الحرب الباردة .. ( وامراض العصر ) !
سالم اسماعيل
قبل التطرق الى ماسميت بالحرب الباردة اود التطرق الى نقطتين، الاولى هي : لاتمر الاحداث التاريخية العالمية دون ان تترك تبعات ومخلفات في حاضر ومستقبل العالم تلك التي تؤثر في صنع الاحداث اللاحقة مع عوامل مستجدة بصورة او باخرى فـ (القنابل) التي تنفجر اليوم هي من صنع الامس والتي تنفجر في الغد من صنع اليوم، فالامبراطوريات التي سقطت تركت بصمات قوية لها في الاحداث التي اعقبت سقوطها ، فالامبراطورية العثمانية على سبيل المثال لا الحصر سقطت مع الحرب العالمية الاولى (1914- 1918) وبقيت تبعاتها تتحرك هنا وهناك وخصوصاً ونحن نعلم بانها حكمت المنطقة اكثر من اربعة قرون والحربان العالميتان الاولى (1914- 1918) والثانية (1939- 1945) انتهتا باحداثهما الجسام لكن اثارهما والترتيبات والاتفاقيات التي نتجت عنهما الى الان تلقي بثقلهما في اكثر من منطقة من مناطق العالم والحقتا غبنا تاريخياً ببعض الشعوب. والنقطة الثانية هي : درسنا التاريخ الى وقت قريب بحذر شديد وخوف في عهد النظام الاستبدادي وتطرقنا الى الاحداث والوقائع التاريخية بشكل مبتور من الحقائق واحياناً تحضر دراسة بعض الاحداث لغاية في (نفس يعقوب) والبعض الاخر درست كما يشتهي السلطان وطلب من المؤرخين اعادة كتابة التاريخ لحذف ما يطلب السلطان حذفه وتحريف او اضافة مايطلب اضافته بعيداً عن الحقائق والوقائع والمطلوب اليوم اعادة قراءة وفهم وتحليل ودراسة التاريخ بموضوعية وجعل الجيل الجديد يطلع على الماضي بكل حرية وجعله يطلع على احداث مضت لفهم الاحداث الحالية والمستقبلية . الحرب الباردة : هي الحرب التي كانت ساخنة بنتائجها وتبعاتها اكثر من كثير من الحروب الساخنة في التاريخ حيث خلفت وضعاً بائساً وانظمة بائسة ديكتاتورية ومستبدة في المنطقة والعالم ، ايام كان العالم يدور في فلك القطبين وحتى الدول التي سميت بدول عدم الانحياز كانت الكثير منها منحازة الى هذا المعسكر او ذاك وحتى الارهاب والانفلات الحالي في العالم من نتائج تلك الحرب بصيغة او باخرى واكثر المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها العالم اليوم هي من مخلفاتها بصيغة او باخرى. ادعو ذوي الاختصاص في كل حقول المعرفة ومنها السياسة والتاريخ والاقتصاد التطرق الى احداث الماضي لفهم حركة الحاضر وتحرره من تبعات الماضي بقدر المستطاع لصنع الاحداث والتحرر من قيود ثقل الماضي علينا ان نحرك الاشياء من حولنا لا ان تحركنا كيفما تشاء. تشكلت حالة سياسية عالمية كانت قائمة على التنافس بدون حرب او صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها وبين الاتحاد السوفيتي السابق وحلفائها وسميت بالحرب الباردة وهي مصطلح استخدم لوصف حالة الصراع والتوتر والتنافس التي دارت بين القطبين العالميين منتصف الاربعينيات حتى اوائل الستينيات خلال هذه الفترة ظهرت الندية بين القوتين العظيمتين خلال التحالفات العسكرية والتجسس وتطوير الاسلحة والدعاية والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي. وفي اتفاق كبير على الدفاع العسكري والترسانات النووية وحروب غير مباشرة باستخدام وسيط في اكثر من منطقة من مناطق العالم والملفت للنظر ان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كانا حلفاء ضد قوات المحور الا ان القوتين اختلفتا في كيفية ادارة ما بعد الحرب واعادة بناء العالم وصاحبت فترة الحرب الباردة عدة ازمات دولية مثل ازمة حصار برلين 1948 – 1949 والحرب الكو رية 1950-1953 وازمة برلين عام 1961 وحرب فيتنام 1959-1975 والغزو السوفيتي لافغانستان وازمة الصواريخ الكوبية 1962 وكثيراً كان العالم يشعر انه على حافة الانحراف الى الحرب العالمية الثالثة واسلحة اكثر فتكا هذه المرة. ان الحدث التاريخي لاينتهي بانتهاء الحدث ، وهو ليس من صنع عامل واحد وان برز ذلك العامل ولا يمكن تكرار الحدث بنفس الصيغة او العودة اليه ، فالبعض يتساءل هل تعود الحرب الباردة او لاتعود؟ ثمة حنين قومي وعاطفي لدى القادة الروس والسياسيين والعسكريين للعودة الى مرحلة الدولة العظمى، واستدراك الجرح والهزيمة التي لحقت بالاتحاد السوفيتي وان كنت شخصياً لا ارى منتصرا في هذه الحرب، لان النتائج المترتبة عن نهاية الحرب الباردة لاحقاً اتعبت امريكا وتلقت وتتلقى وتتفاعل مع ازمات العالم في اكثر بقاع الارض كونها القطب الاوحد وان كان الاخر لايخفي عدم قبوله بتزعم قطب واحد للعالم وهذا بوتين يقول : لا احد يشعر بالامان في عالم احادي القطب، ان عالما احادي القطب تقوده الولايات المتحدة الامريكية امر لايمكن القبول به، وقد ادى الى المزيد من الحروب والصراعات في مختلف انحاء العالم. اول استخدام للحرب الباردة لوصف الاضطراب السياسي بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قام به المالي الامريكي ومستشار الرئيس الامريكي بيرنارد باروش في 1947 القى باروش خطبة في كارولينا الجنوبية قال فيها (دعونا لانخدع انفسنا نحن اليوم في حرب باردة) كما اعطى الصحفي والتر ليبمان شهرة كبيرة للمصطلح عندما نشر كتابه بعنوان الحرب الباردة عام 1947. لايوجد توافق بين المؤرخين فيما يتعلق ببداية الحرب الباردة ، فبينما يقول معظم المؤرخين انها بدأت في نهاية الحرب العالمية الاولى، على الرغم من المشاكل بين الامبراطورية الروسية والامبراطورية البريطانية والولايات المتحدة تعود الى منتصف القرن التاسع عشر ، الا ان الخلاف في وجهات النظر بين الشيوعية والرأسمالية يعود الى عام 1917، عندما انطلق الاتحاد السوفيتي من الثورة الروسية كأول دولة شيوعية في العالم ، هذا ادى الى جعل العلاقات الروسية الامريكية مصدر قلق ومشاكل لفترة طويلة ادت العديد من الاحداث الى نمو الشك وعدم الثقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مثل: التحدي البلشفي للراسمالية من خلال عمليات اسقاط عنيفة للنظم الرأسمالية واستبدالها بنظم شيوعية، وانسحاب روسيا من الحرب العالمية الاولى عن طريق عقد معاهدة بريست ليتوفسك مع المانيا، وتدخل الولايات المتحدة في روسيا لدعم الجيش الابيض خلال الحرب الاهلية الروسية، ورفض الولايات المتحدة الاعتراف بالاتحاد السوفيتي حتى عام 1933. احداث اخرى حدثت في الفترة بين الحربين ادت الى تعميق مناخ عدم الثقة المتبادل مثل معاهدة رابللو والاتفاق على عدم الاعتداء بين المانيا والاتحاد السوفيتي. والبعض يستنتج ان القنبلة الذرية انهت حرباً كونية عندما رفعت اليابان رايات الاستسلام بعد ان قصفت الطائرات الامريكية مدينتي هيروشيما وناكازاكي بهذه القنابل، ولكنها فتحت بنفس الوقت مرحلة جديدة من تاريخ الانسانية، مرحلة (الحرب الباردة) التي ساد فيها سلام الرعب اي السلام تحت ظل قناعة ثابتة ان القوى النووية تستطيع تحقيق الدمار المتبادل والبعض يربط بين التفجيرات النووية الاولى وبدايات الحرب الباردة وبان القنبلة الذرية لم تدفع الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاسوفيتي السابق الى التعاون الحقيقي وانما الى الدخول في منافسة بل وفي مواجهة ثنائية لاهوادة فيها، سادت لدى جوزيف ستالين الزعيم السوفيتي انذاك الاعتقاد بل والقناعة ، ان الولايات المتحدة سوف تلجأ الى استخدام السلاح النووي ضد بلاده كما فعلت ضد اليابان ، وانها تريد تدمير المنظومة الاشتراكية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي، ولذلك كان رد ستالين هو السعي الحثيث من اجل تزويد بلاده بالسلاح النووي ايضاً ووضع حد للتفوق الامريكي والغربي عامة في الميدان النووي. قاد (منطق القنبلة) الى منظومة الحرب الباردة التي انبثقت كنتاج فرعي من الحرب العالمية الثانية. امتلك الاتحاد السوفيتي قنبلة الذرية وكان على علم بمسيرة الابحاث الذرية الامريكية منذ عام 1932 بفضل جواسيسه فوق الارض الامريكية. الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية ونهاية الحرب الباردة في عام 1985 وبعد رحيل ثلاثة زعماء تولوا القيادة السوفيتية خلال الفترة من عام 1964 الى 1985 بريجنيف 1964- 1982 واندربوف 1982- 1984 وشيرنينكو 1984- 1985 جاء زعيم شاب 54 عاماً حينئذ هو ميخائيل جورباتشوف ليتولى زعامة الحزب وقد كان اختيار السريع من جانب زملائه في المكتب السياسي، ولم يكن اكبرهم سناً ولا مكانة في سلم القيادة ، يعكس تفهما واقتناعا من جانبهم ان الاتحاد السوفيتي يواجه تحديات جديدة تتطلب رجلاً ذا رؤية وارادة مختلفة. استخلص جورباتشوف من ان السياسات الخارجية التي اتبعها الاتحاد السوفيتي في تحدي الولايات المتحدة الامريكية والغرب عسكرياً ، وتاكيد ذاته في المناطق الاقليمية وتوسيع ارتباطاته فيها قد اتى برد فعل عكسي على المصالح السوفيتية الحقيقية ، فعلى المستوى العسكري ادى نشر الصواريخ السوفيتية SS-20 في اوربا الى قرار الناتو عام 1979 بنشر الصواريخ الامريكية برشينج وكروز، مما ادى الى زيادة القوى العسكرية الامريكية الامر الذي تبلور في برنامجها الدفاع الاستراتيجي والذي مثل تصعيداً خطيراً لسباق التسلح ، وتحديا جديداً له في هذا السباق اذا ما صمم على مواجهته ، كما فعل في تحديات سابقة، فان هذا يعني استنزافاً جديداً لطاقته وموارده الاقتصادية لم يعد يتحمله، وعلى المستوى الدبلوماسي فشلت الحملة الدبلوماسية والسياسية التي شنها الاتحاد السوفيتي وحاول بها مخاطبة واستنفار المجتمعات الاوربية لمنع نشر الصواريخ الامريكية ونفذ هذا القرار في سنة 1983. وكان الاطار العام ، الذي اعاد فيه جورباتشوف صياغة مفاهيم السياسة الخارجية والامن السوفيتي ، هو ان برامجه في اعادة البناء في الاتحاد السوفيتي لايمكن ان تتم بشكل سليم ومستقر الا في بيئة دولية واقليمية سليمة ، تخلو من مجابهات وتوترات الحرب الباردة وشكوكها وانعدام الثقة بين القوى الدولية الرئيسية ويفرض قيوداً على امكانيات التعاون الدولي في العالم رأى جورباتشوف ان الاقتصاد العالمي فيه اصبح كياناً واحداً لاتستطيع دولة خارجة عنه ان تتطور تطوراً طبيعياً بغض النظر عن النظام الاجتماعي الذي ينتمي اليه ، واهم من هذا ان جورباتشوف اكد ان برامجه في اعادة البناء لايمكن ان تتم الا في بيئة تخلو من سباق التسلح باعبائه الباهظة ، وكذلك من التوترات والصراعات الاقليمية التي اثبتت انها تسمم علاقات الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة الامريكية. وتفرض في الوقت نفسه اعباء لم يعد في قدرة الاتحاد السوفيتي المادية تحملها. اما في الجانب الاخر ونقصد الولايات المتحدة الامريكية فان ظروف ادت الى نجاح مرشح الرئاسة الجمهورية رونالد ريجان 1980-1984 الولاية الاولى ، 1984- 1988 الولاية الثانية للفوز بالرئاسة ونذكر منها : سقوط شاه ايران وتداعيات سقوطه، قضية الرهائن وفشل محاولة انقاذهم وتعرض الهيبة الامريكية الى الاهتزاز، وارتفاع نسبة التضخم واسعار الفائدة. وادارة ريجان حاولت اعادة ترتيب الاولويات وعلى المستوى العسكري فقد رأى انصار مدرسة ريجان ان المواجهة العسكرية والاصرار على البناء العسكري ، وخاصة برنامج الدفاع الستراتيجي كان مقدمة ضرورية لما تلا ذلك من سلام ووفاق ، فعندهم (انصار مدرسة ريجان) ان الاتحاد السوفيتي وقادته لم يحترموا الا القوة ، وان اعادة تسليح امريكا كان ضرورة ولاقناعهم ان الغرب لم يكن في مرحلة تدهور او ضعف ، وانه مازال مستعداً لبذل التاضحيات المطلوبة لضمان الصمود ضد اي ضغط او تهديد سوفيتي. وتلخص مدرسة ريجان رأيها في تأثير البناء العسكري الامريكي لاسيما مبادرة الدفاع الاستراتيجي على التطورات السوفيتية بالقول بانه قد وضع الاتحاد السوفيتي وقادته امام مأزق ، وخيارين كلاهما صعب اما مجاراة البناء العسكري الى حد الافلاس، او عدم مجاراته وبذلك يكون الاتحاد السوفيتي قد فقد ادعاءه الوحيد الذي يجعل منه قوة اعظم وهي القوة العسكرية باختصار ان نهاية الحرب الباردة لم تأت نتيجة لسياسات ريجان او لسياسات جورباتشوف فحسب وانما نتيجة لاسباب عديدة فالتحولات السياسية والتأريخية الكبرى ، عموماً من الصعب ان تحدثها قوة واحدة حتى لو كانت قوة عظمى وانما هي مرحلة تفاعل عدد من العوامل والتطورات التي تحدث عادة على جانب الصراع وان كانت بنسب متفاوتة مهما كات اسباب انتهاء الحرب الباردة بسبب فشل النظام السوفيتي ذاته او بسبب القوى الخارجية او بسبب جملة عوامل متداخلة كما نراها فانها قد انتهت ولكن تبعاتها لم تنته بعد واشعر ان العالم قد تتمخض عاجلاً ام اجلاً عن نظام دولي جديد ، فامريكا كقطب وكما نفسر ونحلل ونقرأ وكما يصرح ساسة امريكا بان ادارة العالم اصبح صعباً على امريكا لوحدها كقطب كما ان اوربا لوحدها لاتقدر اداراته ويبدو ان الولايات المتحدة الامريكية قد حققت نصراً اجوف في الحرب الباردة لانها شاءت ام ابت عليها ان تذوق مع حلاوة تزعم العالم مرارته فالمشاكل في العالم اصبحت اعظم وتشعبت وتراكمت سلبيات الحلول القسرية والمشاكل الاقتصادية تعاظمت والجبهات تعددت واساليب الامس تبدو لاتنفع اليوم كما ان الحلول العسكرية مثل دواء لاتنفع مع (امراض العصر) السياسية وغيرها. .