرات وشدتها في المواقف الحياتية والانفعالات بشتى درجات الشدة، وهي عادلة للغاية وتتناسب بصورة معقولة مع استجابة الموضوع والحالة الداخلية للذات؟ بحيث تغدو الدوافع التي تحفز هذه الشحنات إلى مصدر حصر وقلق غير منتهي ربما يقود صاحبه إلى حالة من العصاب”الاضطراب النفسي”، فتسود حياة الفرد حينها قوى مجهولة خفية ليس له أي رقابة عليها، فتارة تشده إنفعالاته إلى الماضي الجميل هروبا من الحاضر المؤلم، فيتشبث به فيعيش الحاضر من خلال الماضي، أنه يبحث بصورة لاشعورية عن حل لألمه بوساطة حلول تسوية بينه وبين رؤية الهاوية التي يعيش فيها، فهو غارق في حصر وقلق هائم مبهم أحيانًا، وأحيانًا مرعب.. لا حيلة له بالتغيير! لا قدرة له في اتخاذ القرار! يرتكز في سلوكه أساسًا بتصرف طفلي جزئي كان أو كلي، أنه هروب من الواقع، فهو يتصرف في سن الرشد كما يتصرف في طفولته أو مراهقته، إنه يبقى في أوضاع سابقة لا يرقى إلى أن يتخلص منها.
أن من يتشبث بالماضي هروبًا من مواجهة الحاضر وصعوبته، يعجز عن التكيف مع الواقع والمجتمع، فهو يستجيب بطريقة لا مرونة فيها، كالهروب والخوف من المواجهة، على الرغم مما يتمتع به من ذكاء ممكن، هذه الافكار يمكن أن تكون لها الالآم قوية أذا لم تتحقق في الواقع، وينطلق نحو تغيير الواقع بدلا من التشبث بالماضي هروبًا، إلى إيجاد بدائل جديدة للإنتقال إلى حلول يدخل فيها للتخطيط للمستقبل.
إن الحلول تبدأ من إعادة الاعتماد على الدماغ في خلق المعنويات، وتساؤلنا يرتكز على أهمية السبب النفسي الذي يخلق اضطرابات نفسية جسمية تكبح المعنويات وتثبط العزيمة. وخلاصة القول أن جميع الناس يصابون بحالات شبيهة باختلال التوازن خلا مسيرة الحياة سببها وفاة شخص عزيز، أو أزمة عابرة تستفحل وتستوطن تفكير البعض منا وتحاول قهره ولكنه يستطيع مواجهتها عندما يخطط للمستقبل ويتشبث به ليترك الحاضر المؤلم، فالإنسان السوي لا يتألم حبًا بالألم، ولكنه لا يدرك أن مواجهته تسبب استعادة أمنه الداخلي وتوازنه الخارجي، فقولنا أن التشبث بالماضي هو رد فعل دفاعي غير موفق بإستخدام آليات – حيل دفاعية مؤقته تخرج صاحبها من أزمته، أما التشبث بالمستقبل فهو بحث لاشعوري عن الأمن. وهنا نعود مرة أخرى لمبدأ اللذة والألم ونتفق مع هذه الفلسفة التي ترى أننا قد نجد في حالات تصحبها مشاعر مؤلمة تكون الوسائل الوحيدة للحصول على مشاعر مُلذة، وهذا الثمن أي الألم الذي نبذله في سبيل الحصول على اللذة، يدفعنا إليه شعور خفي لا يجب أن نتوجس منه خيفة، أو نشعر منه بوجل، ما دام غرضنا الحصول على لذة ترجح الألم، وهكذا هي ضرورات فن الحياة.
• استاذ جامعي وباحث نفسي
بين التشبث بالماضي والتشبث بالمستقبل
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا