بختي ضيف الله المعتز بالله
كان أبناؤها مثل اللآلئ تعانق صدور الجميلات.. وكانت هي أمّا لا كالأمهات، في مقلتيها دموع لا يقرأها إلا العارفون، وفي شفتيها أربع كلمات : محمد ..وعلي..وخالد.. وصلاح الدين..تحبهم الحب كله؛لقد ولد كل واحد منهم في ظروف لا تحسد عليها الولّادات ، في أزمنة سئمت فيها النساء الولادة..
عند كل صباح تقرأ عليهم المعوذتين قصد دفع الضر عنهم، وتدعو لهم بالخير كله..يحبهم كل الناس ،يفضلونهم على كل الفتيان…
قال لها أخوها ذات مرة:أبناؤك يسدون الشارع حين يجتمعون…
ترد:
– قل ما شاء الله ..يا أخي ..العين حق…
كانت تحضنهم بقوة، ترسم لهم الصور بلون غير داكن وتعلمهم كيف تكون الصور الداكنة..كأنها معلمة الفلسفات في عصور الجهل المظلمة..
ألم شديد يقصم ظهرها النحيف..ألم لا يفارقها أبدا، يعصر وجهها الذي يشبه حبة باذنجان يابسة..
تنظر من النافذة إلى القرية المحاصرة التي لفها دخان كثيف…وإلى الشوارع القصيرة..
..الشارع أصبح نصف شارع…الناس يسرعون كأنهم لا يعرفون قريتهم القديمة رغم علاماتها المميزة..
رجال ملثمون لا يعرفوهم أحد يحملون بنادق..وجهتهم غير معروفة.. يتسللون من مكان إلى مكان…كأنهم يريدون أن يجهزوا على شيء ما..
أمطار غزيرة تَتَهَاطل..وقعها يخفف الألم عنها..
تحرك شفتيها : صيب نافع إن شاء الله ..سينبت الزرع ..سينبت الزرع..
الليل أرخى سدوله والأبناء طال غيابهم..هذه أول مرة..تصابر نفسها، تقرأ المعوذتين..ترفع يديها إلى السماء.. تخرج إلى فناء البيت الذي أصبح بركة صغيرة..
ـ يا رب ..أبنائي ..يا رب أبنائي..
تعود إلى حجرتها، تنظر إلى صورة زوجها المسجون منذ أشهر…
ـ ليته كان هنا ليبحث عنهم..يا رب..
تعود إلى الفناء تتبلل ..نسيت ألمها الشديد ..
قالت لها مسنة ذات مرة بأن هذا الألم ألم مخاض ..تمشي من زاوية إلى أخرى.. تحاصر دمعتها الحارة تقاوم ألمها..
البيت خاو من كل الأصوات إلا من صوت المطر..
لم تدرِ كم لفة لفتها حول بيتها لتسقط في البركة،لتفتح عينيها في غرفة غير غرفتها، في غرفة شق صمتها صوت طفل جميل..اتفق الجميع على تسميته بالفاتح..
أعطته ثديها ..وسألت هل عاد الأبناء؟
قال أخوها ـ بعد صمت طويل ـ لقد تقبلهم الله شهداء..
أطلقت دمعتها المحاصرة لتبلل خدها الجاف..
..ضمت ابنها إلى صدرها بقوة..
لقبها الناس بالخنساء ..ولقّّبها العارفون بالولّادة..