روز – زهرة العاصفة الأخيرة
قصة قصيرة
طاهر علوان
..
انظر الى المصباح في وسط العاصفة فأدرك صبره وتحمّله تلك الريح والبرد وصموده في وجهها، أعلم انه يحاول أن يدفئ نفسه لكي يستمر في مقاومة العاصفة، لكنني لا أستطيع ان أجزم الى متى سوف يصبر أو يمتلك القدرة على الإستمرار لاسيما وان مصابيح مجاورة له انطفأت منذ بدء العاصفة بينما ما يزال الليل طويل امامه والعاصفة سوف تستمر ليال كما قالت الأرصاد الجوية.
**
أسدلت الستارة وتركتُ المصباح في معاناته، كانت ليلة يشبه فيها عصف الريح والمطر انفجار قنابل ودويّ مدافع، حتى أن البرق والرعد بإمكانهما أن يعيدانني إلى تلك الأجواء التي بقيت قابعة في عمق ذاكرتي أو في ركن منسي من رأسي.
نظرتُ الى السقف كان هنالك مصباح غير مكترث بكل ما يجري فهو ينعم بالدفء بينما صاحبه الذي في الخارج يدفع ثمنا باهضاً من أجل إنارة الطريق للمارّة في تلك الليلة المتجهّمة القاسية.
**
لا أدري كم استغرقتُ من وقت عندما رنّ جرس الهاتف وكان على الطرف الآخر موظف دائرة الكهرباء وهو يطالبني أن اسجّل فوراً الأرقام التي في عدّاد الاستهلاك اليومي وأرسلها له وإلا سوف تترتب عليّ غرامة باهضه.
منذ استأجرت هذا المكان وأنا ناسٍ أو غير مهتم لوجود عدّاد ومقياس لاستهلاك الكهرباء ولهذا رحتُ أبحثُ عنه لأجدهُ في مكان مظلم وزاوية يجب أن أزحف إليها زحفاً لكي أصل الى هناك وأن استخدم مصباح الهاتف النقال لكي أقوم بتلك المهمة، والحاصل أنّني وبصعوبة بالغة قمت بالمهمة.
**
أرسلتُ قراءة مقياس استهلاك الكهرباء، وما هي إلا ساعة زمن وفيما العاصفة مستمرة وإذا الموظف ذا الصوت الأجش يقول لي إنها قراءة خاطئة، ثم راح يسألني عن عدد المصابيح التي في المنزل، قلتُ له في هذه الساعة ليس عندي سوى مصباح واحد يتدلى من السقف فوق رأسي، بالطبع لم يصدّق موظف الكهرباء ما قلتُ له ولهذا نصحني أن أقوم بعملية قراءة المقياس مرّة أخرى لأن القراءة التي سجّلتُها كانت خاطئة، قلتُ له أنّها مهمة شاقّة، قال اذا سوف تأتيك فاتورة هائلة وعليك ان تدفعها ولك الاختيار.
**
انزلقتُ مرة أخرى باتجاه مقياس استهلاك الكهرباء، لا أتذكر كيف تكوّرتُ واستدرتُ وانحنيتُ وحشرتُ نفسي في تلك النقطة المنسية من المنزل، هناك عثرتُ على نافذة زجاجية متروكة، مسحتُ عنها الغبار فبدتْ أشبه بشاشة عرضت عليها مصابيح الطريق والريح التي تعصف بالعابرين وتنتزع مظلاتهم عنوة وتحطّمها وتطلقُها للريح، وتلكَ العجوز التي تاهتْ من شدّة العاصفة ولم تعد تعلم أين يقع منزلها، وبدا لي في الأخير وجه موظف الكهرباء بشاربه الكث ووجهه المنتفخ وهو يصرخ مطالباً بالمقياس وانا أملي عليه الأرقام وهو ينكرها فآتي بأرقام أخرى ثم ينكرها حتى تراكمت الأرقام أمامي وتراكم العابرون التائهون في وسط العاصفة الذين أحاط بهم جميعا ذلك المصباح الواحد والوحيد الذي بقي صامداً في وسط العاصفة تماماً كما أنا متكوّر وصامد أمام المقياس أنتظر أن يقبل موظف الكهرباء أيّة قراءة سوف أمليها عليه أو تنتهي العاصفة.
..
لم أعد أسمع أحداً سوى نبض مقياس الكهرباء خاصة بعد انعزالي عمّا حولي، انقطاع إجباري لحظي، اخذتني اليه الشاشة لندخل نفقاً في أسفل المبنى ونتمدد مع الأسلاك وأوراق قديمة ومذكّرات، كانت ركاماً من الماضي فيما المصباح الجانبي الخافت يشعل ويضيء ثم يخمد ويتوارى حتى شعرت ان مصير ذلك المصباح في وسط العاصفة والريح ليس مختلفاً كثيراً عن مصيري لا سيما مع انغلاق ذلك المدخل الذي دخلت منه لتتراكم امامي مذكرات وكتب وملاحظات مكتوبة بالحبر الأسود.
***
كان مراقب الكهرباء ما يزال يحثني على قراءة المقياس، كان صوته يتبعثر في المكان الذي انا فيه والذي بالتدريج صار مضاءا بنور ذلك المصباح اليتيم وسط العاصفة ووجدتني أخرج مستدّلاً على حدس قديم لإنقاذ تلك العجوز في وسط العاصفة وإذا بها جدّتي نفسها التي فارقتها منذ عقود، لمست يدها التي غزتها التجاعيد وخطوط الزمن وتأملت الوشم الذي انتشر خرائط على وجهها وقدتها بالتدريج وتحت ضوء المصباح الى مكاني.
***
هناك، أريت جدتي رسائلي وحياتي السابقة ودفاتر مذكراتي فيما كان نبض مقياس الكهرباء يتصاعد ممتزجا مع نداءات مراقب الكهرباء التي كانت تتبدد مثل سراب قديم، بقينا نتأمل في سيرة حياتنا فيما كانت العاصفة والريح في تصاعد والمصباح الوحيد يمنحنا ضوءا ودفئا في تلك الجلسة الاستثنائية.
***
تجعّد وجه جدتي أكير وأكثر وزاد اسمرار بشرتها وعبّرت عن انزعاجها من سيرتي، قلت لها ان من الصعب ان اصحح ما كان لكنها أدارت وجهها جانباً، في عالم المنام او في الحقيقة اذا أخذ الميّت منك شيئاً فسوف تكون تلك نهايتك، بصراحة كادت أن تأخذ من يدي زمرّدة كانت قد اهدتنيها لأني لم اعد استحقّها ولأني فرطت بروز- زهرة وما أبقيت إلا دفاتر مذكّراتي، فهمت جدّتي القصّة كلها خطأ ولم تكن مستعدة لتصحيح فكرتها.
***
روز – زهرة ابتلعتها الحرب يا جدتي
أما أنا فكائن سريالي في وسط عاصفة وريح اجلس تحت مصباح، انتظره حتى يأفل فنعود لنسلّم نفسينا الى مراقب الكهرباء ومراقب المهاجرين ومراقب الحرب وكل أطوار المراقبين الذين يلاحقونني منذ عقود وهم يسألونني ماذا أفعل وما هي قراءة نبضي وما هي قراءة مقياس الكهرباء، وأسئلة أخرى، المراقبون يا جدّتي يدبّون في أوردتي وأسمع مطالبهم وقد ظلّوا يراقبونني وانا أحاول انقاذ روز في وسط العاصفة حتى تفجّرت الحرب في وجهها وتاكّد المراقبون أنني قد حملتني العاصفة وتخلّصوا مني بينما انا ما أزال اراقب المشهد الى حد ما منتظرا أفول آخر المصابيح وفي العاصفة.
**
12-1-2024
شفيلد
ملاحظة/ لم استطع ان ارفق القصة بصورة شخصية لأن هذه القسيمة لا تسمح بذلك ولا يوجد رابط لتحميل الصورة.