كانت دائرة من أجساد الأطفال الصغيرة تلف وتدور حول نفسها أمام عيني، كل يوم وفي أي وقت أنزل فيه من بيتي، وصورة غنائهم الحاد الرفيع يدور مع حركة أجسادهم في أغنية واحدة، لها مقطع واحد، يتكرر في دورة متصلة لا تنقطع:
حميدة ولدت ولد،
سمِّته عبد الصمد،
سابته على الأنايا،١
خطفت راسه الحدايا،٢
حد يا حد …
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد،
سمِّته عبد الصمد،
سابته على الأنايا،
خطفت راسه الحدايا،
حد يا حد …
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد،
سمِّته عبد الصمد.
ويكررون الأغنية، ما إن يصلوا إلى الجملة الأخيرة حتى تأتي الجملة الأولى، وما إن تنتهي الجملة الأولى حتى تأتي الأخيرة؛ ولأنهم يدورون ويغنون بغير انقطاع، فلا يمكن للأذن أن تعرف بداية الأغنية من نهايتها، ولا يمكن للعين أن تعرف بداية حركتهم من نهايتها، فهم كعادة الأطفال يمسكون بأيديهم بعضهم البعض على شكل دائرة مغلقة.
ولكن لا بد لي أن أبدأ القصة، فكل شيء له بداية، لكن نقطة البداية في هذه القصة لا أستطيع تحديدها، فالبداية لا تبدأ بنقطة محددة؛ لأن البداية في حقيقة الأمر غير موجودة، أو أن البداية والنهاية يتصلان في خيط واحد دائري من الصعب تحديد أوله من آخره.
ومن هنا صعوبة البدء بشيء، وعلى الأخص إذا كان قصة حقيقية أي قصة صادقة كل الصدق، دقيقة غاية الدقة، والدقة الدقيقة تقتضي من الكاتب — أو الكاتبة — أن يراعي وألا يهمل أي نقطة. إن نقطة واحدة قد تقلب كيان معنًى من المعاني، وبالذات في اللغة العربية، الذكر يصبح أنثى بسبب نقطة أو شرطة، والبعل بغلًا، والوعد وغدًا وهكذا.
ومن هنا لا بد أن توجد نقطة محددة أبدأ بها، والنقطة المحددة هي النقطة المحددة، لا يمكن أن تكون شرطة أو دائرة، وإنما لا بد أن تكون نقطة حقيقية، أي نقطة هندسية. وبمعنًى آخر لا بد من دقة علمية في العمل الفني الجيد الذي هو هذه القصة. لكن العلم يفسد الفن، وهذا الإفساد هو بالضبط ما أريده في هذه القصة لتصبح جيدة، أو لتصبح حقيقية وصادقة صدق الحياة الحية. وإنني لأصر على هذا التعبير «الحياة الحية» أكتبه بسبق إصرار وليس من قبيل الصدفة؛ لأن هناك حياتين: حياة حية وحياة ميتة، والحياة الميتة كالإنسان الذي يمشي على الأرض دون أن يعرق، أو دون أن يبول، أو دون أن ينبعث من جسده شيء فاسد. الفساد والإفساد والتفسد كلها أشياء ضرورية للحياة الحية، وللإنسان الحي. لا يمكن للإنسان الحي أن يحبس بوله في مثانته إلى الأبد، وإلا مات، حينئذٍ يستطيع أن يحبس فساده في الداخل ويصبح من الخارج جسدًا ميتًا نظيفًا من الناحية العلمية، أما من الناحية الفنية فإن الفساد المحتبس بالداخل أشد تفسدًا من الفساد المنطلق إلى الخارج، وهذه حقيقة أو ظاهرة طبيعية لا تخفى على أحد، فإن رائحة الجسد الميت أشد سوءًا من رائحة الجسد الحي.
خُيِّل إليَّ (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة) أن طفلًا من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة، كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل عن الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجًا بشعلة كالشهب قبل أن يحترق.
وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقَّف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه. لم يكن طفلًا ذكرًا، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى؛ فوجوه الأطفال كوجوه العجائز لا جنس لها، وبين الطفولة والشيخوخة مرحلة يضطر فيها الإنسان إلى الإعلان عن جنسه بوضوح أكثر.
الوجه (للغربة الشديدة) لم يكن غريبًا عليَّ، كان مألوفًا بدرجة أثارت دهشتي إلى حدِّ عدم التصديق، فليس من المعقول أن يخرج الإنسان من بيته في الصباح ذاهبًا إلى عمله، فإذا به يصطدم بشخص آخر، ما إن يرفع وجهه إليه حتى يرى وجهه هو، وليس أيَّ وجه آخر.
أعترف أن جسدي ارتجَّ، نوع شديد من الذعر يشلُّ قدرة الإنسان على التفكير، ومع ذلك فكرت: يذعر الإنسان حينما يرى وجهه وجهًا لوجه؟ لعلَّها الغرابة الشديدة، أو لعلها الألفة الشديدة، حينئذٍ يختلط على الإنسان كل شيء، وتصبح الأشياء المتناقضة متشابهة إلى حد التماثل، فالأسود يصبح أبيض، والأبيض أسود، ومعنى ذلك أن يواجه الإنسان بعينيه المفتوحتين حقيقة أنه أعمى.
فركت عيني بأصابع مرتجفة، ونظرت في وجهه مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، وربما لا زلت أنظر في وجهه حتى هذه اللحظة، وفي كل لحظة، كأنه يلازمني كظلِّي، أو يلتصق بي كقطعة من جسدي، كذراعي أو ساقي.
والذعر بطبيعته يولد الكراهية، لا أنكر أنني كرهت هذا الوجه، وقد يظنُّ بعض الناس أنني لست صادقة فيما أقول، ويتساءلون: كيف يمكن لإنسان ما أن يكره وجهه أو جسده أو قطعة من هذا الجسد؟ وهؤلاء الناس هم — ولا شك — على حق، إنهم أقدر مني على رؤيتي، ليست هي محنتي وحدي ولكنها محنة كل إنسان؛ فالآخرون يرونه أكثر مما يرى نفسه، يرونه من الأمام ومن الجانب ومن الخلف، يرونه من ظهره، أما هو فلا يرى نفسه إلا من الوجه ومن خلال مرآة.
المرآة تظل هناك دائمًا، قائمة كالشخص الآخر بين الإنسان ونفسه، ومع ذلك فأنا لا أكره المرآة، بل أكاد أحبها حبًّا شديدًا، أحب النظر فيها طويلًا، والحملقة، أحب أن أرى وجهي، الحقيقة أني لا أملُّ النظر إلى وجهي، فهو وجه جميل، أجمل من أي وجه آخر رأيته على ظهر الأرض، وفي كل مرة أنظر إليه أرى جمالًا جديدًا يكاد يسحرني.
قد لا يستغرب بعض الناس هذا الصدق الشديد؛ فالصدق الشديد يصبح مُقززًا في بعض الأحيان، أو في كل الأحيان، ولكني عاهدت نفسي على أن أقول الصدق، أنا أدرك أن الاستمرار في الصدق مجهد، يتطلب دائمًا مزيدًا من الجهد والتضحيات، كأن يضحي الإنسان بأن يكون جميلًا أو مقبولًا في كل لحظة، وأن يتحمل أحيانًا درجة من القبح، في نظر الناس، أعترف أنه قد يكون قبحًا شديدًا يصل إلى حد التقزز، ولكن هذا هو الكفاح المطلوب في العمل الفدائي وفي العمل الفني الجيد، الذي أكتبه الآن.
بهرني في الوجه بالذات العينان؛ فأنا أعشق العيون، وأعتقد (وقد يكون اعتقادي بغير نظرية علمية معترف بها) أن عينَي الإنسان جهاز حساس، بل إنه أكثر أجهزته حساسية، يليه الجهاز التناسلي بطبيعة الحال، شدَّتني إلى العينين نظرة لها لمعة متحركة في كل الاتجاهات والزوايا كإشعاعات فصِّ الماس الحقيقي، وهي نظرة محيِّرة فعلًا؛ لأنها ليست نظرة واحدة، يستطيع الإنسان أن يحدد معناها، نظرة حزن مثلًا، أو نظرة فرح، أو نظرة عتاب، أو نظرة خوف، ليست هي نظرة واحدة، وإنما هي نظرة متعددة النظرات، وإن بدت من السطح وحيدة النظرة، إلا أنه سرعان ما تنطوي النظرة الأولى وتتلوها الثانية والثالثة كصفحات كتاب وكطيات نسيج رقيق وضعت طبقاته الطبقة فوق الطبقة …
انشغلت بالعينين عن بقية ملامح الوجه، لم أر الأنف ولم أر الخدين ولا الشفتين ولا اليد الصغيرة التي ارتفعت في الهواء ولوحت لي بحركة ناعمة مألوفة كأنها تعرفني.
سألتها: ما اسمك؟
قالت: حميدة.
وارتفع صوت الأطفال بحركتهم وأغنيتهم الدائرية بغير بداية أو نهاية.
حميدة ولدت ولد،
سمِّته عبد الصمد،
سابته على القنايا،
خطفت راسه الحدايا،
حد يا حد،
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد.
ضحكت كعادة الكبار حين يداعبون الصغار وقلت: يغنُّون لك؟
لكنها لم تَرُد؛ لأنها كانت قد اختفت من أمامي في اللحظة التي اهتز فيها رأسي أثناء ضحكي، استطعت فقط أن ألمح ظهرها الصغير المحني بعض الشيء وهو يختفي داخل باب خشبي داكن اللون عُلِّقت فوقه يد آدمية خشبية كمطرقة.
لم أمسك المطرقة كعادة الغرباء حين يدقون الأبواب المغلقة، كنت أعرف طريقي، رغم الظلمة الشديدة التي تقبع دائمًا في مداخل تلك البيوت، ولأن الشمس أيضًا كانت قد غربت منذ زمن طويل، عن يميني رأيت رأس الماعزة يطل من خلف الجدار، وعن يساري كانت هناك عتبة صغيرة مرتفعة بعض الشيء، تعثرت في العتبة ككل مرة، وكدت أسقط على وجهي لولا خفَّة جسمي المعهودة وقدرته العجيبة على الاحتفاظ بتوازنه المختلِّ.
ورأيتها نائمة فوق الحصيرة، مستغرقة في النوم، جفناها نصف مغلقين، وشفتاها نصف مفتوحتين، تتنفس من فمها أنفاسًا عميقة كأنفاس الأطفال العميقة، وذراعاها متكورتان حول رأسها، ويدها اليمنى مطبقة على قرش أو تعريفة، وجلبابها الطويل انحسر عن ساقيها الناعمتين الرفيعتين حتى الركبتين، ورأسها الصغير يهتز بحركة ضئيلة غير مرئية، وفكَّاها الصغيران يضغط أحدهما على الآخر ضغطة هيِّنة توحي بلذة تذوب في فمها من قطعة الحلوى مختبئة تحت لسانها.
كان الليل مظلمًا بغير قمر، والمصباح المشتعل منذ أول الليل احترق شريطه، أو نفد زيته، فأصبح ذؤابة ضئيلة أطفأتها نفحة هواء قوية وساخنة اندفعت فجأة من ناحية الباب، الذي لم يكن بابًا، فالغرفة لم يكن لها إلا عتبة صغيرة مرتفعة بعض الشيء، لكن ذؤابة الضوء كانت قد انطفأت فأصبحت الظلمة شديدة، الأرض كالجدار كالسقف، لا شيء يظهر في السواد الداكن إلا سدٌّ كبير يسدُّ فتحة الباب تمامًا فيما عدا ثقبين صغيرين مستديرين يتوسطان الرأس، وينفذ منهما ضوء أصفر تشوبه حمرة بلون جذوة النار حين تتقد.
لم يكن الشفق قد طلع بعدُ في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر خيوط الليل وأول خيوط النهار، فتعثرت قدمه الكبيرة الحافية في العتبة المرتفعة بعض الشيء، لكنه استعاد توازن جسده الطويل العريض، ووثب كالفهد على أطراف أصابعه المطاطية، ثم سار على مهل وحذر متخطيًا شيئًا يشبه البلغة.٣
وبالثقبين اللذين ينفذ منهما الضوء المشوب بالحمرة حدد مكانها فوق الحصيرة، كعينَي قط وحشي لم تُسْتَأنس حدتهما وقدرة حدقتيهما على الاتساع في الظلام، وحينما امتدَّت أصابعه الغليظة المفلطحة لترفع جلبابها عن فخذيها البيضاوين كانت لا تزال مستغرقة في النوم استغراق الأطفال، وقد تغيَّر الحلم، وذابت قطعة الحلوى تحت لسانها، وبدأ البائع يطالبها بالقرش، وفتحت يديها فلم تجد قرشًا، وأمسك البائع الفظ العصا وراح يجري خلفها.
كان جسدها خفيفًا صغيرًا يطير في الهواء كأجساد العصافير، وكان من الممكن أن تسبق البائع (لو كانت عصفورًا) لكنها أحست فجأة وكما يحدث في الأحلام تمامًا أن جسدها أصبح ثقيلًا كأنه تحجَّر على شكل تمثال تسمرت قدماه في الأرض، وثُبِّتَتْ ذراعاه بالحديد والأسمنت، والفخذان أصبحتا من الرخام، وكل فخذ شُدَّت إلى ناحية، وتصلبت الساقان في الجو منفرجتين كالمصلوب، وضربات العصا تنهال بينهما بعنف لم تعرفه من قبل.
صرخت، لكن صوتها لم يطلع، يد كبيرة مفلطحة سدت فمها وأنفها فاختنقت، وأدركت أنها لا تحلم، وأن جسدًا كبيرًا له رائحة التبغ ملاصق لجسدها، كانت عيناها مغمضتين، لكنها استطاعت أن ترى ملامح الوجه، وتدرك أنها تشبه ملامح أبيها أو أخيها أو عمها أو خالها أو ابن خالها أو أي رجل آخر.
وكانت حميدة تستيقظ كل صباح ككل الأطفال ناسية أحلامها، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفور، تجري إلى أمها، وتشدو بصرخات الأطفال السعيدة حين يستقبلون اليوم الجديد بجسم نام حتى شبع، ومعدة خوت حتى تفتحت شهيتها لكل شيء، وإن كان قطعة خبز مقدد تكسر الأسنان اللبنية، أو شفطة لبن من ضرع، أو قطعة مش من قاع الزلعة.
ذلك الصباح استيقظت حميدة ككل صباح، لكن الحلم لم يُنْسَ كالأحلام السابقة، وأصابع غليظة تركت آثارًا حمراء وزرقاء على ذراعيها وساقيها، وضربات العصا لا تزال تؤلمها بين فخذيها، ورائحة التبغ لا تزال عالقة بجلدها.
ظنت أمها أنها مريضة بالحمى، فربطت رأسها بمنديل وتركتها راقدة فوق الحصيرة طول اليوم، ونامت حميدة النهار والليل، واستيقظت في اليوم التالي، وظنت أنها نسيت الحلم، وأنه ضاع في الزمن وتبخر في الهواء، كأنما لم يكن، فقفزت من فوق الحصيرة قفزتها المعتادة، فيما عدا ثقل خفيف في ساقيها سرعان ما راح حين ارتدت المريلة وجرت مع الأطفال إلى المدرسة.
كنت أستطيع دائمًا أن أميز حميدة من بين الأطفال، فالمريلة من الدمور، ولونها سمني فاتح، عليها بقعة من الخلف كانت حمراء من أيام، حين تسربت نقطة دم من سروالها الصغير إلى المريلة وهي جالسة في الفصل، أمها كانت تنبهها دائمًا لتحتاط للأمر، وأن تضع الفوطة الدمور بعناية بين فخذيها، فهي لم تعد طفلة صغيرة، وكثيرًا ما سمعت أمها تقول: «في مثل سنك تزوجت ولم يكن ثدياي قد ظهرا بعد.»
خجلٌ كالعرق كان يُنَدِّي جبهتها المستقيمة الصغيرة حين تستدير وترى البقعة فوق المريلة، فتجري على أطراف أصابعها وتخلع المريلة وترتدي الجلباب الطويل، وتجلس إلى الطشت، وتغسل مريلتها الوحيدة، ثم تنشرها على الحبل في الشمس لتجف قبل اليوم التالي.
وذات يوم أصبحت المريلة ضيقة، بصعوبة أدخلت فيها جسمها، وبالذات من الأمام، عند بطنها، واستقرت عينا أمها على بطنها بنظرة غريبة لم ترها من قبل، ومخيفة إلى حدِّ أن رعدة خفيفة سرت في جسدها الصغير، والتفَّت أصابع أمها الكبيرة حول ذراعها النحيل وصاحت: اخلعي المريلة.
خلعتها وارتدت الجلباب، وجلست في الشمس بجوار الحائط، كانت أمها تناديها لتساعدها في العجين أو الخبز أو الطبخ أو كنس الدار، أو كان أبوها أو خالها أو عمها يرسلها إلى الدكان لتشتري دخانًا، أو كانت خالتها أو عمتها تناولها طفلها الرضيع لتحمله عنها حتى تعود من الحقل، أو جارتها كانت تناديها من فوق السطح لتملأ لها الجرة من البحر، أو أخوها أو خالها كان يلقي إليها بجوربه وسرواله القذرين لتغسلهما، وعند الغروب يلتفُّ حولها البنات والصبيان من أولاد الجيران فينزلون إلى الشارع ويلعبون «المَسَّاكة» أو «عسكر وحرامية» أو «الثعلب فات فات» أو «حبة ملح»، أو «حميدة ولدت ولد».
أيُّ شيء من ذلك لم يحدث في ذلك اليوم، وتركوها وحدها جالسة في الشمس، ولم تجد بدًّا من التحديق في قرص الشمس طويلًا، وحينما غابت الشمس ظلت جالسة مكانها في الظلام، جسدها الصغير يرتعد، شيء ما تحسه ولا تعرفه، شيء ما رهيب يحدث من حولها، في الظلام، وفي الصمت، وفي العيون، كل العيون، حتى الدجاج الذي كان يلتفُّ حولها، لم يقترب منها، والقط الأسود الكبير الذي كان يتمسح بها أصبح واقفًا بعيدًا عنها، يرمقها بنظرة وجلة من عينيه الواسعتين، وبانتصابة من أذنيه الطويلتين المدببتين.
سقط رأسها فوق ركبتيها وهي جالسة، وربما غفت لحظة أو عدة ساعات، أفاقت بعدها على أصابع طويلة تمسك ذراعها، انتفضت مذعورة، وكادت تصرخ، لولا أن يد أمها أصبحت فوق فمها، وصوتها الخافت أصبح كالفحيح: تعالي ورائي على أطراف أصابعك.
الليل مُظلم بغير القمر، والشفق لم يطلع بعد، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار قبل أذان الفجر، وقدما أمها الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، توشك أن تجري، وحميدة خلفها تكاد تلمس طرف ثوبها.
أرادت أن تفتح فمها وتسأل أمها عن السبب، لكن أمها توقفت عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كانت تختفي حميدة حين يلعبون المَسَّاكة، ناولتها أمها طرحة سوداء.
وضعت حميدة الطرحة على رأسها فانسدلت فوق عنقها وكتفيها وصدرها وبطنها وظهرها وأصبحت تشبه نساء القرية، فتحت فمها لتسأل، لكن صفارة القطار جعلت جسد أمها يرتعد رعدة عنيفة هزَّت الأرض من تحتها، وبعنف أيضًا اندفعت قبضتها الكبيرة في ظهر حميدة، وقذفت بها ناحية القطار، وصوتها الهامس المنخفض كالفحيح: القطار لا ينتظر أحدًا، اهربي!
اندفعت حميدة نحو القطار، لكنها استدارت لحظة قبل أن تركب، ورأت أمها واقفة في مكانها، متسمِّرة في الأرض، ثابتة لا تتحرك، والطرحة السوداء فوق رأسها وكتفيها وصدرها ثابتة أيضًا، فلم يكن صدرها في تلك اللحظة يتحرك، ولا شيء فيها يتحرك، ورموشها ثابتة متجمدة، كتمثال حقيقي منحوت من الحجر.
كان القطار يدخل المحطة برأسه الأسود الضخم ينبعث منه الدخان، وبعينه الوحيدة الكبيرة المضيئة بنور قوي كشف المحطة، وكشف حميدة وهي واقفة، فاختبأت وراء عمود، وقف القطار بعد أن اصطدمت عرباته بعضها بالبعض، واصطكت عجلاته الحديدية بالقضبان الحديدية محدثة صوتًا عاليًا فاضحًا، خُيِّلَ إليها أنه أيقظ كل أهل القرية، فاندفعت نحو القطار تخفي وجهها بذيل طرحتها.
مدَّت قدمها اليمنى الصغيرة لتضعها فوق سلم القطار، لكن السلم كان بعيدًا عن الرصيف، ولم تكن قد ركبت قطارًا من قبل، فلم تصل قدمها إلى السلم.
عادت بقدمها إلى الرصيف، وتلفَّتت حولها في ذعر، خشيت أن يتحرك القطار ولا تركب، رأت بعض الرجال والنسوة يركبون العربة الأمامية فأسرعت ووقفت خلفهم، راقبتهم وهم يصعدون السلم واحدًا وراء الآخر، كل واحد منهم كان قبل أن يضع قدمه على السلم يمسك بيده اليمنى مقبضًا حديديًّا على جانب الباب لم تره من قبل، مدَّت حميدة ذراعها وأمسكت المقبض بكل قوتها ثم شدت جسمها فأصبحت قدمها فوق السلم، وصعدت إلى الداخل.
جلست على أولِ مقعد قابلها، ورأت جوارها نافذة فأطلت منها، كان القطار قد تحرك ببطء، وتصلب رأسها خارج النافذة وهي ترى أمها لا تزال واقفة في مكانها، ثابتة لا تتحرك، وطرحتها ورأسها وصدرها ورموشها وكل شيء فيها جامد ثابت.
انفجرت شفتاها لتناديها، لكنها تذكرت أنها لم تعد أمها، وإنما هو تمثال الفلاحة القائم عند مدخل القرية منذ سنين لا تعرف عددها، فقد رأته منذ ولدت، ولا بد أنه كان هناك دائمًا قبل أن تولد.
كان رأسها لا يزال خارج النافذة، لكن أنفاسها أصبحت تدخل وتخرج، تلهث وهي جالسة في مكانها، ولأول مرة تعرف ملمس دموعها فوق بشرة وجهها، ومذاقها في فمها، لكنها لم تتحرك ولم تمدَّ يدها بطرف جلبابها أو كمِّها لتمسحها، تركتها تنساب وتجري وتدخل فمها، ثم لعقتها بلسانها دون أن تتقلص في وجهها عضلة واحدة، ودون أن يخرج من فمها صوت، ودون أن يتحرك جفناها أو تهتز رموشها، وكل شيء أصبح أسود، وذاب القطار في السواد وامتزج بالليل، كالقطرة تذوب في جوف البحر.
•••
في تلك اللحظة كان حميدو لا يزال راقدًا فوق الحصيرة، كان نائمًا وعيناه مغمضتان، لكنه كان يرى عيني أبيه في الضوء الخافت، واقفًا بقامته الطويلة كجذع شجرة كافور ضربت بجذورها في بطن الأرض.
سَرت في جسده الصغير برودة ثقيلة، خدَّرت ساقيه وذراعيه، وبذلك الثقل الذي يصيب الأطراف أثناء الحلم المزعج، وظل راقدًا في مكانه لا يتحرك، شاخصًا نحو ذلك الشبح الطويل الواقف الثابت بغير حراك، وأدرك أن شيئًا خطيرًا قد حدث أو سيحدث، كتم أنفاسه واختفى تمامًا تحت اللحاف المسود القذر، أصابعه الصغيرة تشد الغطاء حول رأسه، وأذنه اليمنى فوق الوسادة الصلبة ترتج من تحته بدقات قلبه، تنبعث من رأسه وليس من صدره.
توقع في كل لحظة أن تمتدَّ الأصابع الطويلة وتشد الغطاء عن رأسه، وتستقر العينان الواسعتان في عينيه تصب فيهما الشيء الخطير، لكن اللحاف ظل مشدودًا حول رأسه، ودقات قلبه مسموعة في الصمت، وحركة صدره مرئية، كرءوس الأشجار في ليل ساكن بغير نسمة هواء واحدة، وبغير قمر، والظلمة كاللحاف الأسود تلف السماء والأرض في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار، قبل أن تبدأ خيوط الفجر ويزحف الظلام صاعدًا ببطء، كحوت ضخم يسبح في محيط لا نهائي، ترقد في قاعه بيوت القرية الطينية الصغيرة المتلاصقة ككوم من السباخ الأسود.
وحين فتح حميدو عينيه كان ضوء النهار يملأ الغرفة، وأيقن أن ما رآه لم يكن إلا حلمًا، فقفز من فوق الحصيرة وجرى إلى الشارع، كان أصدقاؤه من أطفال الجيران يلعبون كعادتهم في الحارة الضيقة الممتدة أمام البيوت، يمسك كل واحد منهم بذيل جلباب الآخر ويصنعون قطارًا يصفق ويرقص، ثم يتفككون ويلعبون المَسَّاكة، يختبئون وراء أكوام السباخ، وفي الزرائب، وخلف زير الماء، وداخل فتحة الفرن.
رأى حميدة تجري وسط الأطفال، وتختفي وراء كوم السباخ، جلست القرفصاء حتى لا يظهر رأسها من خلف الكوم، فظهر فخذاها البيضاوان يتوسطهما شريط رفيع من الدمور الأسمر هو سروالها، خبأت رأسها الصغير بشعرها الأسود الناعم في التراب حتى لا يراها أحد، لكن حميدو كان يراها، وكان هو «المَسَّاكة» هذه المرة، فانطلق يجري نحوها مثيرًا بقدميه الحافيتين زوبعة من التراب.
ثبَّت عينيه على كوم السباخ، متظاهرًا بأنه لا يراها، وسار على أطراف أصابعه بخطوات بطيئة حذرة، واستدار ليختفي وراء الكوم، ثم وثب وثبة واحدة كالفهد، وأمسكها من شعرها بيده اليمنى، أما يده اليسرى فقد امتدت بسرعة البرق واستقرت فوق فخذها، وراحت أصابعها الصغيرة الصلبة تشد سروالها، لكن حميدة رفسته بقدمها، ونطحته برأسها، كما تفعل في كل مرة حين يمسكها المَسَّاكة، واستطاعت أن تتخلص من قبضته وجرت لتختبئ وراء كوم آخر.
لم تكن حميدة وحدها تلعب المَسَّاكة، كل البنات والأولاد يلعبونها، وحين تجري البنات ليختبئن ويجلسن القرفصاء تتعرَّى أفخاذهن الصغيرة البيضاء، وتظهر سراويلهن الرخيصة القذرة كالشريط الرفيع الأسود بين الفخذين، يحاول المَسَّاكة أن يمسكه ويشده إلى أسفل، لكن البنت تعرف كيف ترفسه بقدمها، أو بقدميها الاثنتين، وهو أيضًا لا يستسلم، وإنما يقاومها بقدمه أيضًا، أو بقدميه الاثنتين، معركة صغيرة غير مرئية؛ فكوم السباخ يخبئ جسديهما الصغيرين، لكن الأقدام الأربع تطلُّ من وراء الكوم، صغيرة وناعمة لا تعرف قدم البنت من قدم الولد؛ لأن الأقدام في سن الطفولة كالوجوه، لا جنس لها، خاصة إذا كانت أقدامًا حافية، فالحذاء وحده هو الذي يحدد الجنس.
انكفأ على ظهره حين رفسته بقدمها، لكنه نهض بسرعة، وكانت هي أيضًا قد نهضت، ورأى وجهها، لم تكن حميدة، تلفَّت حوله، في وجوه البنات والأولاد، جرى إلى البيت يبحث عنها في الزريبة، أو في فتحة الفرن، أو خلف زير الماء، أو تحت الحصيرة، خرج من البيت جريًا يبحث عنها وراء أكوام السباخ، خلف جذع الشجرة، فوق النخلة، في بطن جسر الترعة، أدبر النهار وهبط الليل ولم يعثر لها على الأثر.
وقف في الظلام على جسر الترعة، ظله الوحيد منعكس على صفحة المياه الراكدة العكرة. ظِلُّ طفل لا يزال طفلًا، لكن وجهه لم يعد كوجوه الأطفال الناعمة الملساء لا تعرف الذكر فيها من الأنثى، لو كانت صفحة المياه نقية كالماء العذب ربما أصبحت مرآة صافية وانعكس وجهه على صفحتها بطريقة أفضل، لكن الترعة كانت كجميع الترع، يختلط طينها بمائها، ويتعرج سطحها البطيء الحركة بثبات وتجاعيد كبشرة الوجه العجوز الموغل في الزمن.
أما عيناه فقد أصبحتا أيضًا واسعتين، عجوزين، شاخصتين في الظلام، ثابتتين، الجفنان لا يتحركان، والرموش تجمدت، ودمعة كبيرة تجمدت فوق السطح.
لأول مرة تتجمد الدمعة فوق السطح، وكانت من قبل كدموع الأطفال لا تَكُف عن الحركة المستمرة إلى حد الرعشة كرعشة النجم المتلألئ، ويخلط المرء في الطفولة بين لمعة الدموع ولمعة الابتسام.
لكن أحدًا لم يكن يخطئ في تلك اللحظة. إنه حميدو الآن الواقف بجسده على جسر الترعة. إنه ليس طفلًا، وهذه الدمعة الكبيرة ليست دمعة طفل، وإنما هي دمعة حقيقية، لها ملمس مادي فوق الوجه، ولها طعم الملح في الفم.
ملح حقيقي، فالدموع ككل سوائل الجسم تحتوي على الملح، وحميدو لا يعرف كيف يعيش بغير حميدة؛ فهي ليست أختًا عادية، ولكنها توأمه، والتوائم نوعان؛ نوع ينشأ عن الجنينين يعيشان في رحم واحدة، ونوع آخر ينشأ ذكر وأنثى داخل جنين واحد.
وكان حميدو وحميدة جنينًا واحدًا، ينمو داخل رحم واحدة، منذ البداية كانا شيئًا واحدًا، أو خلية واحدة، ثم أصبح كل شيء ينقسم اثنين، والملامح انقسمت اثنين، أدق الملامح انقسمت اثنين، حتى العضلة الضئيلة الصغيرة تحت كل عين انقسمت، ولم يعد ممكنًا لأحد أن يعرف حميدو من حميدة، حتى أمهما كانت تخلط بينهما.
لكن حميدو كان يعرف أنه شيء آخر غير حميدة، وأن جسده منذ الولادة انفصل عن جسدها، غير أن الشبه كان شديدًا، والخلط بينهما شديدًا إلى حد أن الأمر كان في بعض الأحيان يختلط عليه هو أيضًا فيظن أنه حميدة، ويختفي وراء جدار، ويرفع جلبابه عن فخذيه وينظر بينهما، وحينما تسقط عيناه على الشق الرفيع الصغير يدرك أنه حميدة، وتسقط فوقه العصا تمسكها اليد الكبيرة فيشد الجلباب عليه، ويبكي بدموع حقيقية، تختفي بسرعة كدموع الأطفال، ويرى العصا ملقاة على الأرض، فيجري إليها ويأخذها، ويدسها في جيب جلبابه الطويل، ومن حين إلى حين تمتد يده إلى جيبه يتحسسها، وتسري صلابتها في أصابعه وتنتقل الصلابة إلى ذراعه وكتفه وعنقه، ويشد عضلات عنقه فإذا برأسه ينثني إلى الوراء في حركة تشبه حركة أبيه، ويتكلم من حلقه بصوت غليظ يقلد به صوت أبيه.
وحينما تسمع حميدة صوته الغليظ تدرك أن العصا معه. لم تكن ترى العصا بطبيعة الحال لكنها كانت تعرف أنه يخبِّئها تحت جلبابه، في مكان ما تحت الباب. وتجري لتهرب منه، فيجري وراءها، ويظن من يراهما أنهما يلعبان، لكن حميدو لم يكن طفلًا، وفي جيب جلبابه شيء يخبِّئه، شيء صلب يتدلى بحذاء فخذه كالعضو الغريب.
وحينما ترفع حميدة عينيها إليه وترى وجهه لا تعرف أنه حميدو وتتسمرُّ في مكانها من شدة الدهشة أو الذعر، لا تتحرك من مكانها، تتجمد كتمثال يضع حميدو كفه فوق سطحه، ويلمس الجفنين الحجريين ويضع أصبعه بين الجفن والعين، كأصبع كل الأطفال حين يمسكون رأس دمية كبيرة الحجم لها شعر ولها رموش تكاد أن تكون حقيقية.
ولم يكن حميدو قد أمسك في حياته قط برأس دمية كبيرة أو صغيرة، فالأطفال في الريف لا يلعبون بالدمى، ولا يلعبون بالعرائس، ولا يلعبون بالقطارات أو مراكب الورق أو الكرة أو أي شيء آخر. إنهم لا يعرفون اللعب، فاللعب للأطفال، وهم ليسوا أطفالًا. إنهم يولدون كبارًا كيرقات الذباب ما إن تعرف ملمس الأرض حتى تطير، أو كدود المش تنفصل الدودة الجديدة عن الدودة الأم فلا تكاد تفرق بين الدود الجديد والدود القديم.
ورأى حميدو وجه حميدة مقبلًا من بعيد على جسر الترعة، وخفق قلبه بفرحة الأطفال القديمة، لكنها اقتربت منه، وعرف طرحة أمه السوداء تلف الرأس وتنسدل فوق الكتفين والصدر والبطن، جرى إليها ووضع رأسه على بطنها. لم يكن رأسه وهو واقف إلى جوار أمه يرتفع لأكثر من خصرها، امتلأ أنفه برائحة أمه المميزة تمتزج برائحة خبيز الفرن وتراب الحقل والجميز، كان يحب الجميز ويجري نحو أمه حين تعود من الحقل تلف الجميز في طرحتها، ثم تجلس على الأرض إلى جواره، وتناوله الجميز واحدة واحدة بعد أن تنفخ عنها التراب.
دفعته أمه بيدها، لكنه ظل ملتصقًا بها، متشبثًا بجسمها، واستطاع أن يضع رأسه تحت ثديها الأيسر، في هذا المكان بالتحديد كان يحب أن يضع رأسه حين ينام إلى جوارها كل ليلة، كانت تنام بعيدًا عنه، في الطرف الآخر من الحصيرة، لكنه كان يصحو في منتصف الليل، وحينما لا يراها إلى جواره يزحف إليها، ويدفن رأسه تحت ثديها.
لم تكن تبعده عنها دائمًا، وتمتد ذراعها وتلتفان حوله وتضغط عليه بقوة، بكل قوتها إلى حد أنها تؤلمه، ويسري في جسده إحساس غامض بأنها ليست أمه، وليست خالته، وليست عمته، وليست أية واحدة من قريباته، وإنما هي غريبة عنه، وجسدها غريب عن جسده، غرابة تجعله يقشعر، والقشعريرة تسري من السطح إلى العمق، ترجُّ جسده كرعدة الحمى.
ولفَّ ذراعيه حولها من شدة الرعدة، لكنه أحس قبضة يدها الكبيرة القوية كقبضة أبيه تدفعه بعيدًا وكاد يسقط في حضن الجسر، ورفع وجهه إليها، ورأى عيني أبيه الواسعتين العجوزين يجري فوق بياضهما الكبير شعيرات دموية حمراء، اشتدت الرعدة وكاد يصرخ من الفزع، لولا أن يد أبيه الكبيرة أصبحت فوق فمه، وصوته الغليظ أصبح كالفحيح: تعالَ ورائي.
الليل مظلم بغير قمر، والشفق لم يطلع بعدُ، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول خيوط النهار قبل أذان الفجر، وقدما أبيه الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، يوشك أن يجري، وحميدو خلفه، يكاد يلمس ذيل ثوبه.
أراد أن يفتح فمه ويسأل أباه، لكن أباه توقف عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كان يختفي حميدو حين يلعبون «المَسَّاكة»، ناوله أبوه شيئًا طويلًا، صلبًا وحادًّا، لمع في الظلام كالسكين.
دسَّ حميدو السكين في جلبابه فسقط في قاع جيبه وتدلَّى بحذاء فخذه، أحس طرفه المدبب الحاد فوق لحمه فتقلصت عضلات فخذيه وساقيه وقدميه، وتسمَّر في مكانه، لكن صفارة القطار الحادة جعلت الأرض تهتز تحته، فثبَّت قدميه في الأرض يقاوم أي حركة كجواد جامح، لكن يد أبيه الكبيرة دفعته في ظهره بقبضتها القوية، وصوته الغليظ المنخفض كالفحيح: العار لا يغسله إلا الدم، اذهب وراءها!
واندفع حميدو نحو القطار، لكنه استدار لحظة قبل أن يركب، ورأى أباه واقفًا في مكانه، متسمرًّا في الأرض، ثابتًا لا يتحرك، والجفنان أيضًا ثابتان، والشعيرات الدموية فوق البياض تجمدت كخيوط من الدم رُسمت باليد فوق لوحة حقيقية.
•••
في تلك اللحظة كانت حميدة تضع قدمها فوق سلم القطار لتهبط منه، وكأنما سقطت في بحر، بحر هائج، الأمواج ليست ماءً ولكنها بشر. رجال ونساء وأطفال يرتدون الأحذية الجلدية السميكة، وعربات كالقطارات تجري صفوفًا فوق شوارع لامعة بغير تراب، تتفرع وتتشابك ثم تتفرع بغير نهاية كشجرة رأسها في السماء وجذرها في بطن الأرض، والبيوت عالية شاهقة متراصة في كتلة واحدة ضخمة تحجب السماء، فلا ترى فيها العين شبرًا واحدًا، والضجيج والأصوات والأبواق تصم الآذان، فلا تعود حميدة تسمع شيئًا، لكن قدميها الحافيتين كانتا تنتقلان وحدهما فوق الأسفلت، القدم ومن خلفها القدم الأخرى، تلك الحركة الطبيعية، حركة المشي التي يتعلمها الإنسان منذ الصغر، وكان من الممكن أن تستمر على هذا النحو دون توقف، فهي لا تعرف طريقها، ولا تعرف أين يبدأ وإلى أين تنتهي، لكن حذاءً جلديًّا سميكًا داس على أصابع قدمها اليسرى وكاد يفرمها، فترنحت لحظة، فإذا بعربة ضخمة تكاد تدهمها، وصرخت حميدة، انفتح فمها عن آخره وخرج منه صوتها المكتوم في صرخة حادة طويلة، طول صرختين أو ثلاث صرخات، أو عشر، أو مائة، أو ألف صرخة متتابعة متعاقبة متصلة في صرخة واحدة طويلة.
ابتلع الضجيج الصاخب صرختها كما تبتلع أمواج البحر قطرة أو قشة أو فراشة أو عصفورًا وليدًا لا يطير، لم يسمع صوتها أحد، وظلت الدنيا كما كانت تهدر كالشلال، تفتِّت مياهه الساحقة أجساد التماسيح وأشلاء السفن، وتذيبها، وتظل مياهه هي مياهه، بيضاء كما كانت.
سارت حميدة تعرج بقدمها الجريحة، وجلست في ركن بجوار سور بعيد عن العربات والناس، أسندت رأسها إلى السور وحملقت بعينيها أمامها، كل شيء من حولها يدور في غموض، يلفُّه الضباب، كالحلم أو الكابوس، الذي ستفيق منه بعد قليل، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفورة، اتكأت بيدها لتقفز، لكن كفَّها لمس بطنها، فانقشعت فجأة عن عينيها غمامة، ولأول مرة يصبح كل شيء أمامها قابلًا للفهم، ليس ذلك الفهم المدرك لحقائق جديدة، ولكنه الفهم الغريزي المبهم الذي ينبعث من خلايا الجسد المرهقة في لحظات الراحة أو الاسترخاء الشديد.
نامت في مكانها ثم صَحَتْ جائعة، لمحت إلى جوارها مخبزًا، رُصَّت أمامه أرغفة الخبز صفوفًا صفوفًا، مدت ذراعها النحيلة وأمسكت بأصابعها الصغيرة رغيفًا، قربته بسرعة إلى فمها وكادت تقضمه بأسنانها، لكن يدًا كبيرة لها أصابع طويلة التفَّت حول ذراعها.
شهقت … ارتفع صدرها بالشهقة فظهر ثدياها الصغيران من تحت الجلباب الواسع كزيتونتين، وبرز بطنها المنتفخ كبالونة الأطفال، والطرحة السوداء لا تزال تغطي رأسها وشعرها وتنسدل على كتفيها حتى أسفل ظهرها قبل ردفيها الصغيرين بقليل.
رفعت عينيها المذعورتين ورأت أمامها عينين واسعتين تحملقان فيها، شدَّت طرحتها وأخفت بها نصف وجهها كما تفعل نساء قريتها، ظهرت عينها الوحيدة واسعة سوداء فيها نظرة مشدوهة لا تزال بها لمعة طفولة ساذجة، لمعة عين كانت مغمضة، ففتحت لأول مرة على عالم بغير حدود، وصنع الذعر حولها عضلة مشدودة بدت كالدائرة المفتوحة أو كعلامة استفهام مبتورة الذيل، والدموع الجافة خلعت فوقها طبقة كالسحابة الخفيفة، يزحف نحوها من زاوية الأنف إحساس جديد بأنها أنثى وليست ذكرًا، أنوثة لم تكتمل بعدُ، ولم يعرِّفها أحد بنفسها، ولكنها هي التي اكتشفت نفسها بنفسها منذ لحظات، فإذا بها فجة طازجة لا يزال يعلوها الندى.
تملَّصت من اليد الكبيرة واستطاعت أن تفلت، وانطلقت تجري، جرى وراءها، دخلت في شارع واختبأت وراء باب من الأبواب، أطلت برأسها فلم تجد أحدًا، خُيِّلَ إليها أنها نجت، لكن الذراع الطويلة امتدت من الخلف وأمسكتها من رقبتها، وصوت خشن غليظ دب في أذنها: قبضت عليك يا لصة! أمامي إلى القسم!
استسلمت، تركت ذراعها النحيلة البيضاء في قبضته، قبضة يد غليظة كبيرة، لها خمسة أصابع، مفاصلها بارزة وعظامها مقوسة، والعروق من تحت الجلد نافرة، وتحت الأظافر السميكة طبقة طينية سوداء، زحفت عيناها فوق ذراعه الطويلة ورأت كتفه، كتفان عريضتان، فوق كل كتف صف أفقي من خمسة أزرار نحاسية، يفصل بينهما عنق غليظ، التفَّت حوله ياقة عالية، اسودَّت من الداخل بسبب التراب الذائب في العرق، تدور الياقة حول عنقه بإحكام، ثم تهبط من الأمام فوق صدره في صف رأسي من عشرة أزرار نحاسية، كانت حميدة قد تعلَّمت شيئًا من الحساب في المدرسة الإلزامية، فأخذت تعد الأزرار، خمسة فوق كل كتف، أي عشرة فوق الكتفين، وعشرة فوق الصدر، فيكون المجموع عشرين زرًّا.
النهار كان قد انتصف، والشمس أصبحت متوهجة، ينعكس قرصها الأحمر فوق الأزرار النحاسية المستديرة، فتبدو كعشرين قرصًا شمسيًّا تدمع العين لمجرد النظر إليها، ولا تقوى على الحملقة فيها فتُطرق إلى الأرض، لكن الأرض تلتهب تحت قدميها الحافيتين بسخونة لم تعهدها في الأرض من قبل، وحذاؤه ذو الرقبة الطويلة يدبُّ بصوت معدني غريب، يشبه احتكاك الحديد بالحديد، وخطوته واسعة، وقدمه حين ترتكز على الأسفلت تصبح ثابتة، والقدمان ترتفعان إلى ساقين طويلتين داخل بنطلون من قماش سميك له جيب طويل كالسرداب تختفي فيه آلة صلبة حادة، وتتدلى بحذاء فخذه.
دخلا من الشارع الواسع إلى شارع ضيق، الأصابع الطويلة لا تزال تلتفُّ حول ذراعها، لكنها ليست خمسة أصابع كما كانت، أصبحت أربعة أصابع، أما الأصبع الخامس فقد انفصل عن بقية الأصابع وصعد وحده إلى أعلى، فوق الذراع الناعمة، حَذِرًا متلصصًا، ثم دفن رأسه الأسود الغليظ تحت الإبط الأملس الطفولي الذي لم ينبت فيه الشعر بعد.
شدَّت ذراعها، لكن الأصابع الأربع تقلصت على لحمها الطري، والأصبع الخامس امتد من تحت الإبط واصلًا ببوزه الأسود المدبب حتى الارتفاعة الناعمة لبرعم الثدي، يضغط عليه ضغطات حذرة مرتعشة متقطعة، تزداد شدة في ثنية شارع، أو خلف جدار، وتخفُّ أو تنعدم تمامًا في وسط الشارع، وأحيانًا يتراجع الأصبع الخامس سريعًا ويلتصق بإخوته الأربعة حين يمران أمام حشد من الناس.
ملأت أنفها فجأة رائحة نتنة، ووجدت نفسها في زقاق ضيق مظلم، أمام باب خشبي صغير، رأته يتوقف، أخرج من جيبه مفتاحًا، دفعها أمامه إلى الداخل ثم أغلق الباب.
لم تر شيئًا أول الأمر؛ فالظلام دامس، أشعل بعود ثقاب مصباح جاز صغير فظهرت على الفور أرض بلاط ضيقة، في أحد أركانها بساط يشبه الحصيرة ونافذة حديدية صغيرة فوقها قلة ماء، جدران الحجرة تبدو في الضوء الخافت رمادية يعلوها سواد كالهباب الذي يحدث من موقد الجاز، على أحد الجدران مسمار عليه بدلة من قماش سميك يشع من فوقه صدرها وكتفيها العريضتين المحشوتين أزرار نحاسية صفراء، لمعت في الظلام كعيون مفتوحة مريضة بالتهاب الكبد الفيروسي، على الأرض استقر الحذاء الضخم برقبته الطويلة كحيوان بغير رأس، وإلى جواره سروال أبيض اصفرَّ ظهره واسودَّ بطنه، تفوح منه رائحة بول قديم.
رفعت رأسها من فوق البلاط فرأته واقفًا عاريًا، كتفاه العريضتان أصبحتا نحيلتين ضامرتين عظامهما بارزة، وساقاه أصبحتا نحيلتين ضامرتين عظامهما بارزة، وساقاه أصبحتا رفيعتين معوجَّتين، وقدماه الضخمتان السميكتان المرتفعتان عن الأرض أصبحتا لا يفصلهما عن البلاط شيء، والآلة الحادة الصلبة التي كانت مختفية في جيبه أصبحت ظاهرة.
شهقت بدهشة مليئة بالذعر، قاومت الذعر برد فعل غريزي، لكنه طرحها على الأرض، وشد بأصبعه الغليظ جلبابها من فتحة العنق فانشطر الثوب البالي شطرين، ولم يكن هناك ملابس داخلية تحت الجلباب.
قالت بصوت ضعيف مشروخ: أنت مين؟
رد بصوت آمر غليظ: أنا الحكومة.
قالت: ربنا يطول عمرك سيبني أروح.
رد بصوت آمر غليظ: تروحي فين يا بت، أنتي محكوم عليكي.
كل شيء أصبح يتحرك بسرعة فائقة، بسرعة الأنفاس التي تلهث، وبسرعة العضلات التي تنقبض وتنبسط، سرعة غير عادية لا تحدث إلا في الأحلام، لكن الحلم لم يختلط هذه المرة، لم يكن هناك بائع يضرب بالعصا، وإنما هو ذكر له شارب خشن يحتك بوجهها، وتسد رائحة التبغ أنفها، وشعر صدره غزير، تلاحمت شعراته الطويلة والتصقت فوق الجلد بعرق سميك لزج.
وكل شيء توقف فجأة، لحظة سكون تشبه لحظة الموت، رفعت رأسها من فوق البلاط وتلفتت حولها، رأته راقدًا على ظهره، عيناه مغمضتان ولا يتحرك، ظنت أنه مات، لكن شخيرًا خافتًا بدأ ينبعث من فمه المفتوح، ما لبث أن ارتفع وأصبح كخرير ساقية عتيقة يجرها ثور منهك مريض، رفعت جسمها بهدوء من فوق الأرض، وشدَّت طرفي جلبابها المشطور فوق صدرها وبطنها، سارت على أطراف أصابعها إلى الباب، حركت رأسها بهدوء ونظرت خلفها، رأت العيون العشرين الصفراء مفتوحة تحملق فيها، فتحت الباب بسرعة.
رأت الشارع الواسع أمامها، فانطلقت فيه بكل قوتها تجري هاربة بغير توقف.
•••
في تلك اللحظة، كان حميدو قد هبط من القطار، وأصبح ظهره ناحية الجنوب ووجهه ناحية الشمال، وعيناه أمامه تنظران، تحملقان في الوجوه المحتشدة خارج محطة باب الحديد، المحطة الرئيسية القديمة لمدينة القاهرة، وقدماه الحافيتان تنتقلان فوق الأرض الأسفلت، وجلبابه طويل واسع، تهتز من تحته السكين، وتتدلى بحذاء فخذه كطرف صناعي أو عضو مزروع.
ارتطم بوز السكين الحاد المدبب بلحم فخذه فاقشعر جسده، وسرت القشعريرة في عنقه ورأسه، ترنح، وكاد يسقط بين الأحذية الجلدية السميكة، لكنه شدَّ عضلات ساقيه وظل منتصبًا فوق قدميه الحافيتين، وعيناه تائهتان في الخضم الواسع المتلاطم، ترتفعان مع قمم العمارات الشاهقة، وتهبطان مع شعاع الشمس المنعكس على الأسفلت اللامع، وتدوران مع حركة الميدان المستدير، وفي مركز الدائرة تمثال حجري ضخم له رأس إنسان، التفَّ حوله صفوف من البشر، والأعلام، وصفوف من العربات، تلفُّ وتدور ثم تتفرع منتشرة في خطوط مستقيمة متعددة لا تلبث أن تتشابك وتصبَّ في ميدان آخر، ثم تتفرع، وتنقسم الفروع إلى فروع، تتفرع، وتتشابك، وتتفرع بغير نهاية.
أخفى عينيه بيديه، وأسند رأسه إلى عمود نور، غلبه النوم فنام وهو واقف على قدميه، فتح عينيه على صوت، تلفَّت حوله، رأى الشارع الواسع هادئًا خاليًا من الناس والعربات، غارقًا في ظلمة الليل، ثقب الظلمة بعينيه الحادتين، لمح شبحًا يجري من بعيد، قدماه حافيتان، والجلباب الواسع الطويل يرتفع فوق البطن ارتفاعة مرئية واضحة.
انفرجت شفتاه وتدافعت أنفاسه لاهثًا: حميدة، وانطلقت قدماه فوق الأسفلت، يده اليسرى مرفوعة أمامه تشق الظلمة، ويده اليمنى في جيبه تتحسس النصل الحاد الصلب، توقف الشبح في ركن مظلم، اقترب منه حميدو بخطوات بطيئة حذرة، أصبحت المسافة بينهما خطوة واحدة، سمع الصوت الخشن يهمس كالفحيح: «العار لا يغسله إلا الدم»، انتزع السلاح من جيبه وأخفاه خلف ظهره، كشف الركن المظلم فجأة ضوء كشاف متحرك، رأى وجه أمه من تحت الطرحة السوداء، صرخ، دوت صرخته في الليل فتوقف الضوء فوق وجهه، اقترب منه شخص لم يرَ عينيه في الظلام، لكن على كتفيه وفوق صدره رأى صفين من العيون المحملقة المستديرة تشع ضوءًا أصفر.
انفرجت شفتاه ليسأل، لكن كفًّا كبيرة غليظة سقطت فوق صدغه، تبعتها كفٌّ أخرى فوق الصدغ الآخر، رفع ذراعه ليقاوم الصفعات لكن خمسة أصابع التفَّت حول ذراعه، استعان بذراعه الثانية فارتفعت في الجو ذراع خشبية كالشومة سقطت فوق رأسه.
حينما فتح حميدو عينيه شعر بصداع شديد، تحسس رأسه وعثر بين الشعر على الجرح تغطيه قشرة من الدم الجاف، هرشها فسقطت على الأرض إلى جوار حذاء ضخم يرتفع إلى رقبة جلدية تحوطها ثنية بنطلون من قماش سميك، والساقان طويلتان ترتفعان إلى صدر مربع عريض رُشق عليه من الأمام وفوق الكتفين صفَّان من الأزرار الصفراء المستديرة ينعكس عليها ضوء مصباح خافت.
داس الحذاء الضخم على قشرة الدم وهرشها بوحشية، ثم دبَّ فوق الأرض فارتفع في الجو صوت غليظ خشن: ما اسمك؟
– حميدو.
مشت الموسى الحادة فوق جلدة رأسه فأصبحت صلعاء، وسقط شعر رأسه الغزير في جردل مع جلبابه الطويل الواسع، كانت الشمس مائلة في أول الصباح المبكر، فرأى ظل شخص طويل عريض الكتفين يتبعه فوق الأرض، توقف الظل، تحرك فتحرك، ضرب الأرض بقدمه فسمع صوتًا معدنيًّا غريبًا لم يعهده من قبل حين كان يضرب الأرض بقدمه الحافية، نظر إلى قدميه. رأى الحذاء السميك الضخم يرتفع في الرقبة الجلدية الطويلة والبنطلون من القماش السميك وداخل كل منهما ساقه الخفيفة النحيلة، والساقان ترتفعان إلى صدر عريض مربع مغلق بصف من الأزرار النحاسية، والكتفان عريضتان محشوتان بالقطن أو القش.
داس بحذائه على الأرض في خطوات بطيئة وجلة، داخل كل فردة حذاء ترقد قدمه النحيلة الصغيرة منكمشة، منضغطة تحت الجلد السميك، أصابعها رفيعة بيضاء، لا يجري فيها دم، ولا تسري فيها حركة، ميتة أو شبه ميتة، وحركتها داخل الحذاء معدومة، الحذاء هو الذي يحركها، يرفعها ويخفضها، وينقلها فوق الأرض خطوة خطوة، وفي كل خطوة يصطك حديد الكعب بالأسفلت محدثًا صوتًا معدنيًّا وبطيئًا كاصطكاك حافر عجل مريض مسوق إلى المذبح.
توقف، فتوقف الظل الأسود المرسوم بعناية فوق الأرض، رأسه حليق أملس انعكست عليه الشمس، والعينان ثقبان في الرأس ينفذ منهما الضوء، والعنق عضلاته مشدودة، وعضلات الظهر مشدودة، وجدار البطن مشدود من تحته معدة مشدودة ضامرة لم يدخلها إلا دخان أسود، ولعاب أسود، وكسرة خبز مقددة غمست في عسل أسود، مع قطعة من بصل، أو قطعة مخلل تلسع كالعلقم، يصلح بالعلقم طعم العسل الأسود، ثم يصلح طعم العلقم بالدخان الأسود، يشفطه بأنفه وفمه وبلعومه ليملأ به صدره، ويضيق به على معدته فيتجشأ كالذي شبع.
لسعه كرباج رفيع خلف عنقه فتحركت قدماه فوق الأرض، القدم اليمنى أولًا ثم القدم اليسرى، اصطكَّ الحديد بالأسفلت في دقات منتظمة كدقات الساعة أو ضربات القلب، كب، دب، كب، دب، شمال، يمين، شمال، يمين.
دوى الصوت القوي الخشن في الجو: قف.
اصطكت فردتا الحذاء بعضهما بالبعض، والتصقت ساقاه وفخذاه بعضلات منقبضة، امتدت يده اليمنى في جيبه واستقرت فوق آلة القتل الصلبة، تمتد صلابتها بحذاء فخذه وتنتهي برأس معدني مدبب ومثقوب.
صاح الصوت الخشن: انتباه!
التفَّت أصابع يده اليمنى حول آلة، أربعة أصابع فقط وانفصل الإبهام ليصبح وحده فوق الزناد، وإحدى عينيه صوبت إلى النقطة المحددة الثابتة في منتصف المسافة بين العينين المفتوحتين.
فتح فمه ولهث، لكن يدًا قوية ضربته على بطنه والصوت الخشن دب في أذنيه: أغلق فمك واكتم نفسك.
أغلق فمه وكتم نفسه.
صاح الصوت الخشن الآمر: العار لا يغسله إلا الدم!
وضغط بإبهامه على الزناد.
سمع دويًّا لم يسمعه من قبل، ورأى جسدًا يسقط على الأرض يجري من تحته سائل أحمر عرفه على الفور؛ إنه دم الشاة؛ فاليوم هو العيد، وهو لا يزال واقفًا يحملق في العينين المفتوحتين الساكنتين لا يرمش لهما جفن، ثابتتين بنظرة ميتة، اتسعت وامتلأت بالذعر، وانتقل الذعر إليه فارتجفت ساقاه النحيلتان تحت الجلباب الواسع، وجرى ليدفع رأسه في صدر أمه ويبكي.
ومسح دموعه في صدر أمه ثم رفع عينيه إليها، ورأى عيني أبيه تكسوهما الشعيرات الدموية، والأزرار النحاسية الصفراء فوق الصدر والكتفين كانت لها لمعة خاصة، والصوت الأجش كانت له خشونة آمرة مخيفة: أتبكي كالنسوان؟!
وعاد حميدو إلى مكانه من الصف، وقف منتصبًا تحت قرص الشمس، عيناه بلون ضوء الشمس حمراوان، سوادهما هرب تحت في الظل، في المكان الأمين الرطب، الجو في الخارج شديد الحرارة، الأسفلت ملتهب، أذابته السخونة الشديدة فأصبحت كعوب الأحذية تنغرز فيه كما تنغرز في الأرض الطينية.
توقف حميدو لحظة ليشد حذاءه، تخلَّف خطوة عن الصف، لسعة الكرباج على قفاه، قفز ليلحق بالصف لكنه انكفأ على وجهه وسقط على الأرض.
قبل لحظة السقوط كان حذاؤه قد انخلع، وكان الهواء الساخن قد اندفع في صدره على شكل كلمة منطوقة لها صوت أدرك أنه صوته حين ينطق، وأدرك أن جسده هو الذي سقط على الأرض وليس جسدًا آخر، وأن الدقات المنتظمة المسموعة في أذنه تنبعث من صدره، وشعر بزهو لقدرته على تمييز جسده عن جسد الشاة.
ظهر الزهو في عينيه، وكان وجهه لا يزال ناحية الأرض، فطارت البصقة من الفم الغليظ واستقرت فوق مؤخرة رأسه، تبعتها سبَّة مألوفة للأذن (اسم من أسماء الأعضاء التناسلية المؤنثة)، تبعتها لكمة قوية ببوز حذاء سميك في ظهره فوق الكلية مباشرة.
هذه اللكمة ببوز الحذاء لم تكن تحدث كل مرة بهذه القوة نفسها، وكنت أرى حميدو ينهض بعدها ويجري ويدخل الصف، لكن اليوم كان العيد، وسيده سيحضر الحفل بشخصه لا بمندوب، ومن الطبيعي أن أي خطأ لا يُغْتَفَر، وإن كان زلة قدم، لم تكن زلة القدم في ذلك اليوم مجرد زلة قدم، ولكنها تصبح شيئًا آخر أشد خطورة؛ لأن الصف يصبح مشوَّهًا، وحين يُشَوَّه صف تشوه الصفوف الأخرى بطبيعة الحال، وهذه كارثة.
واختلطت الأشياء أمام عينَيْ حميدو، لم يكن ذلك لقصور في قدرته على الملاحظة، بسبب ضيق الوقت أيضًا، فالوقت في مثل هذا اليوم الهام يصبح ضيِّقًا، ووقع الحياة يصبح سريعًا لاهثًا، فلا يمكن لإنسان أن يتنفس التنفس الطبيعي ولا بد أن يلهث الجميع.
ولهث حميدو كغيره من البشر فلمحته عين، دائمًا هناك عين تلمح، ترقب الأشياء، وتدسُّ أنفها بتطفل شهواني في حياة الغير أو موتهم، لا تترك الحيَّ يستمتع بحياته، ولا الميت يستمتع بموته. وضم حميدو ساقيه باستحياء (كان قد اكتسب قدرًا من الحياء)، وأفسح الطريق لموكب العربات، لكن الوقت كان ضيقًا إلى حد أن ساقه اليسرى لم تجد متسعًا من الوقت لتتحرك وظلت ممدودة في الطريق، حافية، أصابع القدم الخمسة منتصبة، تهتز بحركة مرئية بالعين المجردة.
توقف الموكب مشدوهًا أمام المشهد الذي لم يحدث من قبل ولا من بعد، لم تذكر كتب التاريخ حادثة من هذا القبيل، لكن ما يُكتب في التاريخ شيء والذي يحدث في الواقع شيء آخر، وما حدث في الواقع كان يستحق أن يدخل التاريخ لجسامته، لكن التاريخ بطبيعته لا يفتح بابه للحوادث الجسيمة، خاصة إذا كان بطلها حميدو.
لم يشعر حميدو ببطولته رغم الزحام الذي أصبح حوله، أعداد هائلة من البشر تجمعت في لحظة خاطفة، وامتلأت المساحة الخالية بين العمارات بالأجساد، وانسدت الأبواب والنوافذ بالرءوس، وترك الناس مكاتبهم ودواوينهم وأغلقوا حوانيتهم واصطفوا صفوفًا متلاصقة يستمتعون بالمشهد، لا أظن أن أحدًا تخلَّف، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، من الطبقة العليا أو من الطبقة الدنيا، فالكل يريد أن يستمتع، واللذة عامة، ومشروعة بشرط أن تكون في الخفاء.
وكان حميدو لا يزال في موقعه من الأرض، وعيناه مغمضتان بطبيعة الحال بسبب الموت، لكنه رأى (ورؤية الميت أشد حدة من رؤية الحي) رجالًا كثيرين من حوله، عرف أنهم رجال بسبب رءوسهم الحليقة، وخراطيمهم المطاطة، وأزرارهم النحاسية، وآلات القتل الصلبة المتدلية بحذاء أفخاذهم.
حاول أن يفتح فمه ليدافع عن نفسه، ليحكي قصته منذ ولدته أمه، لكن سيده كان حاضرًا، وفي حضور سيده يصبح الوقت ضيقًا، ولا يكون هناك متسع لأحد، والحكم بطبيعة الحال لا بد أن يصدر أولًا، ويوقع عليه بالعلم، وينفذ، ثم يتسع الوقت بعد ذلك لأي شيء آخر.
وصدر الحكم ضد حميدو فوق صفحة كاملة من صفحات دفتر الأحكام، وكان القانون يقضي بأن يقرأ حميدو المحضر قبل أن يوقع عليه بالعلم، ولم تكن الحروف واضحة بسبب رداءة الخط والسرعة في كتابة المحضر، وأصبح من الصعب على حميدو أن يفك الخط ولم يكن حميدو قد تعلم القراءة.
لكنه استطاع أن يلتقط كلمة أو كلمتين من كل سطر، ودهش لقدرة رجال البوليس على تحويله من جندي مجهول إلى بطل، وأن تكون بطولته خارقة للعادة إلى حد أن حركة أصابع قدمه الحافية في وجه سيده أصبحت حركة تمرد، ولم يعد حميدو قادرًا على كتمان زهوه، وراح يحرك أصابع قدمه حركة بطيئة مليئة بالكبرياء.
وارتفعت جميع الأكفِّ بالتصفيق، وكان سيده في الصف الأول، فارتفعت كفَّاه أيضًا بالتصفيق (حركة سيده كحركة التاريخ لا يمكن أن تتجاهل الجماهير)، وحينما تحركت ذراعاه إلى أعلى وهو يصفق، سقط فوق الأرض الساندويتش المحشو بلحم الشاة الذي كان يخفيه تحت إبطه، التقطه على الفور طفل كسيح كان يزحف بين الصفوف بأكياس اللب.
وابتسم حميدو رغم أنه لم يدرك شيئًا مما يدور حوله، فالمشهد لا إرادي ولا فضل له فيه، وغير متقن أيضًا، يفتقر إلى الخبرة، وتنقصه الثقافة الضرورية، والاطلاع على التراث، ولم يكن حميدو قد قرأ كتب التراث، وعلى الأخص قصص الحب العذري، حين كان الحب نظيفًا والإنسان شريفًا، لم يُخْلَق له بعدُ أعضاؤه التناسلية.
لكن آدم اقترف الخطيئة العظمى (كما كانت تحكي له أمه) فإذا بعضو قبيح المنظر ينمو بين فخذيه، انتقام إلهي عادل على حد قول أمه، وهنا خطر له سؤال لم يخطر له من قبل (ولعل سبب ذلك أن جسده كان ميتًا فأعطى نفسه حق التفكير في المقدسات)، وكان السؤال هو: كيف اقترف آدم الخطيئة قبل أن يخلق له هذا العضو؟
وأراد أن يطرد عنه هذه الفكرة، فالتفكير في مثل هذه الأمور عمل غير أخلاقي، خاصة في حضور سيده، واختلس حميدو نظرة سريعة بين فخذيه فلم يجد العضو، ووجد مكانه شقًّا صغيرًا يشبه الشق الذي كان يراه في جسم حميدة، واعتقد أن في الأمر خطأً ما، وأن أجساد الموتى اختلطت بعضها بالبعض، وعند الفرز النهائي أعطوه جسد امرأة، دائمًا هناك خطأ في الفرز النهائي، فالموظف الذي يفرز ضعيف البصر بسبب الدرن الرئوي، وهو الوحيد المكلف بالفرز، (الميزانية لا تسمح بموظف آخر) وعليه أن ينقل الأسماء من كشوف الفرز الابتدائي إلى كشوف الفرز النهائي، وحروف بعض الأسماء متشابهة، وأسماء الإناث لا يفرقها عن أسماء الذكور إلا التاء المربوطة، أمين يصبح أمينة، وزهير يصبح زهيرة، ومفيد يصبح مفيدة، وحميدو يصبح حميدة؛ أي إنها ليست إلا جرة قلم ويصبح الرجل امرأة.
وكان حميدو يحب أن يكون امرأة أحيانًا، وفي أحيان أخرى يقاوم ذلك مقاومة شديدة، فالمرأة في ذلك الوقت كانت تُكَلَّف بأعمال الخدم المهينة، كأن تمسح حذاء الرجل بعد أن يخرج من دورة المياه أو تناوله كوب ماء وهو راقد فوق ظهره يتجشأ بصوت عالٍ (كان مسموحًا للرجل فقط أن يتجشأ بصوت عالٍ)، أو تغسل جوربه النتن، أو سرواله الأكثر نتانة بسبب البول وعدم توافر الماء والصابون.
ويحاول حميدو تصحيح الأمر، لكن التصحيح لم يكن سهلًا بأي حال من الأحوال، إذ عليه دائمًا أن يثبت أنه ليس امرأة، وفي كل مرة يستدعون الطبيب الشرعي، الذي ينزع سرواله القذر بتأفف، وينظر فخذيه بكل وقاحة، وأحيانًا لا يستوثق تمامًا من مجرد النظر، فيمد أصابعه الأنيقة ذات الأظافر المشذبة ويفحص العضو المنكمش المذعور، ويقيسه من جميع الزوايا بمسطرة مدرجة من البلاستيك، ويسجل الأرقام بقلمه الباركر في دفتر خاص، ثم يرسلها داخل مظروف مغلق بالشمع الأحمر إلى قسم الفيش والتشبيه.
وهذا هو القسم الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، وتختلط فيه بصمات أصابع اليد مع أصابع القدم مع غيرها من أعضاء الجسم، وتتشابك ذيول الأرقام مع رءوسها، ويسقط منها أجزاء، وتنطمس أجزاء والسبب في ذلك رداءة الحبر المغشوش (الغش كان منتشرًا في ذلك الوقت ويمكن لجردل ماء أن يضاف إلى زجاجة حبر).
وظلت حقيقة أمره بهذا الشكل معلقة لبضع سنوات، لا يقطع أحد فيها برأي، ولا يستدعيه أحد لإعادة الكشف، وظن حميدو أن الموضوع أصبح منسيًّا أو كأنه ما كان، وسار في الشارع باطمئنان، إلى حد أنه دخل محلًّا للحلاقة ليحلق لحيته الطويلة، وجلس على الكرسي المريح المتحرك، وهز قدميه باسترخاء، وشد إحدى الجرائد القديمة من فوق المنضدة، وقلب صفحاتها بغير اهتمام، لكنه ما إن وصل إلى الصفحة الأخيرة حتى اتسعت عيناه بالدهشة، كانت صورته منشورة في ذيل الصفحة ضمن صور المشبوهات، ولم يكن البغاء محرومًا في ذلك الوقت، فأمسكوه وأعادوه إلى الخدمة.
•••
كانت حميدة في ذلك الوقت قد اهتدت إلى مهنة شريفة (الشرف في ذلك الوقت كان معناه الخدمة بالبيوت)، تلقنت أول درس في الخدمة، وهو أن تنادي الإناث بكلمة «ستي» وتنادي الذكور «سيدي»، وأدركت أن رضا أسيادها عليها يزيد كلما زادت إطراقة رأسها وهي تمر أمامهم، وأصبحت تثني نصفها الأعلى فوق النصف الأسفل بصفة دائمة، فالبيت يحميها من الشارع، والشارع فيه رجل يتربص بها ولا يكفُّ عن مطاردتها.
المطبخ كان حياتها، وبالذات البقعة المربعة الرطبة أمام الحوض، ويداها الصغيرتان في الماء الجاري في الصنبور، ليل نهار، وصيف شتاء، وعيناها السوداوان تواجهان الحائط من تحت طبقة الدموع الجافة، تذيبها من حين إلى حين نظرة ملتهبة حادة كالسيف، تشق الحائط، وتنفذ إلى حجرة الطعام، حيث مائدة الأكل المستديرة تحوطها تسعة أفواه، تنفتح وتتعلق على شدقين منتفخين، يتحرك الفك الأعلى فوق الفك الأسفل، والأسنان كتروس الطاحونة تصطك وتهرس، ويتراكم في الحوض صفوف الصحون الفارغة، تعلوها طبقة دهنية متجمدة، وتمتلئ صفيحة القمامة حتى الحافة ببقايا الأكل غير المهضوم، وتنسد ماسورة المرحاض ببقايا الأكل المهضوم.
وفي منتصف الليل، وبعد أن تمسح أرض المطبخ، تدسُّ في فمها قطعة خبز، وتشد بأسنانها على قطعة جلد أو قطعة عظم داخلها بقايا نخاع، ثم تضع جسمها الصغير بجلبابها المبلل فوق الدكة الخشبية وراء باب المطبخ، وتترك أصابعها المتورمة المحتقنة تنزُّ سائلًا أصفر بمثل حرارة الدم، وأذنيها الصغيرتين تتابعان الفحيح الذكري العدواني المنبعث من حجرة النوم يتبعه الأنين الأنثوي الذليل وقعقعات مفاصل السرير حين يرتج.
أغمضت عينيها ونامت، تخفف جسدها من العبء، وزال الألم من يديها وقدميها، وأصبحت تتنفس بهدوء، هدوء مألوف، تسربت من خلاله صور مألوفة، راقدة في قاع الجمجمة، قاع مظلم، تتراقص فيه ذؤابة متهالكة من الضوء، وتبدو الجدران طينية سوداء يلمع فوقها قش التبن الأصفر، ترتفع إلى فتحة مستديرة كالنافذة، وتهبط إلى بساط كالحصيرة، ترقد على الطرف البعيد أمها، طرحتها السوداء حول رأسها، ويدها كالوسادة تحت صدغها، وفي الطرف الآخر تنام حميدة، عيناها نصف مغلقتين كعيون الأطفال حين ينامون على قصة عفاريت مخيفة، وشفتاها نصف منفرجتين عن أسنان صغيرة شفافة نبتت حديثًا مكان الأسنان اللبنية، وأنفاسها لها رائحة الأطفال حين يتنفسون كتنفس الزهر المُغمض قبل طلوع الفجر وسقوط الندى، ونهداها مدببان تحت الجلباب الواسع كبرعمَيْن نبتا منذ لحظات ثم انضغطا فجأة تحت اليد الكبيرة المفلطحة كالبلطة، التي أصبحت تزحف متسللة تحت الجلباب، ترفعه عن الساقين الصغيرتين والفخذين، والأشياء تختلط في شيء واحد، في عصا واحدة غليظة في يد البائع، يضرب، ويضرب على رأسها، وصدرها، وبين فخذيها، وهي تصرخ، لكن صوتها لا يخرج، وتبكي وحدها بالليل بنشيج مكتوم، وتبتلع دموعها كلها قبل الفجر، وفي الصباح الباكر تبصقها كلها في دورة المياه، قبل أن يصحو أحد، وتشد قامتها، وتنظر في المرآة إلى عينيها المغسولتين المرفوعتين في تساؤل.
تساؤل لا أحد يجيب عليه، رغم ظهرها المحني بعض الشيء، وأصابعها المتورمة المتقيحة، وكعبيها المشققين، وقدميها الحافيتين تصعدان سلم الخدم، وسلم الخدم حلزوني وملتوٍ متعرج، وعند كل ثنية شق مظلم يتسع لجريمة سرية، وصفيحة قمامة فاضت بها القمامة وملأت الأرض بذباب وصراصير صغيرة تزحف من تحت عقب الباب إلى الشقق الأنيقة الفاخرة.
من يرى حميدة وهي صاعدة السلم أو هابطة لا يرى عليها سمات الخدم؟ ما هي سمات الخدم؟ عيناها مغسولتان مرفوعتان إلى أعلى، بعد العينين لا شيء يهم، وكل شيء يمكن أن يكون متقرحًا مغلقًا على الصديد، وقدماها تغوصان حتى الركبتين في القمامة، قمامة عضوية لأن أصحابها من أكلة اللحوم، ورائحة اللحم الميت أشد فسادًا من النبات الميت، ومع ذلك تدوس حميدة بقدميها على الرائحة وترفع عينيها للسماء، وتدرك ما لا يدركه أحد.
ذلك أن قمامة الإنسان تزداد بازدياد مكانته في المجتمع، فالمعدة التي تأكل بفتحتها العلوية أكثر من غيرها تُخرِج من فتحتها السفلية بطبيعة الحال أكثر من غيرها، ومعدة سيدها بغير جدال أكبر معدة، وقمامته بالطبيعة أضخم قمامة، يضعها الخدم في صفائح، تحملها عربات مصفحة، وتجمع على شكل هرم عالٍ في مكان بعيد في الصحراء، يتفرج عليه السياح بانبهار.
أهرامات صغيرة من القمامة في ركن كل شارع، يفد إليها من حين إلى حين جرذان، وكلاب ضالة، وقطط صغيرة عيونها مستديرة لامعة مرفوعة إلى أعلى كعيون الأطفال وأصابعها متقيحة كأصابع حميدة، تفتش بسرعة عن قطعة خبز، وشيء من غموس لم يتعفن بعد.
وخرجت أصابعها من صفيحة القمامة تلتف حول شيء، فتحت يدها لتراه، لكن ضوءًا مفاجئًا سقط فوق كفها، اختفت بسرعة وراء الجدار، لكن الضوء تبعها، وظلٌّ طويل ارتسم فوق الأرض، رأسه حليق أصلع، وكتفاه عريضتان، فوق كل كتف صفٌّ أفقي من خمسة أزرار صفراء تلمع، عرفته على الفور فشهقت بصوت عالٍ، وفتحت عينيها على صوت سيدها الخشن: حميدة، ورأت الشاة تدخل من الباب يسوقها الجزار، أدركت أن اليوم عيد لذكرى وفاة سيدتها.
التقت عيناها بعينَي الشاة، توقفت الشاة، تسمَّرت قوائمها الأربع في الأرض، ظلت عينا حميدة تحملقان في الدائرتين السوداوين ومن حولها البياض الصافي، تكسوه لمعة مفاجئة، تتحرك فوق سطح العينين، تترقرق، كدمعة كبيرة ثابتة لا تتبخر ولا تسقط، اتسعت عيناها بالدهشة، تلك الدهشة التي تحدث لإنسان يرفع رأسه فجأة فيرى عينيه في مرآة لم تكن موجودة.
شَدَّ الجزار الشاة من حبل قصير يلتف حول عنقها، تبعته الشاة، لكن عنقها ظلَّ ملويًّا إلى الخلف، ناحية حميدة التفَّت أصابع الجزار الكبيرة الغليظة حول العنق، رفسته الشاة بيديها وقدميها الصغيرتين، امتدَّت نحوها أربع أياد قوية، شدت ذراعيها وساقيها بعيدًا، وأصبحت الشاة ممدودة فوق ظهرها، وعيناها السوداوان الواسعتان مفتوحتان بالذعر، تبحثان في العيون حولها عن عينَي أمها، كانت أمها تقف على مسافة غير بعيدة، عيناها هادئتان ثابتتان ورموشها ثابتة، والطرحة السوداء فوق رأسها وكتفيها وصدرها ثابتة لا تتحرك.
ارتعشت عضلة طويلة نحيلة تمتد بامتداد الفخذ النحيل الصغير، امتدت الرعشة حتى أعلى الفخذ، حتى الزاوية المنفرجة، كفم طفل مفتوح يلهث، شفتاه ناعمتان ورديتان يشف من تحتهما لون الدم الأحمر، نديتان بلعاب شفَّاف كدموع الأطفال، واللسان الدقيق بدأ يرتعش كرعشة لسان عصفور يُذبح.
رفعت عينيها السوداوين المذعورتين مرة أخرى تبحثان في العيون المتزاحمة حولها عن عينَي أمها، نظرت إليها بعينَين غريبتَين فيهما نظرة باردة كنصل السكين، حولت عينيها إلى السقف بعيدًا عن النصل، لكن السكين كان يقترب منها رويدًا رويدًا، وبحركة سريعة خاطفة كالبرق شطرها نصفين.
لم تشعر حميدة بالألم، عيناها ظلتا جافتين لم تسقط منهما دمعة واحدة وتركت جسدها راقدًا على الأرض التراب، ومن تحت فخذيها شريط طويل من الدم، أحمر قاتم، يلمع في الشمس، زحف إليه النمل، وتكاثف فوق ظهره المتجمد المقوس كظهر ثعبان ميت، نفخت النمل فدخل التراب في أنفها، عطست فاندفع من فمها قطعة دموع متجمدة في حلقها، مدت يدها إلى التراب وردمت النمل، اندفن الدم وأصبحت بقعة الأرض مرتفعة بعض الشيء كالقبر، داست ببطن قدمها على الجزء البارز من المدفن، لم تعد الأرض مستوية كما كانت، داست فوقها بقدميها الاثنتين، وبكل قوتها المستعادة مشت فوقها، وعند ثنية الجدار أطلَّت برأسها ونظرت خلفها، وحينما لم تجد أحدًا رفعت جلبابها عن ساقيها ونظرت، لم يكن هناك العضو المألوف وإنما شق صغير كالجرح القديم المسدود.
وصل أذنيها الصوت الخشن المألوف: «حميدة»، فأسدلت بسرعة ثوبها فوق ساقيها، ورفعت الجردل المملوء بالماء وسكبته فوق الشاة، غسلت عنقها من الدم المتجمد، وأدخلت خراطيم الماء في بلعومها المقطوع فاندفع الماء من فمها وأنفها كالنافورة، ضحك الأطفال السبعة في سعادة، فاليوم هو العيد، والشاة قد ذُبِحَت، والأواني والصحون فوق المائدة أُعدَّت.
وحلَّ موعد الغداء، وجلس الجميع يأكلون فيما عدا الأم، التي كانت قد ماتت في حجرة النوم، وحميدة التي كانت لا تزال بجوار الجردل، تسكب الماء على الجسد الميت، وتملأ كفها الصغيرة بالشامبوه، وتدلك الشعر الغزير، وتدخل أصبعها الصغير في الأذن الكبيرة وتغسلها، والعين المغمضة ترفع عنها الجفن المسدل وفتحة الأنف، والفم، والعنق، والشعر الأسود تحت الإبطين، وأسفل البطن.
غسلت الفخذين بعناية من تحت ومن فوق ومن الوسط، اتسعت عيناها بالدهشة، كان الوسط أملس بغير عضو، مسدودًا يعلوه شق طويل كالجرح القديم.
هبطت أصابعها المرتجفة إلى الساقين، ودست الليفة بين الأصابع الملتصقة وغسلت الحوافر، كانت بقايا طين لا تزال عالقة بالحافر، طين أسود تتخلله خطوط صفراء كقش التبن الذي يفرش به الزرائب.
سمعت من خارج الباب الصوت الخشن الآمر: لا تضيعي الوقت في الحوافر، سنعطيها صدقة للجزار.
شدَّت من فوق رَف الكتب جريدة الصباح ولفَّت بها الحوافر، فوق الصفحة الأولى لمحت صورة مليئة بالوجوه المستديرة، المكتظة باللحم، تعرفت في الوسط على وجه سيدها، كانوا يجلسون على شكل دائرة، الصحون أمامهم ممتلئة مرتفعة كأهرامات مدببة وسكاكين لامعة تتهاوى في انتظام فوق الأهرامات، وتناقصت الأهرامات بسرعة كبيرة حتى اختفت ولم يبقَ في الصحون إلا فُتات.
ظنت أن الأهرامات تلاشت، لكنها دققت النظر في الجريدة فوجدت الأهرامات كما كانت مرتفعة وعالية ومدببة، ولكنها أصبحت في مكان آخر من الصورة، في موقع آخر بين المائدة والمقاعد ترتفع من أسفل فوق الفخذين وتعلو حتى المثلث المنفرج في نهاية الضلوع، تحت القلب مباشرة.
وانزلقت أصابع حميدة فوق القلب الأملس، ارتجفت يدها وهي تقطع الشريان العلوي وتشطر القلب بالسكين لتغسله من الداخل، كثيرًا ما فعلت ذلك بقلوب الدجاج والأرانب والإوز، ولكن قلب الشاة كبيرة الحجم لا يزال ساخنًا، وعضلاته لا تزال تنبض بذبذبة مرتعشة خفية، تسري في أصابعها الصغيرة، وتنتقل الرعشة إلى ذراعها وصدرها وقلبها الذي أصبح يدق بسرعة أكثر.
سقطت من جوف القلب المشطور جلطة دم حمراء، انزلقت فوق رخام الحوض، وسقطت فوق قدمها الصغيرة، انثنت ومدَّت يدها لترفع الجلطة عن قدمها، لكن عينيها ارتطمتا ببطن ساقها الطويلة النحيلة يجري فوقها شريط طويل رفيع أحمر، ظنت أنه شريان تحت الجلد لكنه كان يتحرك هابطًا فوق البشرة، لمسته بطرف أصبعها، ثم قربته من عينيها، كان الأصبع مبللًا بدم حقيقي.
رفعت جذعها إلى فوق، فالتقت عيناها المذعورتان بعينَي أمها، عينان خاليتان من الفزع، باردتان كبركة ماء آسنة، صامتتان كالقبر، ثابتتان كعينَي إنسان ميت، أسدلت الجفنَين فوق العينين الميتتَين وأسدلت الغطاء فوق الرأس والجسد، سمعت صوت أمها الخافت من بعيد كأنما يأتي من تحت الأرض: «بلغت يا حميدة!» وناولتها سروالًا من الدمور الأسمر، لبسته حميدة تحت الجلباب مرة ولآخر مرة، فلم يحدث أن خلعته بيديها، وإنما هما يدان أخريان، أصابعهما غليظة مفلطحة، ورائحتهما غريبة يفوح منهما التبغ. التبغ تعرف رائحته حميدة، كانت تشتريه من الدكان لأبيها أو أخيها أو خالها أو عمها أو أي رجل آخر من الأسرة، وحينما تقربه من أنفها تعطس وتسعل.
وحين تسعل ينتفخ شدقاها كشدقي أبيها، وتقلد صوته الخشن، وتقف في صحن الدار كما يقف، وتلقي برأسها إلى الوراء في خيلاء كما يفعل، نافخة شدقيها، واضعة يدها اليمنى في خصرها.
من يرها في تلك اللحظة كان يظن أنها حميدو، هي نفسها كانت تظن أنها حميدو وتدبُّ على الأرض بقدمين قويتين وتشمر جلبابها عن ساقيها الرفيعتين الصلبتين، وتجري نحو الصبيان صائحة: أنا حميدو. ويلعبون عسكر وحرامية، أو لعبة القطار، يمسك كل واحد منهم بذيل الآخر، وينطلقون يدبون على الأرض ويصفرون.
وترتفع الصفارة في الليل، ويرتج جسد حميدة الصغير وهي واقفة قرب القطار، وتتكثف الظلمة من خلفها على شكل يد كبيرة تندفع بقوة في ظهرها وتدفعها إلى الأمام، وتجري حميدة في الظلام، لكن الظلمة تنشق بعد لحظة عن عشر عيون صفراء تلمع كالأزرار النحاسية، ونصل أبيض حاد يتدلى في الخفاء بحذاء الساقين الطويلتين، وتلف طرحتها السوداء حول رأسها وكتفيها وصدرها وبطنها، وتنزلق في سواد الليل كقطعة من سواد الليل، لكن الساقين بنصلهما الحادِّ تجريان خلفها، والقدمين الكبيرتين تدبَّان وراءها، دبيبًا له رنين كاصطكاك الحديد بالحديد.
•••
حميدو كان لا يزال في الخدمة، في كعب حذائه قطعة من الحديد تدق على الأسفلت في بطء وثقل كحافر بغل مصاب بضربة شمس، الشمس كانت حارقة، فالمدينة هي القاهرة والوقت هو الظهيرة والشهر أغسطس، ورأس حميدو أملس حليق بغير شعرة واحدة، القرص الملتهب الأحمر يلتصق بجلدة الرأس، وعيناه ثقبان تنفذ منهما النار المتجمعة داخل الجمجمة، وأنفه أيضًا له ثقبان يقذفان اللهب وأذناه بالمثل، وفتحة الفم، وفتحة الشرج، كل فتحات جسمه تفرز النار الحمراء قطعًا متجمدة صغيرة وساخنة كالدم المتجلط.
حملق في القرص الأحمر الدائري، رآه قرصين اثنين أحمرين، داخل كل قرص دائرة سوداء كالنني تلمع، وحول النني دائرة بيضاء صافية كعيون الأطفال، حملق في العينين وتعرف على اللمعة، صاح: «حميدة»، وشد الآلة الصلبة من جوار فخذه إلى فوق، وصوَّبها في النقطة المحددة بالضبط، في منتصف المسافة بين العينين، وسمع صوت أبيه الخشن: «اضغط»، وضغط على الزناد.
سقط الجسد متضرجًا بالدماء، والعينان مفتوحتان ثابتتان مرفوعتان إلى السماء، والسماء مكتظة بالآلهة، وقد جلس كل منهم واضعًا ساقًا فوق ساق، والساق العلوية متدلية من بين السحب (وبذلك تكون مرئية بالعين المجردة) تهتز بحركة أفقية منظمة كبندول الساعة، والشمس كانت قد غابت والليل هبط فعزفت الموسيقى النشيد الوطني احتفالًا بالنصر، وارتفعت الأكف بالتصفيق حاملة الجسد الميت إلى فوق، لامس أنف الميت بطن قدم أحد الآلهة وشم الرائحة المألوفة التي تنبعث من الأقدام التي لا يغسلها أصحابها، أشاح الميت بأنفه بعيدًا عن الآلهة، فارتفع الهتاف وانشق الجراب الأسود عن وسام الاستشهاد في ميدان الشرف.
مد الميت يده الملوثة ببقع سوداء (بسبب جفاف الدم) ليتسلم الوسام، امتدت بسرعة يد أخرى نظيفة وأظافرها مشذبة وأخذت الوسام، لوح الميت يده في الهواء في غضب فامتلأت الظلمة بكشافات الضوء الأصفر مستديرة وجاحظة كالأزرار النحاسية.
وانفرجت شفتا حميدو في اندهاش، وسقط جسده الميت بين السيقان الطويلة يتدلى من بينها آلات القتل الصلبة، وانفرمت قدمه الحافية تحت الأحذية السميكة ذات الرقبة، وأصبحت الأرض كالعجين غاصت به قدمه الثانية، وساقاه غاصتا إلى الركبتين، ثم إلى منتصف فخذيه، حتى أعلى الفخذين، إلى منتصف بطنه، بالتدريج كان يغوص إلى منتصف صدره، والتفَّت قبضة الأرض حول عنقه، فأرخى رأسه فوق الأرض، ووجدها دافئة حانية كصدر أمه، فدفن وجهه بين ثدييها واستطاع أن يضع أنفه تحت الثدي الأيسر، المكان الأمين القديم المفضل لديه، لكن أمه أبعدته بيدها القوية كيد أبيه، ورفع رأسه إلى فوق فرأى يد أبيه الكبيرة بأصابعها الطويلة تلتفُّ حول الوسام، وعيناه الواسعتان السوداوان ذات الشعيرات الدموية تحملقان في عينيه، مد حميدو يده، لكن يده رغم الزحام ظلت ممدودة في الهواء، حملقت العيون في أصابعه الملوثة بالدم ولم يصافحه أحد (كان الناس في ذلك الوقت يحتقرون المقتول ويحترمون القاتل)، وحميدو لم يكن قاتلًا، هو الذي حدد النقطة في منتصف المسافة بين العينين وهو الذي ضغط على الزناد وهو الذي قتل، لكنه قتل بغير أن يصبح قاتلًا، فالقاتل هو صاحب العار الذي لم يلوث يديه.
لكن العار لم يكن عار حميدو، وكان عليه أن يغسله فحسب (توزيع الاختصاصات كان إحدى سمات التقدم، فالبعض يقوم بالعار والبعض يقوم بعملية الغسل)، يسكب الماء من الجردل ويغسل كل شيء بعناية، الشعر والرأس والأذرع والأرجل، وثنيات الجلد تحت الحوافر، ويسمع الصوت الآمر من الداخل يقول: «خذ الحوافر فهي نصيبك»، وتستقر الحوافر داخل جريدة من الجرائد اليومية، وتدخل التاريخ باسم الزكاة، يحملها حميدو تحت إبطه، ويسير في الشارع مزهوًّا بها، ومن حين إلى حين ينظر تحت إبطه، ويرى الشعر الأسود الغزير ينشق عن وجه أبيض بغير دم، والعينان الميتتان واسعتان مرفوعتان إلى السماء.
وباستطلاع غريزي حملقت عينا حميدو في السماء، ورأى النجم الوحيد المحترق، ذيله الطويل الرفيع يمشي لامعًا فوق السواد كخط من الدم الطازج الذي لم يتجمد بعد، ثم هبت نسمة جففت الدم، وأصبح النجم لونه أسود، والسماء كتلة واحدة مصمتة بغير مسام على الإطلاق.
وهبط رأس حميدو فوق صدره، فهبط من عينيه خيط طويل ساخن وانزلق من زاوية فمه يجري تحت لسانه بطعمه الملحي المألوف كماء المخلل.
ضغط فكه العلوي فوق السفلي وابتلع العلقم، لا مهرب له من الكراهية، إنها تغزوه من جميع منافذ جسده، وتدخل إليه بطعمها المملح المر من شقوق جلده وفتحات جسمه، وتتكوَّم في جوفه يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة، ويصبح جوفه كقاع زلعة المش، فيملأ فمه بالدخان الأسود، ويطرد الهواء من صدره، ويبتلع الدخان وحده.
عرفت حميدة رائحة الدخان، التبغ كانت تشتريه من الدكان، لكن الرائحة هذه المرة مختلفة، ممتزجة برائحة أخرى لا تعرفها كرائحة دورة المياه بعد أن يحلق سيدها ذقنه، تناوله المنشفة بأصابعها الصغيرة، وترى عينيه في المرآة، واسعتين تشعان من البياض ومن السواد ضوءًا نُحاسيًّا أصفر.
ويستقر الضوء عليها، رغم أنها تختبئ وراء باب المطبخ، جسدها الصغير منكمش تحت جلبابها المبلل، وكتفاها غير مستويتين، الكتف اليسرى أعلى من الكتف اليمنى، وجذعها يميل ناحية اليمين، بسبب سلة الخضار الثقيلة، تشد ذراعها اليمنى إلى أسفل، وقدمها اليسرى تلمس الأسفلت الملتهب بأطراف الأصابع، والقدم اليمنى تلمسه بمؤخرة كعبها الحافي، من يراها يظن أنها عرجاء، لكن حميدة لم تكن عرجاء، كانت جائعة فحسب، فمدت يدها في السلة وتسللت أصابعها الصغيرة الرفيعة تحت الخضار حتى أحست ملمس اللحم الطري، شدت قطعة ودستها بين أسنانها قبل أن يراها أحد.
أسنان حميدة صغيرة بيضاء لكنها حادة، تقطع اللحم النيئ وتهرس العظم، أسنان بدائية نبتت فوق فكيها منذ قرون، قبل أن تُخترع الشوك والسكاكين وغيرها من الأجهزة الحديثة (بسبب هذه الأجهزة فقدت أسنان سيدها قوتها وأصيبت لثته بمرض البيوريا)، وعيناها أيضًا بدائيتان قويتان، تريان الأشياء من على بعد، وأذناها قادرتان على التقاط أي صوت مهما بعد (أذنا سيدها فقدتا أيضًا هذه القدرة بسبب اكتشاف المخابرات للأجهزة السمعية الحديثة).
وسمعت حميدة صوتًا، فرفعت عينيها إلى فوق، ورأت رأس سيدتها يطل من النافذة المزركشة في العمارة العالية، بسبب الارتفاع الشاهق كان رأس سيدتها بحجم رأس الدبوس، لكن حميدة رأته بوضوح، ولمحت العضلة السمينة المكتظة باللحم تتقلص تحت فتحتي الأنف الواسعتين نبت فيهما ومن حولهما الشعر، أدركت من اهتزاز الشعر أن سيدتها شمت رائحة اللحم المهروس تحت ضروسها، أنكرت بطبيعة الحال، لكن قطعة لحم صغيرة كانت لسوء حظها قد انحشرت بين ضرسين، شدتها من بينهما أصابع سيدتها البَضَّة بالملقاط، ووضعتها فوق كفها تحت أشعة الشمس وارتدت نظارتها الطبية وفحصتها.
لم تضربها سيدتها هذا اليوم، حدثت مشادة بين سيدها وسيدتها بعد الغداء الدسم، انتهت بالاتفاق على مبدأ مساواة المرأة بالرجل في الإشراف على الخدم، وأصبح على سيدها أن يقوم بعملية الضرب هذه المرة.
رقدت حميدة على أرض المطبخ، سمعت وقع القدمين الكبيرتين، أغمضت عينيها وانتظرت، أحست الأصابع الطويلة ذات الأظافر المشذبة ترفع عنها الجلباب المبلل، تعرَّت ساقاها الصغيرتان وفخذاها وردفاها حتى منتصف الظهر والبطن، حملقت العينان الصفراوان في البطن لامعتين بضوء نحاسي، سقط الضوء الأصفر على البطن، بطن مشدود، عضلاته تنقبض بقوة، يهبط إلى فخذين بدائيتين، قادرتين على الحركة في أي اتجاه، وبكل قوة تقاومان وترفسان، واندفعت قدمها الصغيرة في بطنه العالي المترهل ذي الثنيات الطويلة، أمسك قدمها في يده الكبيرة، وأدرك لأول مرة شكل قدم المرأة، فالقدم لها أصابع، خمسة أصابع ينفصل كل أصبع عن الآخر، قدم سيدتها لم يكن لها أصابع، إذ إن أصابعها التصقت بعضها البعض في كتلة لحمية طرية كخُفِّ الجمل.
وزحفت يداه فوق الساقين، وأحس حركة العضلات القوية تحت كفه، تنقبض وتنبسط، عضلات سيدتها لم تكن لها حركة، خامدة، ساكتة، تغوص فيها أصابعه بغير مقاومة كما تغوص في كيس من القطن (كان ذلك طبيعيًّا بسبب موت سيدتها السابق في حجرة النوم).
بهرته حركة اللحم الحي، كخنزير يخرج فجأة من خرابة عاش فيها سنوات على الرمم وأطراف الجثث، انتفض بالنشوة فسقطت عنه ملابسه، ولامس جسده الساخن البلاط البارد المبلل بماء المسح، تقلصت عضلاته المرتخية المترهلة وسرى في عموده الفقري تيار كهربي، دبت الحياة في حواسه الخمس وبدأ أنفه المرتعش بفتحتيه الواسعتين يختلس من تحت الحوض رائحة القمامة، جذب بكل قوته شهيقًا عميقًا وملأ صدره بالرائحة النتنة، سرت الرائحة في جسده وسرت معها ذكرى قديمة منذ الطفولة لأول لذة جنسية.
لكن حميدة منكمشة في الركن، ملتصقة بالجدار، تسري فوق جسدها رعشة، وذكرى قديمة لأول ضربة، وعيناها السوداوان المتسعتان بالذعر، ثابتتان فوق العصا الغليظة من الخيزران، كانت العصا مختفية تحت ملابسه أو وراء ظهره، ثم في لحظة خاطفة شدها ورفعها في وجهها منتصبة صلبة، وبسرعة تفوق سرعة الضوء صوَّبها على النقطة المحددة في منتصف المسافة بين عينيها، وضغط الزناد.
صرخت حميدة، دوَّت صرختها في الليل المظلم الساكن كصوت الطلقة، تقلبت سيدتها في كفنها الحريري من جنب إلى جنب، هبَّ بعض الناس (بسبب نومهم الخفيف فحسب) وأضيئت الأنوار، وانفتحت النوافذ المغلقة والأبواب المغلقة، واشرأبت الأعناق وامتدَّت.
لكنها لم تصل إلى شيء، المطبخ له أربعة جدران وسقف وباب، والباب له قفل حديدي وسلسلة حديدية، وكل شيء عاد إلى ما كان عليه، أُطفئت الأنوار، وانغلقت النوافذ والأبواب، كل الأشياء انغلقت وعمَّ السكون، وتجمعت الظلمة فوق بلاط المطبخ، وتكثفت في الركن وراء الباب على شكل جسد صغير عارٍ، يجري من تحته خيط طويل رفيع من الدم، وعينان واسعتان دامعتان تبرقان في الظلمة كعينَي طفل.
•••
اللمعة عرفها حميدو من على بُعْدٍ، منذ كان طفلًا، تجذبه نحوها كضوء النجم، نجم وحيد ساهر في سماء سوداء مصمتة بغير مسام، وحميدو يسير وحده في الظلام بكعبه فوق الأسفلت، عيناه مرفوعتان نحو النجم، ويداه فوق صدره ملوثتان بدم قديم أسود، وتحت الأظافر سواد كالطين، ومن حول الأصابع بقع بنية قاتمة بلون التبغ، يمزق سعاله الليل، ويشق الظلمة بصاقه الأبيض ويستقر على الأسفلت بجوار قدميه، مكوَّرًا كقطعة من اللحم الأبيض تتخللها شعيرات رفيعة من الدم.
اقتفوا أثره المُدَمم فوق الطريق وأمسكوه وأعادوه إلى الخدمة، رفع الطبيب بأطراف أصابعه النظيفة ذات الأظافر المشذبة سرواله الدمور، فاحت رائحة الجسد الميت، فأشاح الطبيب بوجهه بعيدًا عنه، وكتب بقلمه الباركر التشخيص: «لا يصلح إلا للخدمة بالبيوت»، وأصبح حميدو مراسلًا (اللقب القديم لخادم البيت).
وأخذوا منه العدة: الحذاء الجلدي بالرقبة والكعب الحديد، البدلة والكتفين المحشوتين بالقطن والقش، والأزرار النحاسية الصفراء، خمسة أزرار فوق كل كتف، وعشرة فوق الصدر، والحزام الجلدي العريض ويتدلى منه الجراب يخفي النصل الحاد كالسكين.
تحسس حميدو جسده في الظلام، وجد الجلباب الواسع القديم، يتدلى فوق فخذيه كجلابيب النساء، وكتفاه نحيلتان وغير واقفتين، ككفَّي ميزان غير معدول، الكف اليمنى هابطة إلى أسفل تشد معها الذراع والكتف ونصف الرأس الأيمن، والسبب معروف (خدم البيوت كانوا يحملون سلة الخضار باليد اليمنى)، ولأن السلة كانت دائمًا ثقيلة، مملوءة حتى الحافة بالبطاطس والطماطم والخرشوف، وفي القاع يرقد الجسد المذبوح، والدم الساخن الأحمر ينشع من الورق الأبيض المصقول، والقلب لا زال يرجف بحركة غير مرئية، والعينان السوداوان الميتتان مفتوحتان مرفوعتان إلى أعلى، دامعتان، تلمعان في الظلمة كعينَي طفل.
حملق حميدو في عينَي الطفل في دهشة، لم تكن لهما لمعة عيون الأطفال، كانت لمعتهما نحاسية كعيون الكبار، ركب الطفل فوق ظهره، الركبتان فوق العنق، والفخذان حول الظهر وكل ساق على كل جانب، وكعب الحذاء بحذاء البطن.
هزَّ الطفل ساقيه كما يفعل الأطفال حين يركبون الحمير، سار به حميدو على يديه وركبتيه، والطفل من فوقه يهتز في سعادة، وفي يده عصا رفيعة من الخيزران، الشمس كانت في منتصف المسافة بين العينين، والشارع أسفلت أحمر ملتهب، والحصى أحمر ملتهب، حصاة حمراء دخلت في الركبة اليمنى فتوقف حميدو ليسعل وعجزت عضلات صدره عن أن تنقبض وتطرد الحصاة.
تدلَّى رأسه فوق صدره كرأس الحمارة المريضة، فاندفع الحذاء في بطنه مدببًا كالسكين، صرخ، لكن عضلات بطنه عجزت عن أن تنقبض وتطرد الصرخة، لفَّ يدَيه حول بطنه ليحميه من الحذاء فانقض عليه الطفل وعضَّه في بطن ساقه.
دخلت الأنياب في لحمه، وصلت العظم حتى النخاع، ضغط فكه العلوي فوق السفلي وابتلع الألم، تكوَّم الألم في النخاع مدببًا صلبًا كقطعة زلط، ضحك الطفل في سعادة وضرب قطعة الزلط ببوز حذائه، طارت الزلطة في الهواء ثم استقرت في البطن، البطن كان ساخنًا، والصدر ساخن مملوء بالدم، والرأس حليق بغير شعرة واحدة تفصله عن قرص الشمس.
مشت النار في جسده، استسلم لها تمامًا وتركها تغزوه من جميع منافذ جسده، فاتخذ وضع الحمارة المريضة وزحف على قدمَيه وركبته ودخلت الكراهية بطعمها الحارق من مسام جلده وتراكمت في القاع متجمدة وحمراء كقطعة الفحم المتقدة، مد يده ليشد آلة القتل، ارتطمت أصابعه بفخذَيه الميتتَين، العضلات مرتخية متهدلة تحت الجلباب، اختفى وراء باب المطبخ ورفع الجلباب، لم يجد الآلة الصلبة بحذاء الفخذ، وارتطمت عيناه بالشق المسدود الأسود كالجرح القديم، فسقط رأسه فوق صدره.
ورنَّ الصوت الآمر ينادي حميدة، خرجت حميدة مطرقة من وراء باب المطبخ، جلبابها المبلل يلتصق بجسدها، وعلى جدار بطنها علامة محفورة في الجلد، على شكل حذاء، وتحت الجدار تنمو الكراهية كالجنين، تتكوَّر كالعجين، وتعلو يومًا بعد يوم، تنتفخ بالماء وتتخمَّر وتفوح الرائحة.
التقطت أجهزة الأمن الرائحة، دائمًا هناك أجهزة للأمن، لها عيون ترقب، وأنوف تشمُّ، كتمت حميدة أنفاسها ومسحت بطن يديها بكفيها قبل أن تمد يدها الصغيرة من بعيد بكوب الماء، التفَّت أصابع سيدها ذات الأظافر الشَّذِبة حول الكوب البلوري، وأشاح بوجهه بعيدًا عن الرائحة، لكن الرائحة نفاذة وصلت إلى أنف سيدتها الميت في حجرة النوم، فانتصبت شعيراته المرتخية وأصبحت صلبة مدببة كالدبابيس.
أنكرت حميدة بطبيعة الحال، لكن جسدها كان الجريمة، أخذوا منها الجسد وتركوا لها الجريمة، كالنحل يمصُّ الزهرة، يرشف الرحيق، ثم يلقي المصاصة بعيدًا بيد قوية، اندفعت اليد في ظهرها كاللكمة، الطريق كان مُظلمًا، والليل أسود فحملقت في الظلمة.
تعرفت على قبضة أمها في ظهرها، فرفعت عينَيها إلى عينَيها، وكادت تناديها، لكن أمها كانت واقفة بغير حراك، صدرها ثابت، ورأسها ثابت، وعيناها ثابتتان ورموشها ثابتة.
سارت حميدة بجوار التمثال الحجري وتركته خلف ظهرها. دبَّ الصمت في الليل وأدركت أنها وحيدة، جلست على دكة حجرية بجوار النيل، ملأت صدرها بهواء النيل، هواء راكد حزين، دخل الحزن صدرها مع الظلمة، فأدركت أنها وُلدت بغير أم، وأن جدتها لأبيها كانت جارية في بلاط سيدها، وأنها ماتت مقتولة بسكين أبيها.
تركت جسدها فوق الدكة مرتخيًا، مفتوح المسام، يغزوه الحزن من جميع المنافذ، ملأها الحزن حتى الثمالة، وأعطاها قوة، والحزن لا يعطي دائمًا، إنه نادرًا ما يعطي، يختص بعطائه نوعًا نادرًا من الناس، قادرًا على مبادلته العطاء، وحميدة قادرة على أن تعطي الحزن نفسها كاملة، تتفرغ له وتعيش عليه، تأكله وتشربه وتهضمه وتجري عصارته في دمها، وتفرزه أمعاؤها، وتفرزه مسام جسدها، ويسيل فوق جلدها كخيوط رقراقة، تلعقها بلسانها وأنفها وتبتلعه مرة أخرى في جوفها، وتهضمه ثم تعود تفرزه.
من يراها واقفة منتصبة في الليل وحدها يظن أنها تمثال رمسيس، ذيل الماء يمشي فوق خديه وعنقيه وكتفيه وفخذيه وقدميه، يمشي بهوادة، دون أن يشعر بحركته، ويظل هناك فوق الجلد، ورغم نسمة الليل الجافة لا يتبخر، بل يدخل مسام الجلد، ويعود من حيث أتى إلى منبعه الأصلي في رحم الأم.
الحزن هو ولا شيء غيره، الجنين الأبدي في رحمها تعيش له ويعيش لها، ويدخل أو يخرج حيثما تشاء له أن يدخل أو يخرج، وحينما تريد له الخروج يصبح طفلها. طفل طبيعي ليس كالأطفال الصناعيين الذين يولدون بشهادة مكتوبة بالحبر ويجري الحبر الأسود حيث الدم الأحمر، وأعضاؤهم التناسلية تبتر والشعر يُجتث من فوق الرأس، وبحذاء كل فخذ لعبة أطفال على شكل مسدس.
طفلها لم يعرف اللعب بالمسدسات أو العرائس أو أي لعب أخرى، فاللعب للأطفال وهو ليس طفلًا، يولد واقفًا على قدميه، ويجري بين أكوام السباخ ويضحك وحده.
هذه الضحكة هي التي تميِّزه عن الأطفال، فهي ضحكة بغير صوت، بغير حركة في عضلات الوجه، لكن عينيه الصغيرتين تكسوهما دمعة كاللمعة، تشعُّ من تحتها نقطة ضوء، كنجم وحيد ساهر في سماء بغير قمر.
سارت حميدة في الليل تبحث عن طفلها، دارت حول أكوام السباخ، نظرت خلف صفائح القمامة، رأت بجوار الجدار جسدًا صغيرًا متكوِّرًا حول نفسه، عرفته على الفور، مدَّت ذراعَيها في الظلام لتحوطه بصدرها، شقَّ الظلمة ضوء أصفر وظهرت العين النحاسية، دائمًا هناك عين مستديرة ترقب بغير جفن كعين الثعبان، رأت آلة القتل مختفية تتدلى بحذاء الفخذ، لم يكن ثعبانًا، كان حية أنثى، لكن حميدة كانت تدرك أن أي شيء يقتل لا بد أن يكون مذكرًا، فصرخت لطفلها: «احترس منه، سيقتلك!»
دخلت الأنياب في بطن الساق الصغيرة الرفيعة، سال الدم كذيل طويل رفيع، بلل أصابعها الصغيرة، وهبط إلى بطن قدمها، رفعت رأسها فوق، ورأت عينَي أمها الواسعتين السوداوين ثابتتين في عينها، تنظران إليها في صمت، والطرحة السوداء تغطي رأسها وصدرها وبطنها، فتحت فمها لتسأل، لكن الكف الكبيرة أصبحت فوق فمها، والأنفاس والهواء وحفيف الشجر كلها أصبحت بغير صوت، تجمدت في كتلة سوداء صماء بغير مسام، والطرحة السوداء ذابت في الليل كما تذوب قطرة الماء في البحر.
لكن الساقَين تدبان من خلفها، طويلتين شاهقتين كالموجة العالية، تتبعها في الخضم، ترصد مكانها، تغوص معها إلى القاع، وتطفو كالجثث فوق السطح، وتتوه معها في وسط البحر، ثم تعود تظهر عند الشط، وترتد معها فوق حافة الصخر، وتضيع في الزبد الأبيض، تتأرجح معها بين المدِّ والجزر.
المدُّ كان ضعيفًا والجزر أضعف، فالبحر لم يكن بحرًا، وإنما نهر النيل ومياهه راكدة في القاع، حركتها بطيئة، ثقيلة، كقدم نصف مشلولة، تدوس فوق الأرض وتثبت ولا ترتفع مرة أخرى لكن حميدو يشدها بكل قوته، بكل عضلات الساق الرفيعة المعوجة، وترتفع القدم فوق الأرض وتثبت، ولا تهبط مرة أخرى، لكن الأرض تشدها بكل قوتها فتسقط فوقها ثقيلة كقدم من حجر.
الصباح كان مُبكرًا والشمس لا تزال مائلة، فارتسم ظله فوق الأرض، طويل ورفيع معوج، كقوس قزح، الرأس حليق، والكتفان غير مستويتَين، كتف أعلى من كتف، وساق أطول من ساق، كالأعرج، والأطفال من خلفه يضحكون، ويركبون فوق ظهره.
أصوات الأطفال وصراخهم يترامى إليه من فوق رأسه، وأقدامهم تدبُّ فوق ظهره كعجلات القطار، كل واحد يمسك بذيل الآخر، ويصفرون، وترتفع الصفارة في الجو فيجري كل منهم ليختفي من «المَسَّاكة» وراء كوم سباخ أو في الزريبة أو خلف عُمد النور.
عمود النور كان طويلًا ممتدًّا في السماء ورأسه يلتصق بالقمر، القمر كان نوره أبيض، سقط على وجه حميدة وهي مختفية وراء العمود، فأصبح وجهها أبيض، وذراعاها بيضاوين، وساقاها بيضاوين، وجسدها أبيض أملس منزوع الشعر، لكن منابت الشعر ظلت بارزة في قشعريرة، سرت فوق جلدها.
امتدَّت يدها البيضاء ولمست جلدها، جسدها وحده هو الذي يطمئنها، كل الأشياء الأخرى خارج جسدها غير مطمئنة، أجسام غريبة تكمن في الأركان، ووراء الجدران وخلف الأبواب، وفي ثنيات الشوارع المظلمة، وفي زوايا كل شيء، الزوايا من الخارج تبدو ملساء بريئة، كأنما لا شيء داخلها، ولكن حينما ينفرج الضلعان وتتباعد الساقان تظهر آلة القتل بوضوح صلبة ومنتصبة.
تصرخ حميدة، صرختها غريبة، ليس لها صوت الصرخة المألوف حين يصرخ الإنسان فزعًا أو طلبًا للاستغاثة، فلم تكن حميدة تستغيث بأحد، كانت تعرف أن الطريق خالٍ ليس فيه أحد، والنوافذ مغلقة والأبواب مغلقة والأنوار مطفأة والأصوات معدومة، وكل شيء معدوم كالصوت.
لم تكن صرخة استغاثة، ولكنها حادة وطويلة وممتدة، كأنها ملايين الصرخات اتصلت والتحمت في صرخة واحدة تمتد بامتداد الليل، وتلتحم بملايين الذرات السوداء التي تصنع الظلمة والصمت.
ولم تكن أيضًا صرخة فزع أو خوف، لم تكن حميدة تخاف الظلمة أو الصمت أو حتى الموت، فهي جزء من الظلمة، وصوتها هو الصمت، أما الموت فهو يعيش معها، تحمله كالجسد الثاني على جسدها، كشخص آخر ميت يعيش داخلها، يحتل الفراغ في جوفها ويفرد ذراعَيه وساقَيه ويتمدد، وتفوح رائحته من عينَيها وأذنَيها وأنفها وفمها وجميع فتحات جسمها، وفي الليل حين تشتد الظلمة وتشتد الوحدة تمتدُّ يدها فتحسه إلى جوارها، ملاصقًا لها، وفي حضنها أنفاسه تختلط بأنفاسها وحرارته كحرارة جسمها.
وضعت حميدة يدها على ظهرها فشعرت بالأمان، جسدها ساخن أملس الزوايا، من يراها من الخلف يظن أنها طفل، وحين تستدير ويرى عينيها يدرك أنها عجوز، ووجوه العجائز كوجوه الأطفال ليس لها جنس، وحين تهبط العين إلى بطنها النامي بالجنين الحي يعرف أنها امرأة، ويحتار المرء في تحديد عمرها، فالحقيقة أن حميدة ليس لها عمر، وهذا هو حال الأطفال الذين يولدون رغم أنف الموظف الحكومي الذي يحدد تاريخ الولادة، وإنهم يعيشون فوق مستوى الحكومة، وفوق مستوى التاريخ، وفوق مستوى الزمان والمكان، لا ينتقلون كالبشر العاديين من مرحلة الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة، ويعيشون رغم أنف الموظف الحكومي الذي يحرر تواريخ الوفاة، ينجون من الزمن كالآلهة، ويعيشون إلى الأبد، حياة واحدة ممتدة بغير مراحل.
يولدون كبارًا ثم يصبحون عجائز بغير مرحلة طفولة أو شباب، ثم يرتدون فجأة من الشيخوخة إلى الطفولة أو من الطفولة إلى الشباب، يرتدون في لحظة سريعة خاطفة أسرع من قدرة العين على الرؤية، فإذا بالعين عاجزة عن اكتشاف حقيقتهم، ويبدو الواحد منهم طفلًا وشابًّا وعجوزًا في اللحظة نفسها والمكان نفسه.
وأحيانًا يسيرون في الطرقات وهم موتى وتكاد تزكم رائحتهم الأنوف، ومع ذلك تظل العين عاجزة عن التفرقة بينهم وبين الأحياء.
التجاعيد في تلك الأحوال لا تهمُّ كثيرًا، لأنها لا تبدو للعين تجاعيد وإنما تلك الخطوط الطبيعية التي تظهر على وجه الطفل حين يضحك بشدة وبغير صوت مسموع.
حميدة كانت لا تزال وراء عمود النور، وجهها متورم مستدير تحت الضوء، أبيض بلون الدقيق، تخفي تحت المسحوق التجاعيد، وشفتاها المشققتان (بسبب الجوع) تغطيهما قشرة حمراء مدممة، وصدرها بارز من فتحة ثوب مقطوع، وبطنها بارز، وكعباها المشققان بارزان من حذاء كالشبشب بغير كعب، وشعرها غزير أسود كقطعة من الليل يغطي بالسواد رأسها وصدرها وكل جسدها، ويطل من تحته عنقها الأبيض كجذع شجرة تخرج من غابة نبتت جذورها في أرض رطبة.
من يرها يظن أنها امرأة ليل، مع أنها لم تكن امرأة ولم يكن الوقت ليلًا، كانت الشمس رأسية في منتصف المسافة بين العينين، وحميدة تحملق في القرص الملتهب الأحمر، لا يطرف لها جفن، ولا تخلج في وجهها عضلة، تنظر إليه بكل قدرتها على الصبر، وتراه بوضوح في مركز الدائرة كالقوس، طويل ورفيع ومعوج، يتحرك أمام عينيها بحركته البطيئة، كتف أعلى من كتف، وساق أطول من ساق، كالأعرج، عرفته على الفور وكادت تهتف: حميدو، لكنها خشيت أن يكتشف مكانها وراء العمود، ويتعرف على بطنها المنتفخ، ويشد آلة القتل.
أطبقت شفتيها وكتمت أنفاسها، لكنه شم رائحتها (رائحة حميدة قوية نفاذة كرائحة الموتى) فتوقف عن المسير، ومدَّ يده الطويلة الرفيعة إلى عمود النور، لم تمسك يده شيئًا، ناداها بصوت مألوف غير مسموع مقلدًا صوتها: «حميدة»، وثنى جذعه فالتوى نصفه الأعلى فوق الأسفل مقلدًا شكل جسدها، كان التقليد مصنوعًا بإتقان شديد (بسبب تقدم الصناعة والتكنولوجيا) إلى درجة أن حميدة اختلط عليها الأمر، وظنت أن الصوت صوتها، والجسد جسدها، فخرجت من وراء العمود مطمئنة، وسارت كعادتها مطرقة رأسها، وحينما رفعت رأسها إلى فوق ارتطمت عيناها بالعينَين الصفراوَين، فرأتهما من هول المفاجأة أربع عيون، وتضاعف العدد في لحظة خاطفة، وحوَّطتها العيون الصفراء، عشرًا فوق الصدر من الأمام مستديرة ومتراصة في وضع رأسي، وفوق كل كتف خمس في وضع أفقي، تشع كل عين ضوءًا نحاسيًّا أصفر.
ورن الصوت المعدني فوق الأسفلت كاصطكاك الحديد بالحديد: ما اسمك؟
قالت بصوت غير مسموع: حميدة.
مشت الموسى الحادة فوق جلدة رأسها وسقط شعرها الناعم الغزير في الجردل، ومشت فوق جلدها تجتث الشعر، وحينما وصلت إلى أسفل البطن عثرت بين الشعر الأسود على البرعم الصغير الأبيض، كالعصفور الوليد، فاجتثَّته من جذوره، وتركت مكانه جرحًا عميقًا في اللحم كالشق المسدود (سميت هذه العملية الجراحية ﺑ «الطهارة» في ذلك الوقت وكان هدفها أن يصبح الإنسان «طاهرًا» بغير أعضاء جنسية).
رقدت حميدة فوق الأرض الأسمنت، تحوطها أربعة جدران من الأسمنت، وذراعاها وساقاها مشدودة مربوطة في حزمة واحدة، وحزام من المعدن الصلب، يتدلى قفله الحديدي من بين فخذيها (دخل التاريخ باسم حزام العفة)، وتصطك سلسلته بالأرض الأسمنت كلما حركت ساقَيها أو ذراعَيها.
جسدها الناعم الصغير من تحته بركة من الدم، تدخل في شقوق الأرض، وفوق الجدران دم على شكل أصابع آدمية، دم أسود قديم، كالبقع، ملايين البقع، من كل عمر ومن كل جنس، أطفال ورجال ونساء وعجائز بيض وسود وصفر وحمر ولكل واحد بقعة مميزة كبصمة اليد.
وضعت حميدة طرف أصبعها الصغير في الشق، فخرج مبللًا بالدم، مسحته في الجدار، وطبعت فوق الأسمنت بصمتها كالختم (الأميون جميعًا أمثال حميدة يختمون على الوثائق الرسمية بهذا الشكل)، وتمتد الأصابع السوداء الملوثة بالدم تطبع ختمًا فوق الوثائق، ملايين الوثائق ومن فوقها ملايين الأختام، أختام سوداء خطوطها متعرجة مشرشرة كأرجل الصراصير، أو الذباب أو الجراد، كثيرون ومنتشرون فوق الأرض، بالليل والنهار، فوق الكباري، فوق السواري، عند ثنية كل شارع، وراء كل بيت، خلف كل جدار، داخل كل شق من شقوق الأرض، رءوسهم العارية الحليقة تطل فوق السطح، وأجسامهم النحيلة مقوسة داخل الشق وبطونهم مجوفة خالية من الأحشاء الداخلية، بغير كبد وبغير قلب وبغير معدة، وبغير مصارين، والجوف الواسع الخاوي أصبح مخزنًا سريًّا يعبئون فيه الكراهية (المكان الوحيد الذي لا تصل إليه أجهزة الأمن في ذلك الوقت، تقدمت الأجهزة العسكرية حديثًا واختُرع في الطب جهاز للأشعة يكشف عن الأجسام الغريبة في جسم الإنسان، ومنظار إلكتروني يوضع في فتحة الشرج ويكشف عن محتويات التجويف الداخلي).
سقطت أشعة إكس فوق بطنها المنتفخ، ظهر التجويف مملوءًا حتى الحافة بالكراهية، طبقة فوق طبقة، فوق طبقة، ملايين الطبقات الرقيقة كرقائق من معدن شفاف، تكوَّنت بعضها فوق بعض في كتلة معدنية مصمتة وصلبة، تحسسها الطبيب بأصابعه الناعمة المشذبة الأظافر ثم صرخ: بارود، فانهالت المعاول تشقُّ الأرض وقلبوا الشقوق رأسًا على عقب، وعثروا على خزائن البارود جميعًا (أشاد التاريخ بالانتصار الذي حققته أشعة إكس في علاج الأورام السرطانية في الجسم).
لكن السرطان مرض خبيث، أخبث من التاريخ، الورم ظل ينمو داخل بطن الأرض، وحينما تضع حميدة يدها تحتها تحسه ساخنًا فوق كفها، سخونة جسمها، وتشعر بالطمأنينة فتقترب أصابعها من أنفها، وتشم الرائحة المألوفة، كرائحة كوم السباخ، أو صفيحة القمامة، أو قطعة اللحم الميتة، تشمها بفتحتَي أنفها وتملأ بها صدرها، فهي رائحة حياتها.
حرك حميدو رأسه ناحيتها، جذبته الرائحة المشتركة، كان من الممكن أن يبتعد ويهرب ولكنه اتجه نحوها بحكم المصير المشترك، توقف عند الجثة الميتة فاردًا قامته الطويلة راسمًا ظله على الأسفلت، طويلًا ورفيعًا ومعوجًّا، وبحذاء الفخذ يتدلى النصل الأبيض وعليه بقع سوداء كالدم. فتح صدره وملأه بهواء الليل، أدرك أنه ولد بغير أم، وأن جده لأبيه كان جنديًّا في جيش محمد علي، وأنه قُتِلَ في السجن.
عرف فجأة أن السجن مصيره، وكأنه حقيقة قديمة يعرفها كالموت، فلم يقاوم، ترك جسده مرتخيًا في قبضة اليد الحديدية، تدرَّب في سنوات الأسر أن ارتخاء الجسد يضعف التوتر، مسام الجلد متمددة وتتفتح ويخرج من عينيه وأذنيه وأنفه وفتحة الشرج، يصبح كل شيء أقل ضراوة، الضرب أقل ضراوة، والنفخ أقل ضراوة، والكيُّ بالنار (قبل اكتشاف الكهرباء) أقل ضراوة.
ويسقط جسده مرتخيًا فوق الأرض، يتمدد بكل قدرته على التمدد، وتجري من تحته ذيول رفيعة من الدم، تدخل شقوق الأرض وفوق الجدران بقع سوداء كالدم، كل بقعة على شكل خمسة أصابع وكف، ملايين البقع، من كل عمر ومن كل جنس، أطفال ورجال ونساء وعجائز بيض وسود وصفر وحمر، ولكل واحد بقعة مميزة خاصة به.
نهض حميدو يستند على الجدار، وطبع بصمته فوق الأسمنت كالختم (المحكوم عليهم جميعًا أمثال حميدو يختمون على محاضر البوليس بهذا الشكل) وتمتد الأصابع السوداء الملوثة بالدم تطبع ختمها فوق المحاضر، ملايين المحاضر بعضها فوق البعض، متكدسة كأجساد الموتى في يوم الحشر (قبل اكتشاف الأتوبيس) أجساد مرصوصة في خطوط أفقية مصفوفة في وضع عكسي، الرأس بجوار المؤخرة، والمؤخرة بجوار الرأس، متراصة في كل شبر من الأرض أو السقف، متلاصقة بغير مسافات ولا مساحات خالية تسمح بمرور الهواء أو امتداد الساق أو الذراع.
أغمض حميدو عينيه وفتح فمه وتأوَّه، تبعه الآخرون بصوت مماثل، ارتفعت ملايين الأصوات في الفضاء المظلم وصنعت صمت الليل، ضغط الصمت بكثافته وثقله على أذنيه ففتح عينيه ورأى في وجهه القدمَين المشققتَين، عرفهما على الفور وهمس بصوت مقلدًا صوتها: حميدة، لكنها لم ترد، كانت ميتة، جسدها ممدود فوق الأرض، ووجهها ناحية السماء، يسقط عليه ضوء القمر الأبيض، فيبدو مستديرًا متورمًا كالمثانة المنتفخة.
فتحت فمها وتأوَّهت (بسبب ضغط البول)، ارتفعت ملايين التأوَّهات في الفجر وصنعت النشيج الوطني (كانوا يسمونه النشيد الوطني).
سمع حميدو النشيد فأدرك أن النهار طلع، جرَّ ساقَيه من تحت الحزام الحديدي وسار إلى دورة المياه، المكان الوحيد من العالم حيث يشعر بالتفاؤل، ويتبادل من وراء الحائط بضع كلمات، وينبعث من نصفه الأسفل خيط البول، رفيعًا ومقوسًا كقامته، ونفاذ الرائحة كرائحته، فيشعر بمرح مفاجئ، ويرمق من حوله خيوط الماء الصفراء تلمع في الضوء كأقواس النصر فيضحك مقهقهًا.
ترتفع القهقهات من دورة المياه، قهقهات عالية، ملايين القهقهات، فالأعداد تتزايد يومًا بعد يوم، وكل الأجهزة يمكن أن تتعطل في ذلك الوقت إلا الأجهزة التناسلية والأجهزة اللاسلكية بطبيعة الحال.
ويسري الصوت كما يسري أي صوت وبالسرعة نفسها (عن طريق أحد الأجهزة)، ويدخل الأذنين الكبيرتين كالحصاة المدببة، ويرتفع الأصبع النظيف ذو الظفر المشذب ويسلك الأذنَين، وتسقط الحصاة المدببة في كفه السمينة المكتظة باللحم، فيرفع عينَيه في عينَي الموظف المختص ويقول: أيضحكون؟
يخفض الموظف عينَيه — كعادة الموظفين — في حضرة سيده: لا يا مولاي، يبولون فحسب.
حميدو كان لا يزال واقفًا في دورة المياه، وخيط الماء لم ينقطع بعد، حين رأى الموظف مقبلًا يفتش، شعر بالخوف، والخوف كالموت كائن عضوي من لحم ودم، سحب الدم من رأسه وذراعَيه وساقَيه وأحشائه الداخلية، وتجمع في نقطة واحدة أسفل البطن، انتفخت وتمددت كالمثانة، وكان الموظف لا زال واقفًا أمامه، فاتحًا ساقَيه في غطرسة، شاخصًا في عينيه بشجاعة الموظفين في غيبة سيده، وفمه مفتوح، ولثته متقرحة مصابة بالبيوريا (كلثة سيده).
وشعر بألم حاد أسفل بطنه، وتلفَّت حوله، كانوا يضيِّقون الخناق عليه، والأجساد تضغط عليه من كل جانب، بغير مسافة أو مساحة خالية، ولم يجد مكانًا خاليًا سوى الفم المفتوح المتقرح، فصوبَّ نحوه شريط الماء، وأفرغ الخوف كله من جسده.
فتح حميدو عينيه، وأحسَّ من تحته البركة، دافئة كجسده، نفاذة الرائحة كحياته، أدرك أنه لا زال حيًّا، وتفتحت شهيته للأكل، مدَّ يده في الصحن فانتفضت ملايين الحشرات السوداء الصغيرة وهاجت من حوله في مرح، بعضها يطير، وبعضها يجري، وبعضها يزحف، التصق بعضها بالسقف ووقف على الجدران، ودخل آخرون الشقوق وبقيت واحدة في كفه.
نظر بين ساقَيها ورأى الجرح القديم المسدود فأدرك أنها أنثى، وأنها ميتة، ضغط عليها بالكف الأخرى فماتت مرة أخرى، طرقع أصابعها الميتة فالتقط جهاز التسجيل صوت الطرقعة (كان هناك جهاز للتسجيل من آخر طراز بحجم الحمصة ثُبِّت في عضو من جسمه)، طرقع أصابع قدمه اليمنى بكبرياء وزهو، حركته في التاريخ لها أهمية، والأهمية هي سبب ذلك الذعر الذي يراه في عيون موظفي الدولة، حين تُصوَّب نحوهم العدسات المفتوحة، فإذا بأي حركة تصدر عنهم تدخل التاريخ على الفور، وإن كانت مجرد طرقعة أصبع (بسبب تيبس المفاصل بعد الأربعين)، أو أصبع يرتفع لهش ذبابة وقفت على الأنف.
هزَّ أصابع قدمه بحركة مبتكرة، إنه رغم كل شيء يحب الأصالة ويكره التقليد، كم سجل ركامًا من الحركات المقلدة غير الأصلية كحركات القرود، ووجوه وأصابع متشابهة مكررة كلها تقليد في تقليد، ركام مكدَّس بعضه فوق البعض ككوم السباخ، كل يوم ترقد البقرة، وفي الفجر تدخل أمه تلمُّ الروث، ثم تجمعه تحت الشمس بعضه فوق البعض، وحين يجف في اليوم التالي يصبح راسخًا في التاريخ.
ظهر العسل الأسود متجمدًا في قاع الصحن، واستقر في قاع معدته كقطعة من القطران، قضم قطعة بصل وأصلح بها طعم العلقم، أشعل قطعة تبغ وملأ بالدخان صدره وبطنه فشعر بما يشبه الشبع، وتجشأ بصوت عالٍ ينمُّ عن الثقة بالنفس (الذكور فقط هم الذين كان يحدث لهم ذلك).
سمعت حميدة الصوت، تعرفت فيه على رائحة التبغ، كانت تشتريه من الدكان لأبيها أو أخيها أو خالها أو عمها أو أي رجل من الأسرة، ويناولها البائع قطعة حلوى، تضعها في فمها، وتخفيها تحت لسانها، وحين يطالبها بالقرش تفتح يدها فلا تجد شيئًا، وتفتح عينيها فتجد المصباح كذؤابة الضوء، تُحْتَضَر ثم تموت بنفخة هواء واحدة، وتسدُّ الظلمة الباب كالجسد الطويل الضخم إلا من ثقبَين مستديرَين في أعلى الرأس ينفذ منهما ضوء أحمر بلون الشفق.
همست بصوت خائف غير مسموع: «من أنت؟» رد بصوت كصوتها خائف وغير مسموع: «حميدو.» أغمضت عينيها حتى لا يتعرف عليها، تركت ذراعَيه الطويلتَين تحوطانها، وأنفاسه الساخنة تدفئها، كان الفصل شتاءً وأذناها الصغيرتان الناعمتان كقطعتين من الثلج.
همس في أذنَيها بنفسه الساخن: من أنت؟ تركت أذنها تحت فمه ولم ترد، تظاهرت بالنوم وخبأت رأسها في شعر صدره الغزير، وحينما أحست بالأصابع الكبيرة ترفع عنها الثوب كتمت أنفاسها، ولم يعد صدرها يعلو أو يهبط، وأصبحت ميتة.
لكن الشمس في الصباح سقطت فوق عينَيها، ورأت الجسد الطويل إلى جوارها، طويلًا ورفيعًا ومعوجًّا، كتفاه غير مستويتين تشبهان كتفيها، وأصابع يدَيه متورمة متقرحة من ماء الغسيل كأصابع يدَيها، وأظافره سوداء كأظافرها، عرفت على الفور أنه جسدها فاحتضنته بكل قوتها، وضغطت صدرها، فأحست المحفظة الجلدية تحت ثديها الأيسر، كانت جائعة فمدت يدَيها وسحبت المحفظة بسرعة قبل أن يراها أحد.
اختبأت وراء جدار وفتحت المحفظة، رأت صورتها بالطرحة السوداء تشبه أمها ليلة زفافها، ووصية بخط أبيها يذكره بغسل العار، وأربعة جنيهات وبريزة (البريزة هي العشرة القروش في ذلك الوقت).
أكلت بالبريزة، واشترت بجنيهين ميني فستان (وهو الفستان المصغر الذي كان شائعًا في ذلك الوقت بين الزوجات المحصنات حتى لا يظهر من أجسادهن المحرمة إلا الأذرع والأكتاف والصدور والأفخاذ فحسب)، واشترت بالجنيهين الباقيين حذاءً له كعب عالٍ رفيع وليس له وجه، (اختفاء وجوه الأحذية في ذلك الوقت كان هدفه الكشف عن طلاء الأصابع الأحمر بلون الدم، أما الكعب فكان موجودًا ليخفي تشقق أقدام النساء بسبب الخدمة بالبيوت).
وسارت حميدة في الشارع تتأرجح على الكعب العالي، وذراعاها عاريتان، وفخذاها عاريتان، وعنقها عارٍ حتى منتصف ثدييها، أصبحت تشبه سيدتها، ومرت بحذاء الشاويش (الاسم الشائع للشرطي في ذلك الوقت) فلم يقبض عليها، وتركها تمر أمامه مطرقًا رأسه وخافضًا عينَيه ناحية الأرض (كان اسم هذه الحركة «غض البصر» أمام المحصنات من النساء، وقد تدرَّب عليها في سنوات الدراسة).
رفعت رأسها إلى فوق، وسارت بخطوات متأرجحة مهتزة، اهتزت كتفاها العاريتان وظهرت الكتف اليسرى أعلى من الكتف اليمنى، والثدي الأيسر أعلى من الثدي الأيمن (كان ذلك بسبب المحفظة المنتفخة المختفية تحت الثدي الأيسر)، واهتز الردفان أيضًا، وأحدهما أعلى من الآخر.
ابتعدت عن الشرطي بضع خطوات وتحسست المحفظة، جلدها ناعم كاللعاب يجري فوق أصابع اليد بعد قضمه فطيرًا بالسكر، وتيار من الدم الساخن يسري من ثديها الأيسر إلى بطنها وفخذَيها وقدمَيها، ثم يصعد إلى رأسها وأذنَيها وأنفها، ويهبط مرة أخرى إلى قلبها، في دورته العادية المتكررة، باعثًا في الخلايا الساكنة حركة جديدة لها لذة.
حركت فكَّها العلوي فوق السفلي ومضغت اللذة، ذابت اللذة في اللعاب فابتلعتهما، اختلطت اللذة بالدم ودارت معه من الرأس إلى القدمين ومن القدمين إلى الرأس، وبدأ رأسها يدور، فأسندت ظهرها إلى عمود نور، وأسدلت جفنَيها فوق عينَيها، فأصبح الشارع مُظلمًا، والسماء سوداء بغير قمر، سقط الضوء المستدير الأزرق فوق وجهها، عرفته على الفور (كان سيدها يطلي فوانيس عربته بطلاء أزرق حتى لا يراه أحد أثناء جولاته الليلية).
فتح بابه وهبط من العربة، ثم استدار حولها وفتح لها الباب، انتظر حتى دخلت وجلست، فأغلق الباب، ثم استدار مرة أخرى حول العربة حتى وصل إلى بابه، ففتحه ثم جلس وأغلق الباب (كان سيدها قد تدرب على هذه الحركة الدائرية في كلية الآداب).
انغرز كعبها العالي الرفيع في بساط سميك طري كالعجين فانخلع حذاؤها، وظهر كعباها المشققان فأخفتهما تحت الملاءة الحريرية، كان جسدها قد أصبح في وضع أفقي فوق شيء طري، أكثر طراوة من العجين، فارتخى ردفها المشدود العضلات (بسبب طول الوقوف وراء العمود)، وبدأ جسدها يغوص في العجين، القدمان، ثم الساقان، ثم الفخذان، ثم الصدر فالعنق، ولم يبقَ إلا الرأس بارزًا فوق السطح.
بدأ الرأس يغوص بالتدريج، الذقن، ثم الفم، ثم الأنف، انعدم الهواء، فاتسعت عيناها السوداوان وملأهما الرعب، والرعب كائن عضوي من لحم ودم، تجسَّد أمامها على شكل مخلوق غريب مشوَّه، رأسه إنسان وجسده قرد، رأسه عارٍ حليق أملس، وصدره غابة شعر وإليتاه كرأسه عاريتان ملساوان تشف بشرتهما عن لون الدم الأحمر كبشرة وجهه، وشفتاه حمراوان، منفرجتان، يظهر بينهما لسانه الطويل الحاد كنصل أبيض له حافة معدنية صلبة، وفي نهايته ثقب مظلم يكمن فيه الموت.
صرخت صرختها المكتومة غير المسموعة، وأسدلت جفنَيها فوق الرعب، زحف الرعب إلى حلقها (خلال القناة الدمعية التي تصل العين بالأنف) وتكوَّر كالغصة، شدَّت عضلات حلقها وبصقته بكل قوتها فانبعثت من فمها وأنفها وأذنَيها خيوط رفيعة كالنافورة.
ضحك سيدها في سعادة الأطفال، فقفز خده الممتلئ باللحم وسدَّ عينَيه تمامًا، أدركت أنه سينام بعد لحظة (كان السلام الملكي قد دقَّ معلنًا انتهاء الحفل الترفيهي)، وحينما ارتفع شخيره في الفضاء فتحت الأزرار الذهبية فوق صدره ورفعت المحفظة الجلدية الثقيلة الضاغطة على قلبه.
فتحت الباب بهدوء، وسارت على مهل بخطوات واثقة، فتحت باب سيارتها بمفتاح فضي لامع كمفتاح سيدتها، انزلقت العربة فوق الأسفلت الناعم كقارب رشيق يسبح، مرت بحذاء الشرطي الواقف على الرصيف منتصبًا كعمود النور، فاهتز (كأنما به مَسٌّ كهربي) وارتفعت سبابة يده اليمنى ولامست طرف أذنه اليسرى (حركة مقدسة في ذلك الوقت ترمز إلى حب الوطن).
أطلَّت من نافذة السيارة برأسها، سقط ضوء القمر على وجهها، كان الطريق خاليًا إلا من أعمدة النور، منتصبة على جانبي الطريق في وضع رأسي، ومن ناحية اليمين ترتفع الأذرع عاليًا، ومن ناحية اليسار رشقت في كل أذن أصبعًا.
تعرفت على البقع السوداء فوق الأصبع، فهمست بصوتها الخافت: حميدو! لم يسمع حميدو شيئًا، وظل واقفًا منتصبًا، رأسه مرفوع نحو السماء، وأصبعه الأسود في أذنيه (جميع المسافرين إلى الخارج كانوا يرون في مدخل كل بلد هذا النصب التذكاري للجندي المجهول).
مدت يدها وأمسكت يده، أصابعه كأصابعها والخطوط فوق كفه تشبه خطوطها، أشفقت عليه بحكم المصير المشترك، وحاولت أن تثني ذراعه المرفوعة في إعياء، لكن الذراع الحجرية أبت الانثناء وظلت مرفوعة في الهواء، رفعت عينيها إلى فوق ورأت العينَين الواسعتَين السوداوَين تلمعان بدمعة حقيقية كدمعة الأطفال، سقطت الدمعة على خدها ساخنةً، وزحفت من زاوية فمها مُرَّة كالعلقم تحت لسانها، فابتلعتها، سقطت واحدة أخرى ساخنة على خدها، وزحفت إلى زاوية أنفها مُرَّة كالعلقم فابتلعتها، وبدأ الحزن يغزو جسدها من جميع المسام والفتحات، يدخل أنفها وفمها وأذنَيها كمسحوق ناعم، مدبب الذرات، كقطع الزجاج المبشور، تمزق الأغشية الرقيقة التي تغلف الأنف والفم والشعب الهوائية، فتسعل بشدة، وينزُّ من صدرها سائل أبيض يجري في قناة طويلة ضيقة تصل القلب بالأنف بالأذنَين بالعينَين، فإذا بها تمخط لعابًا من عينيها، وتبصق دموعها من أنفها وفمها وأذنَيها، وكلها بيضاء تخللها شعيرات من دم.
رفعت وجهها إلى ضوء القمر، أصبح بياضه شديدًا خاليًا من شعيرات الدم، وملامحه غريبة تشدُّ البصر لتناقضها الشديد، فالذقن صغير مستدير وناعم كذقن طفل، والجبهة بارزة خشنة مجعدة كجباه العجائز، الشفتان عذراوان منفرجتان عن حرمان لا يرتوي كشفاه الزوجات العفيفات، والخدان بارزان في شراهة حادة لا تشبع كخدود الأزواج المحترمين، والأنف مستقيم عالٍ في كبرياء، سفيه كسفاهة المجرمين والخارجين على القانون، والأذنان صغيرتان مستكينتان بغير حركة كآذان موظفي الحكومة، والعينان سوداوان واسعتان، فيهما نظرة بدائية وقحة مرفوعة إلى أعلى وثابتة، لا تغض البصر كعيون النساء المحتشمات المطرقات إلى الأرض حياءً من أفكارهن الوقحة.
ملامح غريبة شديدة التناقض، والتناقض لشدة الغرابة كان منسجمًا مع الملامح على نحو متسق مألوف، ويبلغ من شدة انسجامه واتساقه درجة من الجاذبية غير المألوفة، تشد إليها البصر شدًّا، كأنما ليس لها وجه واحد وإنما وجهان أو ثلاثة أو أربعة، أو أن وجهها ليس وجهًا وإنما شيء آخر.
شيء آخر مثير للحيرة والارتباك، والقلق بل والغضب، فالإنسان يغضب بطبيعة الحال حين ينظر في وجه إنسان آخر فلا يرى نفسه وإنما عورته، ويشتد غضبه بطبيعة الحال أيضًا إذا كانت عورته غير مألوفة في شكلها أو غير طبيعية، والطبيعي أن يكون للعورة شكل مخجل مخلٌّ بالشرف، وأن يكون لها رائحة نجاسة (كرائحة العرق أو البول أو غيرها من إفرازات الجسد السامة)، ولكن أن تكون الرائحة طيبة معطرة فهذا هو الغريب، لأن الجسد في تلك الحالة يحتفظ في جوفه بالعرق والسموم، فيصبح الجوف عفنًا تفوح منه رائحة النجاسة، أما الوجه فيظل نظيفًا أبيض تكسوه ملامح النبل وعراقة الأصل (وغيرهما من السمات الرفيعة التي تظهر بوضوح على وجوه النبلاء أمثال سيدها).
وتحرك وجه سيدها نحوها وهي واقفة في ضوء القمر، ظلت عيناها في عينَيه سوداوَين واسعتَين مفتوحتَين لا تغضان البصر، أراد أن يبصق في وجهها من شدة الغضب، لكنه كان قد تعوَّد أن يكظم الغضب، فأصبح الغضب لا يحرك في وجهه إلا عضلة صغيرة عند زاوية أنفه، تتقلص فجأة، وتشد شفتَيه في انفراجة، تبدو للعين المجردة كالابتسامة.
لم يكن لديها موعد آخر فصعدت إلى السيارة، مرَّت السيارة من أمام بيته الرئيسي في الزمالك، رأت سيدتها تطل من النافذة العالية المزركشة، كان رأسها بحجم الدبوس (بسبب الارتفاع الشاهق)، لكنه رآها فأخفى وجهه بيده اليمنى وداس على البنزين بقدمه اليسرى فانطلقت السيارة ولم يره أحد، سار على مهل في شارع النيل واجتاز الكوبري، فأصبح على مشارف حي بولاق، حيث بيته الفرعي (كان لكل زوج محترم في ذلك الوقت بيت فرعي إلى جانب البيت الرئيسي، ويزيد عدد بيوته الفرعية كلما زادت درجته).
وتجرد من ملابسه بسرعة (كعادة المشغولين بأمور هامة)، ثم رفع قدمه ووضعها على طرف السرير، وبقيت القدم الثانية فوق الأرض (كان قد تدرب على الوقوف على ساق واحدة في سنوات الخدمة العامة)، تصادف في هذه اللحظة أن حركت رأسها ناحيته فلم تجد آلة القتل، وإنما الجرح القديم المسدود، كان يمكن أن تتسع عيناها السودوان في دهشة، لكن شيئًا لم يكن يدهشها، فحركت رأسها ناحية الحائط بغير اكتراث، رأت فوق الحائط سيدتها بملابسها العسكرية داخل إطار مذهب، وعيناها شاخصتان فوق الكتلة العارية، تتابعان حركتها بنظرة الحكام الوقورة المتجهمة، وتلتقطان الصور من جميع الزوايا (ملحوظة: حفظت هذه الصور في أرشيف المخابرات المركزية).
وأصبح وجهها معروفًا، حين تطلُّ من نافذة العربة تلتوي ناحيتها الأعناق حانية الرءوس بطبيعة الحال، وأصبح وجهها فوق الجدران، في ناصية كل شارع، حين كانت تقف تنتظر، وأحيانًا حين يطول بها الانتظار ترفع رأسها إلى فوق، وترى صورتها معلقة، شفتاها منفرجتان في ابتسامة عريضة، ومن بينهما (عند ركن الفم) خيط طويل أبيض من اللعاب الدافئ يجري صاعدًا إلى زاوية الأنف ثم يدخل في الركن بين الأنف والعين.
وتمسح البُلولة من فوق وجهها بكفها، ثم تمسح كفها في الجدار، وترسم على الجدار الكف وخمسة أصابع آدمية، تهبُّ عليها نسمة الليل، وتطلع عليها الشمس فتجف وتصبح بقعًا سوداء بلون الدم القديم.
سقطت أشعة الشمس فوق عينَي حميدو وهو نائم في وضع رأسي بجوار الجدار، فتح عينَيه ورأى الكف والأصابع السوداء الممدودة، أصابعها كأصابعه والخطوط فوق كفها تشبه خطوطه، انفرجت شفتاه هاتفًا: حميدة! وشدَّ آلة القتل بفخذه، لكن رأى المفتاح الفضي اللامع يتدلى من بين أصابعها، فأدرك أنها سيدته، وأخفى الآلة في جيبه في لمح البصر، وتركها تتدلى مرتخية وراء فخذه، ووقف في مكانه منتصبًا، عضلات ظهره مشدودة، وذراعه اليمنى مرفوعة، وجفناه مرتخيان متدليان فوق عينيه كالحجاب.
حين ابتعد صوت العربة رفع جفنَيه، ورأى مؤخرة العربة المدببة تشقُّ الظلمة، ثم ابتلعتها الظلمة، ترك عضلات ظهره ترتخي، وذراعه تهبط، وشعر براحة، فملأ صدره بهواء الليل، وحاول أن يتذكر وجهه وهو طفل، وشكل ملامحه حين كان يبتسم أو يضحك، فلم يتذكر شيئًا، لم تكن هناك طفولة ولا ابتسامة ولا ضحكة.
سمع وقع قدميه الثقيلتين فوق الأرض، يمين، شمال، يمين، شمال، لب، دب، لب، دب، الضربات البطيئة المنتظمة، تتخللها مسافات من الصمت الأسود بلون الموت، سعل وبصق على الأرض البصاق المدمم، سقطت الخيزرانة الرفيعة على ظهره ولسعته، فأدرك أنه عارٍ وأنه لم يمت بعد، فقد تفاؤله وبصق مرة أخرى، سمع الصوت الآمر المألوف فشدَّ الآلة من الجراب الأسود، نظر بعين واحدة في الثقب، وحدد النقطة في منتصف المسافة بين العينين، صاح الصوت الخشن: اضرب. ضرب.
سقط الجسد الطويل المعوج، وفي منتصف جبهته البارز ثقب يجري منه خيط طويل من الدم، يخترق العينَين والخدَّين والأنف والشفتَين ويدور حول الذقن الصغيرة المستديرة كذقن الطفل.
لم يكن طفلًا واحدًا، وإنما آلاف الأطفال أو ملايين، أجسادهم سقطت، فوق وجه كل منهم خيط طويل من الدم يجري من العينين إلى الأنف والفم وبالعكس، والشمس سقطت فوق الأسفلت، والسماء أصبحت زرقاء صافية وظهر فيها بوضوح الآلهة المكدسون الجالسون صفوفًا، ساقًا فوق ساق، يدخنون النرجيلة.
مدَّ حميدو ساقه فارتطمت بساق أخرى، مدَّ ذراعه فارتطمت بذراع أخرى، أصبح غارقًا في بحر من الأجسام الميتة، بدأ يسبح بذراعَيه وساقَيه في الخِضَمِّ الكبير، توقف لحظة ليلتقط نفسه، وتلفت حوله ليعرف أين هو أو من الذي أتى به إلى هنا، لم يتذكر شيئًا سوى أنه كان طفلًا، وأن قبضة يد قوية اندفعت في ظهره، وقذفت به في البحر، رأى اليد مرسومة فوق الجدار، الكف الكبيرة ككف أبيه، والأصابع متورمة مشققة كأصابع أمه، انفرجت شفتاه وهتف: أمي! نظرت إليه أمه بعينَيها السوداوَين، والطرحة السوداء على رأسها وعنقها وكتفيها وبطنها.
كانت واقفة بقامتها الطويلة لا تتحرك وصدرها العالي ثابت بحذاء رأسه، وضع رأسه على صدرها، ودفن أنفه بين ثدييها، أبعدته أمه بيدها القوية، فرفع رأسه إليها، ورأى عينَي أبيه الواسعتَين تلمع فوق بياضهما الكبير الشعيرات الحمراء كالثعابين الرفيعة، وسمع صوته الغليظ: العار لا يغسله إلا الدم.
اقترب من أبيه، وعيناه ثابتتان في عينَيه لا ترمشان، ارتجفت الشعيرات الحمراء فوق البياض الكبير (الإنسان يفزع إذا ما رأى عينًا مفتوحة تنظر إليه دون أن ترمش، معنى ذلك أنها تفحصه جيدًا لتراه على حقيقته).
تراجع أبوه خطوة إلى الوراء فسقط ضوء المصباح على وجهه، رفع كفه الكبيرة وأخفى وجهه، لكن الضوء كان يكشف جسده الطويل الضخم وهو واقف يسدُّ الباب، نفخ ذؤابة الضوء فانطفأت، وأصبحت الظلمة شديدة، الأرض كالجدار كالسقف، فتعثرت قدمه الكبيرة الحافية في العتبة المرتفعة بعض الشيء، لكنه استعاد توازنه، ووثب كالفهد على أطراف أصابعه المطاطية، ثم سار على مهل وحذر متخطيًا شيئًا يشبه البلغة (الحذاء بلغة أهل الريف).
صرخ حميدو بصوت الأطفال، لكن جسده لم يكن جسد طفل، وامتدت يده في جيبه الطويل كالجراب، وشدَّ الآلة المعدنية الصلبة، حدد النقطة في منتصف المسافة بين الدائرتين البيضاوَين تلمع فوقهما الخيوط الحمراء، كتم نَفَسَه وأغمض عينيه وضغط على الزناد.
فتح عينَيه ورأى الجسد المعوج مُمَدَّدًا تحت الشمس، عيناه الواسعتان مرفوعتان إلى أعلى وذراعه اليمنى متدلية إلى جواره تقبض على شيء، فتح حميدو أصابعه، فسقط القرش في كفه، أغلق عليه يده، وذهب إلى الدكان ليشتري تبغًا، اشترى قطعة من الحلوى ووضعها في فمه، استدار ليعود، لكن البائع طالبه بالقرش، فتح يده المغلقة فلم يجد شيئًا، أمسك البائع العصا وجرى خلفه.
كان جسده خفيفًا صغيرًا يطير في الهواء كأجساد العصافير، وكان من الممكن أن يسبق البائع (لو كان عصفورًا)، لكنه أحس فجأة (وكما يحدث في الأحلام) أن جسده أصبح ثقيلًا كأنه تحجر على شكل تمثال، تسمَّرت قدماه في الأرض، وثُبِّتَت ذراعاه بالحديد والأسمنت، والفخذان أصبحتا من الرخام، وكل فخذ شُدَّ إلى ناحية، ودُقَّ في كل قدم مسمار كالمصلوب، وارتفعت العصا الرفيعة من الخيزران في الجو، طويلة ورفيعة ومعوجة كالقوس، ثم هوت على شيء طري ساخن كاللحم الحي.
•••
حين فتح حميدو عينَيه، كان ضوء النهار يملأ الغرفة، وأيقن أن ما رآه لم يكن إلا حلمًا، فقفز من فوق الحصيرة وجرى إلى الشارع، كان أصدقاؤه من أطفال الجيران يلعبون كعادتهم في الحارة الممتدة أمام البيوت الطينية، يمسك كل منهم يد الآخر ويصنعون دائرة تلفُّ وتدور، وصوت غنائهم الحاد الرفيع يدور مع حركة أجسادهم في أغنية واحدة، لها مقطع واحد، يتكرر في دورة متصلة لا تنقطع:
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد،
سابته على الأنايا،
خطفت رأسه الحدايا،
حد يا حد يا بوز القرد.
ولأنهم يدورون ويغنون بغير انقطاع، فلا يمكن للأذن أن تعرف بداية الأغنية من نهايتها، ولا يمكن للعين أن تعرف بداية حركتهم من نهايتها؛ لأنهم أطفال، ولأن الأطفال حين يلعبون يمسكون بأيديهم بعضهم بالبعض على شكل دائرة مغلقة.
•••
ولكن لا بد لي أن أنهي القصة، فكل شيء له نهاية، لكن نقطة النهاية في هذه القصة لا أستطيع تحديدها، فالنهاية لا تنتهي بنقطة محددة، لأن النهاية في حقيقة الأمر غير موجودة، أو أن النهاية والبداية تتصلان في خيط واحد دائري من الصعب تحديد أوله من آخره.
ومن هنا الصعوبة في إنهاء شيء، وبالأخص إذا كان قصة حقيقية، أي قصة صادقة كل الصدق، دقيقة غاية الدقة، والدقة تقتضي من الكاتب أو الكاتبة أن يراعي كل حرف، وألا يهمل أي نقطة. إن نقطة واحدة قد تقلب كيان معنًى من المعاني، وبالذات في اللغة العربية، الذكر قد يصبح أنثى بسبب نقطة أو شرطة، والبعل يصبح بغلًا، والوعد وغدًا، وهكذا.
ومن هنا أهمية النقطة الدقيقة المُحددة؛ أي النقطة الهندسية، وبمعنًى آخر، لا بد من دِقة علمية في العمل الفني الجيد، لكن العلم يُفسد الفن، وهذا الإفساد هو بالضبط ما أردته في هذه القصة لتصبح جيدة، أو لتصبح حقيقية وصادقة صدق الحياة الحية؛ لأن الحياة قد تكون ميتة في بعض الأحيان، كالإنسان الذي يمشي على الأرض دون أن يعرق، أو دون أن يبول، أو دون أن ينبعث من جسده شيء فاسد، لا يمكن للإنسان الحي أن يحبس فساده في داخله، وإلا مات، وأصبح وجهه أبيض ناصع البياض، وجوفه عفنًا عفونة الموت.
خُيِّلَ إليَّ (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة)، أن طفلًا من الأطفال المُنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة، كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل عن الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجًا بشعلة كالشهب قبل أن يحترق.
وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه، لم يكن طفلًا ذكرًا، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى، فوجوه الأطفال كوجوه العجائز ليس لها جنس.
الوجه (للغرابة الشديدة) لم يكن غريبًا عليَّ، كان مألوفًا بدرجة أثارت دهشتي إلى حد عدم التصديق، فليس من المعقول أن يخرج الإنسان من بيته في الصباح ذاهبًا إلى عمله، فإذا به يصطدم بشخص آخر، ما إن يرفع وجهه إليه حتى يراه وليس أي وجه آخر.
أعترف أن جسدي ارتج، نوع من الذعر شديد، يشلُّ قدرة الإنسان على التفكير، ومع ذلك فكرت، لماذا يذعر الإنسان حينما يرى وجهه وجهًا لوجه؟ ربما هي الغرابة الشديدة، أو ربما هي الألفة الشديدة، حينئذٍ يختلط على الإنسان كل شيء، وتصبح الأشياء المتناقضة متشابهة إلى حد التماثل، فالأسود يصبح أبيض، والأبيض أسود، ومعنى ذلك أن يواجه الإنسان بعينَيه المفتوحتَين حقيقة أنه أعمى.