علي السوداني
أُحاول الآن نبشَ ذاكرتي البعيدة كي أعثر بواحدةٍ من ثنياتها على هذا الوجه المريب لكن من دون جدوى أو مثقال أمل .
لديَّ حشدٌ من الصحب يحملون نفس الإسم والملامح المغبّشة . قصَّ عليَّ واقعةً كانت حدثت قبل أربعين سنةً ، وكنا يومها نتشارك بموضع حربٍ غاطسٍ تحت الأرض سبعة أذرع كأنه قبرٌ مؤجل ولو بعد حين من استضافة قنبلة توزع جحائمها علينا نحن الأربعة بعدلٍ وامتنان . زرعتُ عيناي طويلاً بوجهه السكران المخادع ، لكنني لم أستطع التمييز بين هذا الكائن المشتول أمامي الليلة وبين أثاث الأرض الحرام ورطين اللغة الفارسية التي كنا ننصت إليها وهي تتسرب إلينا من خلف الساتر كما لو أنها بشرى موتٍ أكيد .
طلبتُ من النادل ممدوح القبطي زجاجة عرقٍ ثانية علّها تضرب الرأس وتفتح رازونةً لفك هذا الطلسم وتلك الأحجية ، ومع رنين أول كأسٍ منها صار وجه صاحبي يشبه تمام وجه صاحبٍ عتيقٍ من كائنات مقهى حسن عجمي . رشقتُهُ بابتسامة نصرٍ مبينٍ وقلت له أنت كريم الناجي صاحب دكان الفلافل البائس الذي يطلُّ على خاصرة ساحة الميدان ، وكان سكنك الذي يشبه مطعمك يقع بظهر جامع الحيدرخانة ، وكنت وصعاليك المقهى تحولونه الى حانة مدهشة تقدم الشراب الرخيص في تلك الأيام السود التي ينثقب فيها الجيب وتستعاد أعقاب السكائر من على الأرض مع بقايا تبغ ملوث كأنه روث حضيرة .
ضحك صاحبي ضحكةً عملاقةً فزّت معها الحانة من نعاس آخر الكؤوس وأنكر أنه هو بطل الحكاية التي ذهبت إليها الآن .
يا لنذالة هذه اللعبة اللعينة التي جعلتني أرشُّ الإحتمالات العشوائية في ليلةٍ باردةٍ كان صاحبي فيها مثل أرضٍ يبابٍ غير ذي زرعٍ ومعنى . نصبتُ له فخَّ الصمت وفي بالي وحلمي ومشتهاي أنّ الكائن سيكشف بعد ساعةٍ عن شخصيته ، أو قد يمنحني حكايةً قصيرةً ومنها سأدلف الى شاشة الذاكرة مسنداً بتفصيل كأنه مفتاح فضِّ بكارة اللغز ، لكن ذلك لم يحدث أبداً بعد أن صار هذا الصنم يتلذذ بتمريغ رأسي بسلةٍ من علامات التشتيت والتغبيش والتضبيب .
قبل أن يعلن الليل عن تلويحة الوداع ، قام الفتى الملتبس على حيله مانحاً المائدة الخاويةَ ابتسامةً ظلت محفورةً على جدارها حتى موعد مغادرة الأرض الجحيم .
نقلاً عن جريدة الزمان