انعطافة باهضة الثمن
الدكتور مهند العزاوي *
يعاني العالم اليوم من تقاطع ازمات سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية مركبة , كنتاج لفشل السياسات الدولية , في ظل الصراع المحتدم بين الاليات السياسية للاعبين الكبار وتبادل الادوار وتعدد المنافذ الحربية المتعلق بسوق الامن والسلاح , برزت روسيا السوفيتية بشكل واضح في مسرح الاحداث بشكل علني وقد حققت سياسة الوصول للشرق الاوسط بعد ان غادرته مرغمة على اثر تفكك الاتحاد السوفيتي , وبروز القوة القطبية الولايات المتحدة كلاعب محوري يدير دفة الاحداث السياسية والحربية في العالم .
شكل غزو العراق الانعطافة الاستراتيجية الخطيرة في لوحة العالم عموما والشرق الاوسط خصوصا , حيث تم استخدام القوة العسكرية الامريكية بلا مبرر , وقد جرى ازاحة دولة العراق دون ضرورة استراتيجية بعد ان كان صمام الامان الدولي والاقليمي والعربي , وفتح بذلك بوابة الانهيار من اوسع ابوابها ليحل الارهاب بديل للامن , والمليشيات بديل للدولة , والانتهاكات بديل للحقوق , والفوضى بديل للنظام , والمؤشرات الرقمية للمهجرين والنازحين والمهاجرين تثبت ذلك , لقد عول العالم والعرب والعراقيين كثيرا على وصول الرئيس الامريكي اوباما للسلطة بغية اجراء التصحيح المطلوب واعادة رسم السياسة لتحقيق الاستقرار والامن في المنطقة , وسرعان ماتبددت تلك الامال حين قرر الرئيس الامريكي الحالي ان ينفذ “استراتيجية الانعطافة” عن الشرق الاوسط والتحول نحو اسيا , وبذلك ترك المنطقة تغرق اكثر فاكثر في الفوضى والارهاب الوافد والمصنع في اروقة دوائر المخابرات الاقليمية والعربية واصبح يسيطر على مقدرات دول كظاهرة المليشيا سلطة الزاحفة وكذلك ظاهرة داعش المصنعة بعناية في اروقة المخابرات ليبرز الوجهة البشع للصراع والذي اسميته بالحرب الدافئة
روسيا القطب الصاعد
تمكنت روسيا من استعادة المبادأة والعودة الى منطقة الشرق الاوسط الحيوية عبر بوبات متعددة لتملئ الفراغ الدولي الحاصل , واضحت الشريك الرسمي لعدد من دول الاضداد في مفارقة سياسية فريدة , خصوصا بعد تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها وترك المنطقة تغرق بالفوضى والمليشيات والتنظيمات الارهابية التي تزحف بشكل سريع لتقضم الدول ومواردها وتحويلها لدول فاشلة كما في لبنان والعراق واليمن وسوريا والسودان وليبيا والصومال .. الخ
استطاعت روسيا وفقا للبرغماتية السياسية والاستفادة من الاخطاء المتراكمة للولايات المتحدة , ان تلعب دور الشرطي العالمي المنقذ من الفوضى , وكذلك دور منسق الصراعات الاقليمية الذي يطرح حلول وسط لمسارح حربية وامنية لها اليد الطولى فيها , وقد حققت بذلك عدد من الاهداف الاستراتيجية ابرزها:
-
العودة كلاعب دولي مؤثر في مسارح الاحداث الساخنة
-
تطوير القدرة العسكرية الروسية ضمن توازن الاضداد مع الولايات المتحدة
-
صيانة الحدود السياسية للاتحاد الروسي من خلال احكام السيطرة على اوكرانيا
-
تحسن اقتصادي ناشئ من انتعاش سوق السلاح وتعدد منافذ التوريد
-
الوصول للشرق الاوسط والدول العربية من جديد كحليف او شريك امني وسياسي .
-
تصدير التقنية النووية القديمة الى العالم العربي بعد الاتفاق النووي الايراني
-
شريك دولي معلن في محاربة الارهاب
-
تحقيق توازن الاضداد الناعم مع الجار الاوربي بمختلف الوسائل
-
صيانة الملف الداخلي وخصوصا بما يتعلق بالشيشان والقوقاز واحكام السيطرة .
انعطافة بثمن باهض
غابا ماينظر للولايات المتحدة على انها دولة مؤسسات ويصنع القرار فيها داخل بيوت الخبرة بالتنسيق المتقن , ولعل من ابرز اهدافها الاستراتيجية كانت , منع الانتشار النووي , ادامة الوجود والتاثير في اعالي البحار, ادارة العالم , ترسيخ النظام الاداري الامريكي الاقتصادي والسياسي في دول متعددة منها الشرق الاوسط , محاربة التطرف الاسلامي , محاربة ايران ومنعها من امتلاك السلاح النووي , تحسين منافذ الاقتصاد , السيطرة على الثروات الاستراتيجية دعما للماكينة الصناعية الكبرى , تحقيق الامن والسلم الدولي , السعي للقطبية ضمن سياق الحرب الباردة وما الت اليه من نتائج .
برز خلال العقدين الماضيين لتصدر الولايات المتحدة سلم القوى الاولى بالعالم جملة من التداعيات السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية , ولعل ابرزها هوس القوة وعدم استخدام الموارد العسكرية في اطارها الصحيح الذي يضمن الديمومة والبقاء متربعة على عرش قيادة العالم , ولعل من ابرز الاخطاء خوض حربين في اعقد مسرح حربي بالعراق وافغانستان , اضافة الى حرب ثالثة واسعة النطاق في مايطلق عليه محاربة الارهاب حتى جعلت كافة الرقع العالمية والعربية مسارح حرب شبحية مركبة , وبعد غزو العراق دون مبررات قانونية بحرب بلغت تكلفتها ثلاث ترليون دولار حسب حوزيف ستغليز , سلمت الادارة الامريكية العراق الى خصمه التقليدي ايران , وتركته يغرق بالفوضى والارهاب والتمدد الاقليمي الذي لايقل عن الارهاب خطورة بل اخطر منه , وهنا تبرز استراتيجية الرئيس الامريكي اوباما بالانعطافة عن الشرق الاوسط والتحول الى اسيا , مثيرة للجدل هذه الخطوة لانها تتخطى القيم الاستراتيجية التي بنيت عليها الاستراتيجية الامريكية , ولعل من ابرز التداعيات او النتائج التي ظهرت للسطح هي :
-
فقدان عرش قيادة العالم
-
التخلي عن الحفاء التقليدين مما خلق تحديات اقليمية متعددة ابرزها الفوضى والارهاب
-
صعود روسيا دولة قوية تشكل محور مضاد في الحرب الدافئة وشريك اقوى في الشرق الاوسط الملتهب
-
تراجع الاقتصاد الامريكي ودخوله ازمات متعددة بغض النظر عن الدعاية الاعلامية
-
التنافس النفطي والاخلال بالقيم الآمنة للتداول النفطي العالمي
-
انتشار الارهاب باشكال متعددة في المجال الحيوي العربي والاقليمي وكذلك الدولي.
-
فقدان ثقة الحلفاء العرب بالدور الامريكي نظرا لتعدد الاوجة السلبية التي برزت خصوصا اطلاق يد ايران في التوغل بالمسارح العربية المتعددة واشعال الحروب والفتن الداخلية ودعمها للتنظيمات المسلحة التي تنشر الفوضى داخل دولها .
-
الاتفاق النووي الايراني منعطف خطير يمس بالتحديدات الاستراتيجية الامريكية والتي تعني بمنع الانتشار النووي , لنقف امام شرق اوسط نووي .
-
فشل الماكينة السياسية الامريكية في معالجة تداعيات الانهيار في الشرق والاسط وخصوصا ملفي العراق وسوريا الذي يعد اسبقية ملحة اهملتها الولايات المتحدة
-
تراجع قدرات الناتو وهو الحليف العسكري الاكبر للولايات المتحدة
القرارات السياسية المضطربة تولد نتائج عكسية , خصوصا ان كان الفاعل دولة قوية كالولايات المتحدة , بلاشك ان العالم يتجه نحو الهاوية ولايوجد في الافق رؤية فاعلة لايقاف نزيف الموارد , ويبدوا الصراع الدولي في مسرحه الدافئ متقد للغاية , ولاتزال الرؤية التوافقية غائبة بين منهج الكبار وتلقي بظلالها على مصالح الدول الاخرى واستقرارها.
يبقى التحدي الاكبر كيفية ايقاف النزيف البشري وايقاف انهيار الدول الامنة في اهم بقع العالم الشرق الاوسط , حيث يعد العراق وسوريا تحدي كبير امام صناع القرار وكذلك متخذيه , ولعل الانتخابات الامريكية ستفرز حرب مكاسب بين الحزبين حول ملف العراق بين اتهام بحرب عبثية غير مبررة وانهيار ماتبقى على اثر اهمال وانعطافة باهضة الثمن , خلفت انهيارات متعددة خسرت فيها الولايات المتحدة الامريكية مكاسب كثيرة ومواقع متعددة لصالح خصمها الروسي الصاعد , وحتى الان لا ضوء في نهاية النفق .
*رئيس مركز صقر للدراسات الاستراتيجية
30-آب-15