فى العاشرة من عمرى، رأيت جدتى ذات صباح جالسة على عتبة دارها فى القرية، تتطلع إلى الأفق البعيد، توجه كلمات غير مفهومة إلى السماء، عيناها متسعتان تكسوهما دمعة تروح وتجىء فيما يشبه الرجفة. أول مرة فى حياتى أرى الرجفة فى هاتين العينين الجسورتين، لم يرف لهما جفن وإن سقطت السماء على الأرض، وإن هددها العمدة بالقتل أو بالحبس، أو الملك فاروق أو إمبراطور الإنجليز، أو العفريت الأزرق ظهر لها فى الليل.
سألتها: «بابا مات؟». تصورت أن الكارثة الوحيدة التى ترجفها، هى موت أبى، ابنها الوحيد، روح قلبها ونور عينها وكبدها وطحالها، تدعو له بطول العمر، أن يأخذها الله قبل أن يأخذه.
أخيرًا اعترفت لى بالسر الرهيب: «أنا قتلت جدك أبو أبوكى، يا بنت ابنى، العمدة العمدة جاى يقبض عليا، اوعى تقولى لأبوكى أو أمك..». قتلتيه؟ إزاى؟ ليه؟ إمتى؟ ده جدى مات قبل ما اتولد يا جدتى؟.
تحكى لى الحكاية وهى غائبة فى شرودها نحو السماء: «كان راجل ندل زى أبوه، يمشى مع النسوان، ويكذب ويسرق وينافق ربنا ويصلى ويصوم ويحج كل سنة وربنا يمسح ذنوبه، كرهته وقلت يا ربنا تاخده، لكن ربنا أخد أحسن الرجال، وعاش جدك زى الهم عالقلب، ما يقعد على المتاود يا بنت ابنى إلا شر البقر».
«وبعدين يا جدتى؟». قالت: «فكرت أرمى نفسى فى النيل وأستريح منه، لكن قلت لنفسى، تموتى ليه يا أم مخ عوج، هو اللى يستاهل الموت، مسكت الفاس وضربته ضربة واحدة على راسه، طب ساكت وراح فيها، بعد ما دفنوه سخنت صفيحة ميه وغسلت شَعرى ولبست جلابيتى الجديدة وزغردت».
لم أنم ليلتها بجوار جدتى، خفت أن تضربنى بالفأس على رأسى. من شدة خوفى، حكيت لأمى وأبى، ضحكت أمى وقالت إن جدتى صاحبة خيال واسع، وانها رغم جسارتها وقوتها، إلا أنها إنسانة شديدة الرقة ولا تقتل بعوضة. أبى أكد ما قالته أمى، وأضاف بنبرة يملؤها الفخر والاعتزاز: «أمى لو تعلمت القراءة والكتابة لأصبحت كاتبة مبدعة مثل مى زيادة وفرجينيا وولف، هى عاقلة جدا ومجنونة جدا مثل كل المبدعين والمبدعات».
أصبحت أتطلع إلى جدتى بعيون جديدة، أريد أن أتأكد من عقلها أو جنونها، أستدرجها لتحكى لى حكايتها، أسألها: «كنتى بتحبيه يا جدتى؟». أشاحت بيديها الكبيرتين السمراوين وصاحت: «حبه برص وعشرة خُرس» ليه اتجوزتيه؟.
قالت: «جوزونى يا بنت ابنى وعمرى عشر سنين، جوازتى كانت جنازتى.. كان لازم أقتله لأجل أعيش».
لم تكن جدتى نائمة تحلم، كانت صاحية واعية تماما، بل أخذتنى معها إلى العمدة، تطلب منه القبض عليها، لكن الرجل صرفها برقة قائلا: «ده هو اللى قتلك يا حاجة مبروكة«. صاحت فيه جدتى: » ده كان يخاف من خياله ما يقتل نملة».
لم أفهم جدتى، إلا بعد تعمقى فى دراسة الطب النفسى، ومعاشرة النساء القاتلات فى سجن النساء. فى أحيان كثيرة، تقتضى القدرة على القتل، القدرة على الحنان والرقة. أحسست من قوة شخصية جدتى ورقة قلبها، أنها يمكن أن تقتل، امرأة جسور لا تهاب الموت، تقود أهل القرية ضد العمدة والملك والإنجليز، ربطت بطنها بالحزام لتوفر لابنها مصاريف التعليم العالى.
لم تكن جدتى تستسلم للقدر، إن كرهت زوجها وأرادته ميتا، فلن تنتظر القدر ليخلصها منه، سوف تقتله بيدها. وأضاف أبى: «لكن جدتك كانت تحب جدك وتخاف عليه من الهوا الطاير». وحكت أمى أن جدتى ضربت شيخ الخفر بالعصا الخيزران حين شتم جدى، وصرفت عليه من عرق جبينها حينما رقد مريضا، ومات موتة ربنا وهى فى عز شبابها، وأقسمت جدتى ألا تتزوج بعد جدى. قالت أمى: «لم تشأ أن يلمسها رجل بعد جدك
من شدة حبها له». تمتمت جدتى بصوت لم يسمعه سواى: «من شدة كرهى له كرهت كل الرجال».
أصبحت الحقيقة مراوغة شديدة الغموض، مثل رواية أدبية جميلة تستولى علينا فلا ننام الليل. أسأل نفسى: هل صحيح قتلت جدتى زوجها أم مات من المرض؟. لكنه مات شابا وكان قوى الجسم كما سمعت، لا بد أنها قتلته، لكن كيف قتلته؟. خيالى يسبح فى السماوات السبع، هل لجدتى شخصيتان، أى مزدوجة الشخصية؟. أصبحت معلقة فى الفراغ، لا أعرف الحقيقة من الخيال. هل تمنت جدتى موت زوجها، حتى تخيلت أنها قتلته؟، حتى أصبحت تحلم كل ليلة أنها ضربته بالفأس على رأسه ضربة مميتة، وتحول الخيال إلى حقيقة فى وعيها الباطن؟.
كنت أقرأ فرجينيا وولف الكاتبة البريطانية، وأشعر أنها كرهت زوجها وأرادت أن تقتله، لكنها لم تملك الشجاعة فقتلت نفسها، هل الانتحار أو قتل الذات، لا يقتضى شجاعة قتل الآخر؟. هل كانت جدتى أشجع من فرجينيا وولف، فأقدمت على قتل زوجها وليس قتل نفسها؟.
لن أعرف الجواب إذا كانت جدتى مذنبة أم بريئة. أو ربما عاشت الخيال كالحقيقة، تستعذب لذة المغامرة، تغلبها رغبة الفضول والاستطلاع، تحقق لها قصة القتل متعة كبيرة لا تريد التنازل عنها، تنفصل عن ذاتها القاتلة المتمردة على القضاء والقدر، إلى ذاتها الأخرى المستسلمة للقضاء والقدر.
فى طفولتى، حينما كان أبى وأمى يرفضان خروجى لكى ألعب مع أولاد الجيران، كنت أحلم بموتهما، وأحيانا من شدة الكره والحب، أخنقهما فى النوم بحبل الغسيل. أما حبى الوحيد الرجل الذى لم أتزوجه، فكان مثل جدى، يتعرض للقتل كل ليلة وأنا نائمة.